الانزعاج الواسع لدى أوساط أميركية نافذة من نتائج قمة هلسنكي لم يكن بسبب الضعف الذي أبداه ترامب تجاه بوتين - وهو أمر يحدث دائماً بين الزعماء – وإنما كان بفعل خشية هؤلاء من حدوث شروخ إضافية في الرؤية الاستراتيجية التي توحِّد المعسكر الغربي وتقود سياسته عبر العالم. القمّة أتت بعد جملة من التحوُّلات التي تسبَّبت بها سياسات ترامب المناهضة للمؤسّسة في الولايات المتحدة، وهي لا تقتصر على البعد الاستراتيجي بل تتمحور أساساً حول تغيير نمط التراكم الذي يقود سياسة التوسّع العسكري الغربي. النخبة المعترِضة على أداء ترامب (سواءً في هلسنكي أو في سواها) تعتبر أنَّ هذا التوجُّه الحمائي - الانعزالي سيضعِف موقف الولايات المتحدة أمام الخصوم الاستراتيجيين، وسيضعها في موقف محرج أمام حلفائها الآخرين في الغرب، هذا إن لم يتسبَّب على المدى البعيد ببروز قيادة بديلة تحلُّ محلَّها في قيادة هذا المعسكر على غرار ما تفعله ألمانيا في أوروبا.
الحفاظ على سياسة المواجهة
بالنسبة إلى هؤلاء فإنّ التقاطع مع روسيا كما يفعل ترامب هو سبب إضافي للشكّ في أهلية الولايات المتحدة لقيادة الغرب. حتى في ظلّ حصول تقارب بين روسيا وأقطاب رئيسية في المحور الغربي مثل ألمانيا يجب في نظرهم الحفاظ على سياسة المواجهة معها لأنّ التراجع عنها في هذا الظرف الذي يشهد تحوُّلات كبيرة على الصعيد الاستراتيجي يهدِّد ليس فقط تماسك المعسكر الغربي، بل أيضاً دوره في صياغة السياسات الدولية. سياسة المواجهة في أوكرانيا مثلاً حافظت على الموقع القيادي للولايات المتحدة، ودفعت بالحلفاء الآخرين إلى الالتحاق بها على رغم تعارضها مع مصالحهم الاقتصادية. صحيح أنها تشهد تراجعاً الآن في ظلّ تزايد الاهتمام بنزاعات أخرى على حسابها إلا أنها تبقى محدِّداً رئيسياً لفهم كيفية الاصطفاف الغربي على رغم التباينات الموجودة ضدّ روسيا. الخطورة كما تراها النخبة في هذا الملفّ أنّ التزام ترامب بالخطوط الرئيسية للمواجهة في أوكرانيا لا يتناسب وحجم التهديد الذي يمثّله الدور الروسي هناك على المصالح الأميركية. هو لا يعترف بضمّ القرم إلى روسيا كما تفعل معظم النخبة الأميركية، ولكنه يحمِّل الرئيس السابق باراك أوباما المسؤولية عن اقتطاع الروس لها بسبب ضعفه تجاه موسكو في سوريا. الترابط الذي يقيمه بين المسألتين ليس موجوداً فعلياً ولكنه يفعل ذلك ليضع الحجّة على النخبة التي تتهمه باستمرار بالتبعية لروسيا أو بالضعف تجاهها. بالنسبة إلى هؤلاء أوكرانيا أهمّ بكثير من سوريا لأنها مدخَل رئيسي للضغط على روسيا من خاصرتها الغربية، وهم يعتبرون أنّ ترامب لا يفهم هذه المسألة جيداً بخلاف أوباما وإدارات سابقة كانت تضع المواجهة مع موسكو في صلب اهتماماتها. ولذلك تبدو سياسة ترامب - في أوكرانيا - بالنسبة إليهم غير مفهومة بالمعيار الاستراتيجي، إن لم نقل أنها تصبّ في مصلحة روسيا على خلفية تقليله المستمر من خطورة الدور الروسي هناك.

اهتزاز الموقف تجاه روسيا
التراجع أمام الروس لا يقتصر في نظر معارضي ترامب على الملفّ الأوكراني، ففي سوريا أيضاً حصل تراجع كبير ولكنه بخلاف الملفّ الأوكراني لا يحظى باهتمام كبير لدى دوائر واسعة في الولايات المتحدة كونه نتاج نهج تعاقبت عليه أكثر من إدارة هناك، وليس محصوراً فقط بسياسات الإدارة الحالية. التسليم للروس هنا كان قراراً متخذاً منذ فترة تحت ضغط التحوُّلات الكبيرة التي شهدها الميدان لمصلحة موسكو وحلفائها، ولكن التوقُّعات في الولايات المتحدة كانت أن الانسحاب من الملفّ السوري سيحصل بالتزامن مع تصعيد في أوكرانيا يقود إلى إضعاف كبير لمواقع روسيا وحلفائها فيها، وهذا لم يحصل بالقدر المتوقَّع، أو بقدر يتناسب مع الخسائر الأميركية في سوريا. التقديرات هناك تقول أنّ حصول ذلك كان ممكناً في حال استمرار سياسة المواجهة مع الروس، سواءً عبر العقوبات على خلفية الموقف من أزمة أوكرانيا، أو من خلال الحفاظ على موقف غربي موحَّد تجاه روسيا تلعب فيه أوروبا دوراً رئيسياً إلى جانب الولايات المتحدة. التصوُّر الجيوسياسي المسبق هنا اصطدم بتحوُّلات أساسية قادت إلى وصول قوىً تعارض استمرار سياسة المواجهة وتدعو إلى جعلها متناسبة أكثر مع مصالح كلّ دولة داخل المعسكر الغربي. ليس ترامب وحده من يمثّل هذه القوى بل معظم التعبيرات السياسية التي ظهرت في أوروبا على خلفية انفجار أزمة الهجرة، وهي قوىً تستطيع بحكم تمثيلها الشعبي وضع فيتو على سياسات لا تعتبر أنها تخدم مصالح الطبقات التي تنتمي إليها. صعود هذه القوى أجبر حكومات قادت مع الولايات المتحدة سياسة المواجهة مع روسيا إلى مراجعة مواقفها، فبدأنا نسمع مثلاً عن تمايز ألماني واضح في ما خصّ الاستمرار بسياسة العقوبات، حيث لم تعد برلين تربطها كما كانت تفعل دائماً بالتزام موسكو باتفاقات مينسك الخاصّة بالتسوية في أوكرانيا. التراجع عن هذا الموقف الذي يعتبر مُحِدِّداً رئيسياً للسياسة الغربية تجاه روسيا -على الأقلّ منذ اندلاع الأزمة في أوكرانيا- وضع الولايات المتحدة في مأزق كبير كونها تعتمد على ألمانيا في تصعيد العقوبات ضدّ روسيا، وأجبرها على التعاطي بواقعية أكثر مع ملفّ العقوبات. محورية هذه الأخيرة في المواجهة تراجعت لمصلحة واقعية سياسية تقودها قوىً لا تضع التصعيد مع الروس على أجندتها وحين تصعِّد لا تفعل ذلك وفقاً لتصوُّر جيوسياسي مسبق. وعلى الأرجح أن هذا هو موقف الإدارة الحالية في الولايات المتحدة، إضافة إلى بعض القوى في أوروبا التي تدعو إلى جعل العلاقة مع روسيا متناسبة أكثر مع المصلحة الأوروبية، لا مع مصالح دوائر بعينها في أميركا.

خاتمة
ثمّة نتائج لهذه التحوُّلات استفاد منها بوتين في لقائه مع ترامب في هلسنكي، وهي التي دفعت معارضي الأخير إلى اتهامه بالضعف والانهزامية تجاه الروس. لكن ترامب لا يراها كذلك، بدليل أنه يعتبر العلاقات مع روسيا في ظلّ إدارته سيئة جداً، وأحياناً يدعو إلى تصعيدها أكثر، ولكن في النهاية الرجل أتى بأجندة واضحة لتغيير نمط قيادة الولايات المتحدة للعالم، وهذا النمط يفترض انخراطاً أقلّ لواشنطن في النزاعات حول العالم، وتنسيقاً أكبر مع القوى «المتورِّطة» فيها، أي مع روسيا. وفي مقابل هذا «التراجع» على صعيد النفوذ الدولي، يدعو إلى التركيز أكثر على الجبهة الداخلية، حيث يواجه جملة عراقيل من ضمنها مصالح النخب التي تبدو معارضتها له أكبر بكثير من دعوتها هي لمواجهة روسيا. بهذا المعنى فانّ تحميله المسؤولية عن التراجع أمام بوتين في العالم يتصل بالصراع الداخلي على السلطة في الولايات المتحدة أكثر منه بالموقف الفعلي تجاه الروس.
* كاتب سوري