في مقالٍ سابق («الأخبار»، 11 تموز 2017) قلت إن العناية الصحية هي «حقُّ المواطن ومسؤولية الجهاز الطبي والدولة»، وإن النظام الصحي، في لبنان، مُبَدَّدْ، لعدم وجود تناسقٍ بين كلٍّ من أجهزة الدولة، وإدارة المستشفيات، والقطاع الطبي، والقطاع التمريضي، وأرباب الأعمال. هذا التناسق يجب أن يكونَ هدفه الاستثمار في مشروعٍ وطني يضع آلِيَّةً للعناية الصحية، معتمداً على الكفاءات والخبرات الموفورة في الوطن، وعلى الإنجازات العالمية في هذا المضمار؛ مشروعٍ وطني هدفُهُ خدمة المواطن، بشفافية وبدون تمييزِ قائمٍ على الاعتبارات الطائفية، أو على مستواه الاجتماعي، أو الاقتصادي.والدليل على هذا التبدُّد ما نُشِرَ يوم السبت 9 حزيران 2018 في جريدة «الأخبار» بقلم الكاتبة رُلى إبراهيم عن «إنجازات» وزارة الصحة في عهد الوزير الحالي، وكيف أن المواطنين اللبنانيين «لا يزالون يعانون الإذلال نفسه على أبواب المستشفيات، ويستعطون الدواء من مكاتب السياسيين والسماسرة». وتحدثت الكاتبة عن أزمة الدواء، وخصوصاً أدوية الأمراض المستعصية، وكيف أرهق الوزير ميزانية الوزارة بهذه الأدوية، بتكليف الدولة 78 بليون ليرة إضافية على الميزانية المعتمدة، وهي 146 بليون ليرة ـــ هذه الزيادة لم تُصرف في خدماتٍ للمستهلك (المواطن)، لكنها ذهبت خدمةً لبعض شركات الأدوية ـــ وكيف عمد الوزير، وعلى حساب المواطن، إلى زيادة ربح الصيادلة من بعض الأدوية الرخيصة التي هي «من فئة الأدوية التي يبتاعها اللبناني في شكلٍ دوري» للتغلب على الألم وارتفاع الحرارة، الخ... وكيف أن المستشفيات الخاصة ترفض استقبال الفقراء الذين ليس عندهم تأمين صحي، رغم إعانات وزارة الصحة لهذه المستشفيات الخاصة، فيُضطرّ المريض إلى التوجه إلى مستشفيات الدولة، التي عَمَدَ الوزير، في الوقت نفسه، إلى خفض سقف إعانات الدولة المخصصة لها، وخفض عدد المرضى المفروض على هذه المستشفيات استقبالهم. هذا في الوقت الذي عمد فيه الوزير إلى زيادة إعانات بعض المستشفيات الخاصة التي يديرها أو يملكها أناسٌ لهم ارتباطٌ سياسي بحزبه. و«نظافة الكفّ» لا تتوافق مع عدم مساواة الوزير في التعامل مع المستشفيات والمؤسسات العلاجية، ومع تحيزه السياسي في تعيين مجالس إدارة المستشفيات الحكومية كمستشفى زحلة ومستشفى بنت جبيل.
هذا بعض ما يعانيه نظام العناية الصحية في لبنان، إذ هو نظامٌ مفتَّت وخاضعٌ للمصالح الفردية وللحسابات السياسية والكوتا الطائفية، بينما المفروضِ فيه أن يكون مشروعاً وطنياً. ولو كان هناك نظامٌ شفاف يأخذ في الاعتبار مصالح المواطنين، ويُجنِّدُ الكفاءات اللازمة لإدارته، لما رأينا مديراً يُعزل ليحلَّ محلَّه مديرٌ آخر لمُجرَّد أنَّ هذا ينتمي إلى حزب الوزير!
إعانات الدولة للمستشفيات، وإعاناتها للعيادات الخاصة، في المجتمعات الدولية المسؤولة والضابطة لميزانياتها، ليست منحاً مجّانية، وإنما هي عقودٌ لتنفيذ مهمات وبرامج محددة هدفها خدمة المواطن والتخفيف من إمكانية تعرضه للمشاكل الصحية وإشكالاتها. والعقود تحدد آليةً للتنفيذ، وآليةً للمراقبة، وتتضمَّنُ جدولاً بالعقوبات في حال التلكُّؤ في تنفيذ هذه البرامج. هذه البرامج والمهمات قد تكون:
ـــ الاهتمام بالفقراء الذين لا إمكانية لهم بالحصول على ضمانٍ صحيٍ، والذين يلتجئون إلى المستشفيات في الحالات الطارئة.
ــ تعميم الإضبارة الإلكترونية للمرضى في المستشفيات والعيادات الخاصة كضرورة لا بد منها في هذا العصر الذي يعتمد على التكنولوجيا في تخزين المعلومات وتنظيمها لأخذ العبر منها، ولتجنُّب تكرار التصاوير المحورية والمغناطيسية المكلفة، والتحاليل المخبرية التي لا تتغير من مختبرٍ إلى آخر.
نظام العناية الصحية مفتَّت وخاضعٌ للحسابات السياسية والكوتا الطائفية


ــ برنامج تعليميّ وتدريبيّ في المستشفيات الأكاديمية للأطباء الجدد المقيمين، المتخرجين حديثاً في الكليات الطبية، لإعدادهم لاختصاصات متعددة.
ــ توفير قسم للطوارئ في المستشفيات لمعالجة المرضى بالتساوي وبدون التمييز بينهم بناء على مستواهم الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، سواء كانوا شباباً أو كهولاً، وسواء كانوا إناثاً أو ذكوراً.
ــ الأبحاث الطبية التي ليس من الضرورة أن تنحصر في الأبحاث الطبية العلمية. فهناك ضرورة للاستثمار في أبحاثِ تطورِ العنايةِ الصحية في مجال الإدارة، وفي مجال الابتكار التكنولوجي بأبعادهما وتأثيراتهما الاقتصادية والتنظيمية والاستراتيجية.
ــ إيجاد برنامج من أطباء المَصَحّات Hospitalists الذين تُسندُ إليهم مهمة معالجة مرضى الأطباء الذين لا يريدون الذهاب إلى المستشفيات، إذ إنهم حصروا ممارستهم المهنية في عياداتهم فقط. وهذا أمرٌ أصبح شائعاً اليوم في العناية الطبية في الولايات المتحدة.
ــ التعاقد مع فريقٍ مختصٍّ في العناية الفائقة للاهتمام بالمرضى في قسم العناية الفائقة 24 ساعة في اليوم وسبعة أيامِ في الأسبوع، بشكلٍ متواصل لا انقطاع فيه.
ــ برنامج خدمة المستشفيات والعيادات في المناطق النائية عن العاصمة والمدن الكبيرة، وذلك من أجل إيصال العناية الصحية إلى كلِّ مواطن، وخصوصاً أولئك الذين لا يملكون وسائل نقل ولا سبيل لهم للوصول إلى طبيب.
فبناءً على أيِّ برنامجٍ تُمنَحُ إعانات الدولة للمستشفيات في لبنان؟ وما هي آليةُ مراقبةِ تنفيذِ هذه البرامج؟ فـ«المواطنون لا يزالون يعانون الإذلال نفسه على أبواب المستشفيات ويستعطون الدواء من مكاتب السياسيين والسماسرة». و«بعيداً عن الأدوية وحاجة كل المواطنين إليها، يبرز همٌّ آخر اسْمُه الاستشفاء وما يُرافقُهُ من صعوبة ومشقة يتكبدها المواطن الفقير غير المضمون أو الذي لا يحظى بتأمينٍ صحي...» فما «زالت المستشفيات الخاصة ترفضُ استقبال هؤلاء المرضى، مهما بلغت خطورة حالتهم...»، ووضع المستشفيات الحكومية مُزْرٍ بسبب نقص المعدات الطبية فيها. «فضرب المستشفيات الحكومية وتعويم المستشفيات الخاصة» تعزيزٌ للزبائنية الطبية والارتهان السياسي للزعيم الطائفي. فالوزير، أي وزير، قادرٌ على أن يُبيح لنفسه «توزيع اعتمادات (إعانات) المستشفيات على هواهُ وبالطريقة التي يراها مناسبة. وهناك شرهٌ ليس للوزارات «السيادية»، لا بل شرهٌ أكبر للوزارات «الخدماتية»، من قبل الأحزاب الطائفية. وليتها خدماتٌ للمواطن، ولكنها خدمات لملوك الطوائف لتوظيفها في ابتزاز الولاء السياسي». (راجع مقال إدمون صعب: «الدجاجات تبيضُ دولارات»: IM Lebanon، 20 حزيران 2018).
«النظام اللبناني هو النظام الوحيد بين دول المشرق العربي الذي لا يزال متمسكاً بنمط السلطنة العثمانية في بنيته السياسية ـــ الاجتماعية... (إذ) أنشأ العثمانيون تَراتُبِيَّتَيْن لتنظيم السلطنة: تراتبية الوظائف والمقامات، وتراتبية الملل والأديان... (فـ)المدينة كانت مقسمة إلى حارات... (و) إن كل طائفة ـــ نقابة فُصِلَتْ عن بقية الطوائف عبر إنشاء مؤسَّساتها الخاصة (في الحارة)... (و) مثَّلَتْ الطائفة وحدةً إدارية لا علاقة لها مع الطوائف الأخرى (أو الحارات الأخرى)... (وهكذا) بقيت المدينة العثمانية في المشرق العربي مقسمةً إلى حاراتٍ منعزلٍ بعضها عن البعض الآخر، وعجزت عن خلق روح التعاون والتضامن بين سكانها. فكل حارة تعيشُ حياتها المنفصلة عن جيرانها، وهي في خوفٍ دائمٍ من سيطرة حارة أخرى عليها، وغالباً ما لجأت إلى السلاح لمواجهة الحارات الأخرى... (و) خلال القرن الثامن عشر تداخلت التراتبيتان في المشرق العربي واندمجت المهنة بالملَّة...» (صفية أنطون سعادة: «تحجر البنية الاجتماعية ـــ الاقتصادية في لبنان»، جريدة «الأخبار»، 18 حزيران 2018). لم يتغير شيء منذ العهد العثماني ولا تزال الأمور اليوم كما كانت يومذاك. وحالة «الاستشفاء عن بُعْد» في الأطراف ليست أفضل. فما نراه اليوم هو فقراء ترفض أبوابُ الطوارئ في المستشفيات أن تستقبلهم؛ مستشفيات اكتظَّ بها قلبُ ومركزُ كلِّ مدينة كبيرة في لبنان. توزيعها جاء عشوائياً، ولكن طائفياً، ومن دون دراسة آخذة في الاعتبار حاجة المواطن وخدمته. وقد قلتُ في مقالٍ سابق («العناية الصحية حق المواطن ومسؤولية الجهاز الطبي والدولة»، «الأخبار» 11 تموز 2017 ) إن هناك، في المدن الكبيرة، زيادة في المستشفيات الصغيرة التي يملكها أطباء؛ مستشفيات تنقصها التجهيزات اللازمة للعلاج الطارئ والحالات الخطِرة التي تتطلَّبُ عنايةً مشددة. كما أن فيها نقصاً في عدد الممرضات الكفؤات. هذه المستشفيات هدفُها التجارة والربح. واكتظاظ المدن الكبرى بها وفقدانها في الأطراف أدّيا إلى اكتظاظ مراكز وقلوب المدن بالأطباء، الأمر الذي أدى إلى عدم قدرة بعضهم على إيجاد واردٍ كافٍ لإعالة أنفسهم وإعالة عائلاتهم بسبب المزاحمة وزيادة عدد الجالسين حول قالب الحلوى، فوقعوا في أحابيل المختبرات ومراكز التصوير الخاصة حيث عمَّت الرشوة.
كانت العادة، قبل عشرين سنة وأكثر، أن أكثر المرضى المصابين بالأمراض الخطرة، في الولايات المتحدة مثلاً، كانوا يقصدون المراكز الكبرى الموجودة في المدن الكبرى لمعالجة عللهم. فالمصاب بالسرطان كان يذهبُ إلىSloan Kettering Cancer Center. أما مريضُ القلب، فكان يتجه إلى مركز مايكل دبغي للأمراض القلبية في مدينة هيوستن. وقسْ على ذلك سائرَ الأمور الأخرى. أما اليوم، فهذه المراكز، وبسبب متطلبات السوق والتسهيلات المتوفرة بفضل ابتكارات التكنولوجيا، تذهب إلى الأطراف حيث يسكنُ المستهلك (المواطن) لتؤمِّن له ما يحتاج من عناية. وقد ذكرتُ في مقالٍ سابق أن الأمم المتحدة قدَّمت منحة للحكومة اللبنانية لفتح مراكز صحية في الأطراف، لكنَّ هذه المنحة، وللأسف الشديد، صُرفَتْ في أماكن أخرى. ولو أن الدولة اللبنانية قامت بواجبها بالاهتمام بالأطراف، لكانت أمَّنتْ للمواطنين خدمة جُلّى، ولكانت ساعدت على فتح دورة اقتصادية في الأطراف، ولكانت أمَّنتْ وظائف للأطباء الذين ليس لهم المورد الكافي في المدن الكبرى؛ وبالتالي لكان بابٌ من باب الرشوة والهدر قد أُغلِقْ، ولكانت خفَّفَت الضغط على المدن، وقلَّلتْ من ازدحام السير وحوادثه.
إلا أن النظام الطائفي الفاسد لا يرضى إلا بتوزيع المغانم. يتحدثون عن الدولة وبناء المؤسسات المدنية وهم ألدُّ أعدائها!
في كتابه «البجعة السوداء» يقول الكاتب والمفكر اللبناني نسيم نجيب طالب إن العالم قبل اكتشاف أوستراليا كان يعتقد بأن كل البجع أبيض اللون، إلى أن فُوجئَ بأن هناك بجعاً أسود! وفي كتابه «العَصيُّ على الكَسْر» أو «ضد الهشاشة» Antifragile يقول: كنّا نتصوّر أن العالم محكومٌ بجداول صممتها أبحاث الجامعات الأكاديمية ومفكروها والهباتُ الممنوحةُ للأنظمة البيروقراطية. وعليه، فقد كنّا نتوقّع، بفضلِ ذلك، أن الكون كله سيتَّبع نظاماً مبرمجاً مستقيماً معيَّناً، والحقيقة أن العالم برمته حَكَمَتْهُ الأحداثُ غير المتوقَّعة والخارقة. فالتطورُ في العالم لم يحصل وفقَ خطٍ مستقيم، وإنْ يكنْ متصاعداً، بل حَدَثَ على شكل قفزاتٍ عجائبية، ووفقَ برامج وشعارات تطورت وتغيرت مع الزمن (Kuhn’s Paradigm Theory). والقفزات العجائبية هي من صنع أفكار القياديين، في أي مجال كان، الذين يملكون الرؤيا والابتكار. همُ «الريحُ التي لا تُطفئُ شمعة، لكنّها، في الوقتِ نفسه، تؤجِّجُ ناراً»، فأين هؤلاء من أطباء وإدارييين ورجال دولة؟
* كاتب وطبيب، رئيس سابق لمنظمة الأطباء العرب الأميركيين