تؤدي «نظرية المؤامرة» دوراً بالغ الخطورة في سياق الحياة السياسية العربية المعاصرة... سواء في اتخاذها مشجباً يعلق عليه البعض كل أسباب المعاناة التي تعيشها شعوبنا في مختلف بلدانها الممتدة ما بين المحيط والخليج، أو في نزوع البعض الآخر لنفي أي تورط غربي في كل ما تواجهه هذه البلدان من كوارث ومآسٍ تدفع بها فعلاً إلى منحدر «التقدم إلى الخلف»!بالنسبة إلى القراءة التاريخية الممتدة من غزو الفرنجة (الذي يطلق عليه الغرب اسم الحروب الصليبية) في القرون الأولى من الألفية الثانية، إلى عصر الاستعمار الحديث والتقاسم الأوروبي لبلادنا عشية الحرب العالمية الأولى باتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور وإقامة الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، أو بتصدي هذا الغرب لكل محاولات النهوض القومي في المنطقة (من محمد علي باشا في مصر، إلى الحركة القومية العربية الحديثة في مشرقنا العربي). بالنسبة إلى هذه القراءة، يبدو التاريخ سلسلة متواصلة من التربص الغربي بهذه المنطقة لوأد أي محاولة نهوض جدية فيها.
فبغض النظر عن كل ما كانت تتضمنه هذه المحاولات النهضوية من «دود الخل»، أي من أسباب ضعف بنيوية في داخلها، يبقى أن السمة الشاملة لإحباطها هو التآمر الخارجي عليها. حتى إذا حاولنا أن نقرأ الأحداث الأكثر قرباً والتي أطلق عليها اسم «الربيع العربي»، نجد أن الدول العربية التي عصف بها هذا «الربيع» كانت محكومة بأنظمة فيها كل عوامل الانفجار الذاتي من فساد واستبداد وفشل ذريع في تحقيق التنمية ورعاية مصالح شعوبها (وكان الغرب يدعمها ويغذيها: فالاستبداد بزعمه استقراراً، والفساد تقاسم حصص ومصالح مع شركائه). لكننا نجد أيضاً أن الدور الخارجي (لهذا الغرب نفسه) كان العامل الحاسم في التحريض على الانفجار، ثم تغذيته سياسياً وإعلامياً ومادياً، وصولاً إلى الاستيلاء عليه كلياً والتحول به إلى وسيلة تدمير للبلاد التي تعرضت له، بدلاً من أن يكون وسيلة تغيير لبناء أنظمة بديلة أكثر تقدماًًًً وأوفر استجابة لمصالح الشعوب وأمانيها.
وإذا كان تشخيص هذا الأمر ملتبساً بعض الشيء بالنسبة الى مصر وسوريا بسبب تداخل عوامل كثيرة في التأثير على مسار الأحداث فيهما، فإن الأمر أكثر جلاء مع ما جرى في العراق وليبيا. ففي العراق الذي حصل التغيير فيه عن طريق غزو عسكري أميركي مباشر وضع البلاد من أقصاها إلى أقصاها تحت السلطة المطلقة للولايات المتحدة المفترض أنها «بلد الحريات والديموقراطية» في العالم! وكان مفترضاً بها، تبعاً لذلك ووفقاً لادعاءات قادتها، أن تعيد بناء النظام من القاعدة إلى القمة على صورتها ومثالها! بأن تنأى في عملية البناء الجديدة عن كل ما كانت تأخذه على النظام السابق (الاستبداد وعبادة الفرد وتبديد مصادر الثروة على العسكرة والتسلح والإنشاءات الاستعراضية وغير ذلك) لتقيم نظاماً ديموقراطياً مدنياً يتمتع بأعلى درجات الشفافية والنزاهة والعدالة ويمنح الشعب العراقي فرصة ديموقراطية حقيقية لحكم نفسه بنفسه.
لكن الأمر جرى (وعن عمد) بشكل معاكس كلياً... فبدلاً من الديكتاتورية الواحدة، جرى تفصيل النظام الجديد على مقاس عدة ديكتاتوريات طائفية ومذهبية وعرقية متنازعة، لا يجمع بينها كلها غير الشراكة في تبديد كل مقومات قوة العراق عن طريق التفتيت والاستبداد والفساد، وقد حصلت الدولة العراقية الحالية نتيجة ذلك على الجائزة الأولى (الدولة الأكثر فساداً في العالم)... وها هو العراق، بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على تغيير نظامه، يشكو من فقدان مقومات أساسية للحياة كالماء والكهرباء والصرف الصحي وحتى المشتقات النفطية، وهو البلد الثاني في العالم من حيث مخزونه النفطي والأول من حيث رخص تكاليف إنتاجه!
وفي ليبيا التي لا تقل ثراء ولا يتجاوز عدد سكانها الستة ملايين نسمة، وقد أطيح نظامها عن طريق التدخل المباشر لقوات الحلف الأطلسي، مر على الغزو أكثر سبع سنوات حتى الآن، وما تزال مزقاً موزعة على عصابات مسلحة تتمتع كل منها برعاية دولة أو شركة نفط أجنبية! وكان يفترض بدول الجوار الأوروبي «الديموقراطي» التي ساهمت مباشرة في عملية الغزو أن تبادر إلى بذل كل جهودها لإعادة بناء النظام الجديد على أسس ديموقراطية حديثة تتشكل منها قاعدة القيم التي تحكم أوروبا كلها. لكن ما جرى ويجري هو العكس تماماً!
على ضوء هذه القراءة، لا يعود مقنعاً أبداً ربط انفجارات «الربيع العربي» بالأسباب المحلية أو الداخلية لهذه الانفجارات، بل بالمآلات التي انتهت إليها. فالذي جرى، وفقاً لهذه النظرة هو عملية تدمير ممنهجة للبلدان التي كانت تشكل أو يمكن أن تشكل إمكانية نهوض (ولو كامنة) لهذه الأمة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج.
وهنا يواجهنا سؤال بالغ الجدية هو: ما الذي يدفع الغرب إلى مثل هذه العدائية للعرب؟ هل هو مجرد تأثير النفوذ الصهيوني فيه؟
تقديرنا أن الأمور تتجاوز ذلك إلى نظرة غربية ترى في هذه المنطقة مارداً مكوناً من كتلة بشرية تقارب النصف مليار نسمة تمتد على مساحة تشكل المنطقة الأكثر خطورة في الكرة الأرضية من حيث موقعها الاستراتيجي المتحكم بالمواصلات الدولية كلها تقريباً، ومن حيث امتلاكها أهم مخزون في العالم من الطاقات النفطية والغازية، إضافة الى مصادر الطاقة المتجددة. وقد أفصح عن ذلك بشكل بالغ الصراحة وزير المستعمرات البريطاني بنمرمان في مشروعه الشهير الذي أطلقه مع بداية القرن الماضي، داعياً الى إقامة كيان غريب يفصل الجناحين الآسيوي والأفريقي للبلاد العربية أحدهما عن الآخر لمنع قيام كيان عربي كبير في هذه المنطقة الحيوية من العالم!
ولا يكشف حقيقة هذه النظرة إلا مقارنتها بالنظرة إلى نهوض المارد الصيني في شرق آسيا. فقد حاول الغرب لمئات السنين أن يمنع ذلك المارد من النهوض الذي لم تتحه للصين إلا فرصة الثورة الشيوعية في فترة ضعف السطوة الغربية مع منعطف ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم ما وفرته الحرب الباردة بين المعسكرين من معطيات حماية أتاحت لبلد المليار نسمة أن يؤسس لنهضته الاقتصادية الحديثة ويتجاوز بها إمكانيات التدخل الغربي لإجهاضها. وهي نهضة لم يسلم الغرب بحصولها حتى الآن... فقد كشفت استراتيجيات الولايات المتحدة وسياساتها لفترة ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي أنها كانت تضع تطويق الصين واحتواء نهضتها في أعلى سلّم أولوياتها وكانت تتجه نحو تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي بعد أن تستكمل عملية تدمير روسيا (يلتسين)! لكن فشلها في تحقيق ذلك هو ما أحبط مشروعها للوصول إلى تدمير الانطلاقة الصينية (على الأقل حتى الآن!).
نعم إن استقلال البلاد العربية (وتقدمها وتعاونها ووحدتها) كان سيشكل تكراراً في هذه المنطقة الخطيرة من العالم لتجربة نهوض المارد الصيني في الشرق الذي يشكو منه الغرب، ولا يمكن أن يسمح بتكراره حتى لو احتاج الأمر إلى أكثر من غزو أميركي كغزو العراق أو إلى أكثر من «ربيع عربي» كالذي عصف بتونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن!
* كاتب سوري