لم تعدْ المحكمة الدوليّة هي الشغل الشاغل؛ وهذا حسن. لم تعد الصحف تكترث لمجرياتها باستثناء «جريدة الحريري» التي تحتاج إلى إبقاء الشعلة حيّة لأهداف الاستغلال السياسي المستمرّ. لكن يجب أن يكترث دافعو ودافعات الضرائب لأن تمويل المحكمة (في نصفها) يأتي من جيوبهم الخاوية. تستطيع أن تعترض (من دون تأثير، طبعاً) على الزيادات الضريبيّة لكن لا تستطيع أن تعترض على تمويل محكمة أنشئت بقرار إسرائيلي - أميركي مشترك. وقد مرَّ أكثر من عشر سنوات على اغتيال الحريري ولا يزال التحقيق مستمرّاً، وهي ستستمرّ كمطرقة فوق رأس حزب الله. مجموعة هائلة من المتهمين والمشبوهين: ينسى الناس أنه في مراحل مختلفة من حياة التحقيق (ثم المحكمة) وُجّهت أصابع الاتهام إلى سلسلة من الحلفاء في خندق واحد: منظمة «حزب البعث» في لبنان، و«القيادة العامّة»، و«الأحباش»، و«الحزب السوري القومي الاجتماعي»، وناصر قنديل، والضبّاط الأربعة، بالإضافة إلى محلّ «حدادة وبويا» في الضاحية الجنوبيّة (أفتى مروان حمادة مبكراً في هذا الموضوع)، قبل أن يستقر الاتهام على النظام السوري، قبل أن تقرّر الطبخة الأميركيّة - الإسرائيليّة بعد عدوان تمّوز أن اتهام حزب الله وحده هو الأجدى لها. المحكمة أداة من الأدوات التي ركّبتها الإدارة الأميركيّة، بإيعاز إسرائيلي، كي تتشكّل عناصر ضغط ذات شرعيّة دوليّة مزيّفة ضد أعداء إسرائيل على أنواعهم. وكان من المنتظر أن تُضاف إلى قائمة المتهمين في اغتيال الحريري الحكومة الكوريّة الشماليّة والفنزويلية لأن تسليط الأضواء على أعداء إسرائيل كان واضحاً في قرار التحقيق الأوّلي، وقبل أن تتشكّل المحكمة. والمحكمة بعد تشكيلها تعاملت في دعايتها السياسيّة مع مزيج هائل من أساليب الخداع والتضليل: هي بثّت شهادات متلفزة حيّة على الهواء كمحاولة في إضفاء شفافيّة على عملها، لكنها استعملت معلومات أساسيّة في التحقيقات لا تقول لنا مصدرها. وهي كانت تتحدّث في التقارير المتوالية بلهجة الواثق رغم تنوّع وتغيّر وجهة الاتهام. وفي الكتاب (شبه) الرسمي الأكاديمي عن المحكمة (بتحرير من أمل علم الدين ونضال نبيل الجردي)، يردُ في النص أن سوريا لم تسمح للجنة التحقيق بالقدوم إلى الأراضي السوريّة للبحث عن أدلّة، لكن رفض إسرائيل الطلب نفسه ورد في حاشية، لا في نص الكتاب نفسه.(1) كما أن النصوص القانونيّة للمحكمة لم تجد غضاضة في الاستشهاد بسوابق «قانونيّة» إسرائيليّة، بما فيها عمليّة خطف أيخمان من الأرجنتين. (2) ودول السيطرة الغربيّة تظنّ أنها ماهرة في خداع المُستعمَرين عبر لف استعمارهم وحروبهم وغزواتهم بقشور من اللغة القانونيّة - التي تصبح غالباً أسساً لقوانين جديدة عند المُستعمَرين - ولمصلحة المُستعمِرين. ألم تستورد دول الخليج لغة أميركا والعدوّ الإسرائيلي في محاربة الإرهاب، واستوردت حتى مفرداته وتعريفاته؟
كانت شهادة جميل السيّد في لاهاي مناسبة لاستذكار حقبة معاصرة من التاريخ اللبناني. وهذه الحقبة باتت تُعرف بحقبة «الوصاية السوريّة»، وإن كانت الصفة مُضلِّلة لأنها: ١) تخفّف من عناصر الموافقة الأميركيّة - السعوديّة على التلزيم السياسي للنظام السوري. ٢) تقلّل حجم الدور السياسي اللبناني فيها؛ والتشارك اللبناني كان في مجاليْ الفساد والقمع على حدّ سواء. والسيّد كان مشاركاً بدرجة قويّة في الحقبة التي كان فيها مستشاراً سياسيّاً نافذاً لإميل لحوّد، بالإضافة إلى قربه من النظام السوري، وهو أشار إلى مسلك الساسة في لبنان في استجداء تدخّلات من النظام السوري لمصلحتهم.
ظهور السيّد، خصوصاً بعد انتخابه نائباً، أوقعه في فخّ يصعب الفكاك منه


لكن حضور السيّد طرح أسئلة بقدر ما أجاب عن أسئلة قضاة المحكمة. وفي الشكل، السيّد فعل الشيء ونقيضه في المحكمة: هو أعطى شهادة في المحكمة التي أتت في سياق أدى به إلى السجن في مرحلة سابقة. والمشهد الهزلي في المحكمة كان عندما أبدى رئيس المحكمة «الأسف» (كادت دموعه أن تنهمر في تلك اللحظة) على مشهد استجواب السيّد لأنه لم يكن مهنيّاً، وانتهى الموضوع عند هذا الحد. ليست أميركا مثالاً محتذى في شيء، لكن المسار القانوني هنا - وهو صارم وظالم ومتشدِّد على الفقراء والضعفاء ويفرض كفالات ماليّة باهظة تزيد في عدد الفقراء في السجون - يرى أن المخالفات القانونيّة في مسار التحقيقات يوجب إعادة المحاكمة من أساسها. وهناك حالات أعيدت فيها محاكمات لمحكومين بالإعدام بسبب إخلال أقلّ مما استنكره القاضي في الجلسة التي استضافت السيّد. لكن شكل المحكمة الهزلي، والبعيد عن الرصانة القضائيّة، تبدّى فقط لو شاهدتَ شهادة السيّد وطريقة تعاطي رئيس المحكمة مع الموضوع المطروح أمامه، أي إن الاعتذار اللفظي من رئيس المحكمة، أو الاستنكار الأدبي لغياب المهنيّة في التعاطي مع متهم رئيس في قضيّة الاغتيال، لا يسمح بأي مراجعة قانونيّة لمجريات المحاكمة ولا حتى بمحاسبة الشخص الذي ارتكب ما رأى رئيس المحكمة أنه عمل «غير مهني». وقبلَ السيّد كلامه كأن الموضوع المطروح هو أصول التهذيب وآداب المخاطبة لا صدقيّة محكمة.
لكن، ما هو موقف السيّد من المحكمة الدوليّة التي برز انحيازها وعدم مهنيّتها في ساعات شهادته؟ لو أنه يشكّك في المسار الذي قاد إلى المحكمة، فعليه إذاً أن يشكّك بالمحكمة نفسها، لكنه يجمع بين تناقضيْن: التشكيك في مسار التحقيق الذي قاد إلى المحكمة وقبوله شرعيّة المحكمة، وحضوره إلى المحكمة هو قبول بشرعيّتها. إن أي قرار سيصدر عن المحكمة، وقد يتضمّن تأييداً لاعتقال الضبّاط الأربعة، سيتحمّل السيّد مسؤوليّته (جزئيّاً طبعاً) بإسباغه الشرعيّة عليها عبر ظهوره. إما أن يقبل شرعيّة المحكمة وإما أن يرفضها، ثم هل المحكمة في قراراتها وسريّتها التي لا يعلم إلا المنجّم مصادر معلوماتها تتمتّع بشفافية؟ وكيف عرفت المحكمة أسماء المتهمين ومواقعهم التنظيميّة أو الجهاديّة في الحزب خصوصاً أن هذه الأمور غير معلومة من العامّة؟ هل هناك شكّ في أن الحكومتيْن الأميركيّة والإسرائيليّة هما اللتان تزوّدان المحكمة بما لديها من تحاليل سياسية ومعلومات استخباريّة، حتى لا نتحدّث عن خط سياسي مرسوم منهما؟
وصدف أن صدر قبل أسابيع كتاب «انهض واقتل أوّلاً: التاريخ السرّي لاغتيالات إسرائيل الموجَّهة» للإسرائيلي رونين برغمن. (3) وفي الكتاب تفاصيل كثيرة عن خلق العدوّ لـ«جبهة تحرير لبنان من الغرباء» التي عاثت في لبنان تدميراً وفساداً وإرهاباً في أواخر السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات، وكان العدوّ ينفي صلته بها، لا، بل إن الإعلام الانعزالي والإسرائيلي كان يصرّ على أنها جبهة لبنانيّة مهمتها تخليص لبنان من «الغرباء» الفلسطينيّين (تخصّصت إذاعة «صوت لبنان» التي عملت تحت إشراف إسرائيلي مباشر على إعلان مسؤوليّة الجبهة بعد دقائق فقط من التفجيرات). وقد قتلت هذه الجبهة الآلاف من المدنيّين والمدنيّات في عمليّات تفجير بالسيّارات، وبغيرها، في أنحاء مختلفة من لبنان. هل هيئة الدفاع في المحكمة الموقرة ستطلب مناقشة تاريخ عمليّات اغتيال - وبالسيّارات المفخّخة - نفّذتها إسرائيل على مرّ العقود في لبنان؟ هل سلسلة الاغتيالات التي بات الضلوع الإسرائيلي فيها مؤكّداً، بما فيها آخر محاولة في أوائل هذه السنة في صيدا ضد كادر من حركة «حماس»، ستُضاف إلى ملفّات المحكمة كي يتم التحقيق فيها للنظر في إمكانيّة ترابطها مع اغتيال الحريري؟ طبعاً، لا.
المحكمة منذ إنشائها كانت تنطلق من طلب أميركي - إسرائيلي بالتركيز على أعداء إسرائيل دون سواهم في دائرة الاتهام. ويُسمح في المحاكم العاديّة التي تنظر في جرائم عاديّة أن يطرح الدفاع نظريّات مضادة لنظريّات هيئة الادعاء لكن هذه المحكمة ليست كما غيرها. إن محاكم السير في أميركا، وقد حضرتُ واحدة منها في قضيّة وضعتني وجهاً لوجه أمام شرطي في مدينة بركلي، لها من الجديّة أكثر من هذه المحكمة (مع أن القضاء الأميركي منحاز دوماً إلى الطرف الحكومي ضد الفقراء من المتهمين والمتهمات).
وإذا كانت المسؤوليّة الإسرائيليّة عن تفجير سيّارات مفخّخة في لبنان، وباعتراف مسؤولين إسرائيليين، كما في كتاب برغمن المذكور، الذي يعتمد على مصادر رسميّة، تفوق مسؤوليّة أي دولة أخرى عبر السنوات والعقود، فإن اتهام إسرائيل يصبح منطقيّاً أكثر بكثير من النظريّات المتسلسلة من الاتهامات (بما فيها تلك التي ساقها فريق الحريري في بداية التحقيق «الدولي» عندما اتهموا أحمد جبريل لأنه «خبير متفجّرات»، كما قال لي رضوان السيّد بعد أشهر معدودة من اغتيال الحريري). والنظر في الضلوع الإسرائيلي لا يعني أن العدوّ أراد التخلّص من الحريري لأنه كان يزعجه، لكن استثمار الاغتيال كان في مصلحة العدوّ.
إن ظهور السيّد، خصوصاً بعد انتخابه نائباً، أوقعه في فخّ يصعب الفكاك منه: هو أصبح الدمغة الرسميّة للمصداقيّة التي تنشدها المحكمة في ظل وضع لبناني منقسم. وظهور السيّد، الذي كان ضحيّة لمؤامرات وأكاذيب، لا تنحصر بالفريق المحيط بالحريري، مثل فارس خشّان وغيره من الأسماء التي يكرّرها السيّد، بل هي كانت ولا تزال من مسؤوليّة الفريق «الدولي» الذي أشرف على التحقيق والمحكمة، والذي لا يزال يرفض التحقيق في مسألة شهود الزور مثلاً. إن قضيّة إعداد شهود زور تكفي في حد ذاتها لنسف المحاكمة من أساسها والطلب إلى عقد محاكمة جديدة، بعد تحقيق جديد، هذا إذا كان هناك ذرّة من المصداقيّة والرصانة في هذه المحكمة التي تعاني من التسييس أكثر بكثير من المحكمة الجنائيّة الدوليّة التي تأتمر بأوامر تلك الدولة التي ترفض أن تصادق على بروتوكولها.
وأضفى حضور السيّد طابعاً استشراقيّاً على جو المحكمة. رئيس المحكمة يتصنّع الاستغراب أو الاستنكار بأن قائد المخابرات السوريّة في لبنان يجتمع مع رئيس جمهوريّة لبنان: أبدى رئيس المحكمة استفظاعه للأمر لأنه يأتي، كما أوحى، من دول «راقية» ترفض إقحام المخابرات في الأمور السياسيّة المباشرة. والسيّد ساهم في ردوده بتشكيل جو استشراقي على النقاش الدائر. والاستشراق ليس محصوراً بالنتاج الأكاديمي. هو يشمل فيما يشمل النتاج الإعلامي والثقافة الشعبيّة أيضاً. ولإدوار سعيد كتاب بعنوان «تغطية الإسلام»، وهو يتخصّص في نقد وتفكيك خطاب الاستشراق عن الإسلام في الإعلام الغربي. والثقافة الشعبيّة اللبنانيّة تعجّ بالعنصريّة وعقدة الدونيّة أمام الرجل الأبيض. وعندما كان رئيس المحكمة يتصنّع الاستفظاع للممارسات السياسيّة في لبنان ويسخر منها (متى أصبحت الرصانة القضائيّة تسمح بالسخرية والاستهزاء؟ لكن في هذه المحكمة فإن المجريات باتت أشبه بعمل استعراضي يُراد منه عمل دعائيّ ليستثمر فيه التحالف الإسرائيلي - الأميركي الكثير بعدما فشل في تحقيق أهداف عدوان تمّوز)، كان السيّد يتجاوب معه ويشرح له أن لبنان ودول العالم الثالث هي غير الدول «المتحضرة». لا، فالسيّد أبدى استغرابه من أن يفعل غربيّون فظاعات، ربطها في ذهنه وذهن المحكمة، بالعالم الثالث. وطبعاً، سَرَّ رئيس المحكمة هذا الربط وأمعن فيه في الإفراط في تصنّع الاستفظاع من تخلّف المشرقيّين العرب.
لكن بالنسبة إلى وجود رئيس مخابرات أجنبيّة مع رئيس الجمهوريّة: هل الجمهوريّة الفرنسيّة، مثلاً، لا ترسل مسؤول الاستخبارات الأجنبيّة في مهمّات سياسيّة وفي غيرها؟ ألا يستدعي موظفون في دول غربيّة - أقل رتبة بكثير من مرتبة رئيس الجمهوريّة الأميركيّة - مسؤولي الاستخبارات في الدول العربيّة، واحداً واحداً من أجل تقديم سلسلة من الأوامر والطلبات؟ ألم تكن آخر زيارة لوسام الحسن، مسؤول جهاز استخباراتي لبناني، إلى واشنطن تلبية لاستدعاء من ديفيد بترييس (مسؤول المخابرات المركزيّة يومها) وذلك من أجل تنسيق التآمر المشترك في تأجيج الحرب السوريّة يومها؟ لماذا لم يذكر السيّد هذه الحقائق التي تزيل من الفوارق المزيّفة بين ممارسات في العالم العلوي والعالم المتدني؟ عصيت على ذاكرة السيّد كل الخروق الغربيّة في بلادنا، التي كانت من أسوأ الخروقات التي تعرّضت لها على مرّ تاريخها، كما أن رئيس المحكمة نسي انخراط مخابرات غربيّة في أعمال سياسيّة، لم يكن آخرها تغطية المخابرات الأميركيّة لأكاذيب التحضير لغزو العراق في ٢٠٠٣.
كذلك، كشفت شهادة السيّد الكثير عن طبيعة النظام السياسي في مرحلة سيطرة النظام السوري التي كان السيّد ركناً من أركانها الأساسيّين. شرح عن علاقته مع رفيق الحريري، فتبيّن أن الأمور كانت أكثر تعقيداً مما نميَ إلينا في روايات ما بعد اغتيال الحريري. تبيّن أنه كان هناك فريق يعادي مشاريع الحريري الاقتصاديّة والاستراتيجيّة وفريق يناصره، وكان هناك فريق يقف في منزلة بين المنزلتيْن: لا يمكن حصر الخلاف بين لحّود والحريري فيما كان يظهر على السطح من خلاف في المواضيع الاقتصاديّة. وأحمد فتفت في الفترة التي سبقت اغتيال الحريري أكّد أن الخلاف بين لحّود وبين الحريري انحصر في الموضوع الاقتصادي، بينما بتنا اليوم نعلم الكثير عن أن الحريري قوّض كل مشروع المقاومة في لبنان منذ تسلمه السلطة في لبنان. وأشار السيّد إلى ذلك عرضاً قبل أن يمضي في الحديث عن دور الحريري في التسعينيات في التوصّل إلى تفاهم نيسان، كأن إنجازات المقاومة في تلك الحقبة (وما قبلها وما بعدها) تُحسب للحريري الذي كان إعلامه لا يخفي معاداته للمقاومة.

لم يحن بعد كتابة مرحلة الحريريّة، لكن يتسرّب عنها باستمرار ما يكفي للحكم عليها


والسيّد في شهادته كان ودودواً جداً عن المرحلة الحريريّة، لا، بل هو كشف عن علاقة وثيقة بينه وبين الحريري عبر وساطة صحافيّيْن اثنيْن، كانا ينقلان الرسائل بين الطرفيْن (طبعاً، ماذا تقول العلاقة عن الدور المهني لجهاز أمني يستعين بصحافيّيْن لنقل رسائل مع مرجع سياسي؟). والسيّد لا يزال مصرّاً على أن الحريري كان مع الطائف وليس مع القرار ١٥٥٩. لكن مستشار الحريري الأقرب، جوني عبده، حسم الأمر في السنوات الماضية وقال ما كان معلوماً: كل مَن يزعم أن الحريري لم يكن ضالعاً وموافقاً بالكامل على القرار ١٥٥٩ يكذب. هل من المعقول أن السيّد الذي كان يشرف على أكثر جهاز أمني فعالية لم يكن عالماً بدور الحريري في التحضير للقرار ١٥٥٩؟ وماذا ينفع الاستشهاد بمقابلة الحريري مع «السفير» في اليوم الذي سبق اغتياله وفيها أكّد التزامه بالطائف؟ ألم يكن الحريري ينتطق بألف لسان ولسان، وكان في كل موقع يقول الكلام الذي يناسب الحضور؟ إن الاستشهاد بالمواقف المعلنة للحريري لا يفيد لأنه تمرّس في الازدواجيّة، وكان يعمل في الخفاء.
وكشف السيّد أيضاً عن دوره في مساعدة جبران تويني في تمويل «النهار». وهذا الجانب من تمويل «النهار» لم يكن خافياً على عالم الصحافة اللبنانيّة، وقد حدّثني أنسي الحاج وكلوفيس مقصود عن أسلوب التمويل، وكيف كان غسان تويني يتصل بهذا الأمير أو ذاك، ثم يرسل جبران لجمع المال، متضرّعاً ألا يقتطع جبران لنفسه قسماً كبيراً من المبلغ (جبران لا يزال يُعتبر مدرسة في الصحافة اللبنانيّة، ربّما لأن تمويل «النهار» لم يكن يختلف كثيراً عن تمويل غيرها). لكن كيف يفسّر السيّد دور إدارة لبنانيّة متحالفة عضويّاً مع المقاومة (في حقبة لحّود) في مد يد العوْن لجريدة كانت تمتهن التحريض ضد المقاومة ومناصرة أعدائها الداخليّين والخارجيّين؟ هل السيّد كان ينتمي إلى الفريق الثالث الذي كان جسراً بين الحريري وبين خصوم الحريري في عهد لحّود؟
ودور السيّد لم يكن يقتصر فقط على مساعدة «النهار» (بحجّة أن تويني خشي سيطرة الحريري الكليّة على الجريدة رغم مزاعم وردت في سياق المحاكمة بأن النظام السوري أمرَ الحريري ببيع أسهمه في «النهار») بل اعترف بدوره الكبير في صياغة القانون الانتخابي لعام ٢٠٠٠ (الذي اعترض على تسميته بقانون غازي كنعان لأن ذلك يغمطه حقّه في المساهمة في صنعه). واعترض السيّد في شهادته على شهادة إميل لحّود (في كتاب كريم بقردوني «صدمة وصمود» (4) التي يرد فيها أن غازي كنعان استطاع أن «يستميل» جميل السيّد لمصلحة رفيق الحريري). لكن كيف ولماذا يساعد جميل السيّد الحريري ضد كل خصومه في بيروت ولبنان فيما كان هو من الفريق المحيط بإميل لحّود؟ ألم يكن فوز الحريري الساحق هزيمة لمشروع خصومه الاقتصادي والاستراتيجي؟
والذي تابع الحملات الانتخابيّة التي سبقت الاقتراع في ذلك الحين هاله فجاجة الدعاية السياسيّة لـ«تلفزيون لبنان» الرسمي والسخرية الفاقعة من رفيق الحريري ومن وزنه، والتي أتت بنتائج معاكسة، أو أن مخطّطيها أرادوا منها خدمة الحريري بطريقة توحي سطحيّاً بأنهم كانوا يحاربونه؟ وما علاقة تلك الحملات بجميل السيّد آنذاك، وهو الذي كان نافذاً في أكثر من قطاع في الدولة؟
لم يحن بعد كتابة مرحلة الحريريّة في تاريخ لبنان المعاصر لكن يتسرّب عنها باستمرار ما يكفي للحكم عليها بحمل إرث بشير الجميّل بالكامل. إن المحكمة الدوليّة لم تأتِ إلا استمراراً للحريريّة، لا بل الجناح الأميركي - الإسرائيلي منها. وصحيح ما قاله السيّد عن أن اللوبيات اللبنانيّة ليست مؤثّرة في قرارات الكونغرس أو قرارات حكومات الغرب بصورة عامّة. ليست اللوبيات اللبنانيّة في أميركا مثلاً (في مرحلة بشير الجميّل أو مرحلة ميشال عون بعدها، أو حتى في مرحلة ١٤ آذار التي لم تنتهِ فصولاً بعد) إلا أذرعاً للوبي الإسرائيلي. والتعاون بين اللوبيات اللبنانيّة واللوبي الإسرائيلي باتت مفضوحة مثل التحالف الوثيق بين اللوبي السعودي المتجدّد واللوبي الإسرائيلي. لكن المحكمة الدوليّة تقرّرت لأن عدوان تمّوز فشل في تحقيق الأهداف الصهيونيّة منه. ويظهر هزالة وسقم وتضليل وعدم مهنيّة المحكمة في كل مرحلة من فصولها، لكن هناك في لبنان - وفي الفريقين - مَن لا يريد أن ينهي عمل المحكمة وأن يرفع شعار رفض التمويل اللبناني، على أقل تقدير. إن تمويل المحكمة من اللبنانيّين لا يختلف عن قرار بتمويل التدخّل الإيراني في سوريا، وباسم كل شعب لبنان. كان يمكن لجميل السيّد، خصوصاً أنه عانى من ظلم المحكمة، أن يساهم في تقويض شرعيّتها، لكنه اختار فعل عكس ذلك لأسباب يمكن له وحده شرحها.

المراجع:
(1) راجع كتاب أمل علم الدين ونضال نبيل الجردي، «المحكمة الدوليّة من أجل لبنان: القانون والممارسة»، ص. ٥١.
(1) المرجع نفسه، ص. ٢٥٠.
(3) راجع مراجعة ريمي برولان (مترجمٌ بعضها إلى العربيّة) هنا: https://orientxxi.info/lu-vu-entendu/article2518
(4) كريم بقرادوني، «صدمة وصمود: عهد إميل لحّود، ١٩٩٨-٢٠٠٧»، ص. ١٧٩.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)