كان لا بد من الانتظار أكثر من تسعة أشهر كي يصبح في الإمكان إطلاق عملية تشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة «تصريف الأعمال» الحالية. من خلال ذلك قدمت القوى السياسية، التي تتوزع مقاعد السلطة والمعارضة، مثلاً جديداً على عجزها عن إدارة شؤون البلد بالاستناد إلى معادلة السلطة والنظام القائمة. لقد تعطلت معظم المؤسسات. ما بقي منها بات مهدداً بشكل أكيد في مدى الأسابيع والأشهر المقبلة وما تحمله من استحقاقات سياسية ودستورية. هذا فضلاً عن الشكوك التي تحيط بشرعية المجلس النيابي، مصدر السلطات، والذي مدّد لنفسه من دون مسوّغ قانوني ودون سبب قاهر، ما جعل وسيجعل كل المؤسسات المنبثقة عنه، فاقدة للشرعية أو، على الأقل، مشكوكاً في شرعيتها.
لم يقطع هذا المسار التدميري سوى «ترياق» جاء من «جنيف»: جنيف الإيراني على وجه التحديد الذي دشن مرحلة جديدة في العلاقات الأميركية الإيرانية، بعد مرحلة مديدة من الصراع والتوتر (التي كانت تخترقها محطات تعاون ليست قليلة الأهمية كما حصل ويحصل في أفغانستان
والعراق).
يستحق جديد العلاقات الأميركية الإيرانية الكثير من الاهتمام والمتابعة. لكن يمكن القول، الآن، إنّ البلدين دخلا «مرحلة الحوار والتسويات، وربما، التفاهمات الواسعة والطويلة. لم يحصل ذلك من دون تنازلات من قِبَل الطرفين. سبب ذلك عجز الولايات المتحدة عن تطوير ضغوطها إلى مستوى ما ترجوه وتعمل له القيادة الصهيونية من دخول واشنطن وطهران في حرب لا تقوى على خوضها واشنطن لأسباب استراتيجية متنوعة. وسببه من الجانب الإيراني ما يعانيه الاقتصاد الإيراني من ضغوط نتيجة الحصار وبسبب المواجهة عموماً، وخصوصاً المواجهة التي تدور في سوريا منذ ثلاث سنوات، والتي تتحمل فيها إيران العبء الأكبر من حيث الدعم والإنفاق والمشاركة الشاملة.
يفرّق الرئيس أوباما بين «التمنيات والواقع». هو يقود بتصميم ووضوح سياسة الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد سقوط مشروع القطب العالمي الواحد الذي خاضه «المحافظون الجدد» في ولاية جورج بوش الابن الأولى خصوصاً. لم تُغيّر الولايات المتحدة واحتكاراتها الكبرى أهدافها، لكنها غيّرت أساليبها بالتأكيد.
ثم إن الولايات المتحدة تدير تقليدياً، بشكل مميز، سياسة مرنة، تتقدم فيها المصالح على كل الاعتبارات الأخرى. حصل، بالمقابل، تكيّف إيراني ملحوظ. نجاح الرئيس الإيراني حسن روحاني كان خطوة مفصلية. في آب الماضي، طالب الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية بمعالجة ملف العلاقات الأميركية الإيرانية من ضمن سبعة ملفات يجب أن يعالجها قبل وفاته! حصل ذلك بالتوازي مع تقدم الوساطة السرية العمانية بين واشنطن وطهران، والتي أدت دوراً ناجحاً سهّلته الحاجة قبل الكفاءة!
انعكس جديد العلاقات الأميركية الإيرانية على مجمل الوضع في المنطقة، وخصوصاً أنه تبيّن، كما هو متوقّع، أن للحوار تتمات، في تخطيط الأميركيين على الأقل، تتناول الملفات الأخرى في المنطقة: الملف الفلسطيني، ملف العراق، ملف «الإرهاب» وملف الأزمة السورية.
لم تتأخر قيادة المملكة العربية السعودية في الامتثال، بعد اعتراضات، للمشيئة الأميركية. وحدها القيادة الصهيونية تستمر في «الممانعة» مستندة الى موازين قوى في المنطقة وإلى تأثير أكيد في الكونغرس الأميركي بشكل خاص.
كان لا بد من أن ينعكس ذلك على لبنان الذي تتحرك قواه، المتشكلة في نظامه والمشكلة له، وفق صيغة فريدة من الارتهان للخارج والتعويل عليه والاستقواء به والتأثر برياحه وعواصفه. شكلت المملكة العربية السعودية عنصر الضغط الأساسي لوحدة «المصير والمسار» اللبناني السوري! تراجعت الآن، أو حتى انعدمت، احتمالات تغيير يفضي إلى إسقاط سلطة الرئيس بشار الأسد. بات من الضروري اشتقاق خلاصات، وتحديد أنصبة الربح والخسارة. كل ذلك في مناخات حوار متعدد الأطراف: الأميركي ـــ الروسي، الأميركي ـــ الإيراني ...
ليس مسموحاً في مناخات دولية وإقليمية كهذه تصعيد الصراع في لبنان إلى درجة المجابهة الشاملة: الحرب الأهلية. هذا ما عبرت عنه خطوة المملكة السعودية الأخيرة بـ«إجازة» تشكيل حكومة جديدة في لبنان!
تُترك التفاصيل للبنانيين لممارسة هوايتهم التقليدية في تحسين المواقع وفي حشد التأييد، أو بالمقابل، في تحديد الخسائر وتقليص الأضرار.
يمكن الجزم، أن اللبنانيين لن يستفيدوا شيئاً من تجاربهم السابقة. البلد معرّض الآن لمزيد من الانقسام والشلل والخسائر. سيحول تشكيل حكومة جديدة، متوافق عليها خارجياً، دون مزيد من الخسائر. لكنه لن يشكل، أبداً، خطوة إلى الأمام في المسار المطلوب لمعالجة الأزمة اللبنانية. سيستمر لبنان في دفع ثمن باهظ نتيجة الخلل القائم في علاقات اللبنانيين والمكرس في صيغة النظام السياسي القائم. سيستمرون أيضاً في دفع ثمن فئوية جامحة ما زالت تمعن في شرذمة البلد ونهب موارده وإضعاف سلطته لحساب الدويلات التي تترسخ وتتوسع على حساب الدولة والوطن والمواطن.
كالعادة، سوف تؤدي «كلمة السر» الخارجية إلى أن يبتلع البعض شعاراته ومواقفه واتهاماته. سينتظم الجميع في «حكومة جامعة» لن تفعل سوى تقاسم السلطة والمغانم من دون معالجة ملفات الأزمة التي تتفاقم باطّراد.
في مجرى ذلك، تضيع إنجازات ووعود كبيرة بدت يوماً ممكنة: إنجازات التحرير ومهمة تحويلها إلى جزء من ورشة بناء الوطن ومؤسساته وفق قواعد عصرية تقوم على المساواة والعدالة والحرية والديموقراطية.
إنجازات الحداثة والانفتاح وضرورة تحصينها ومأسستها في صيغة حكم ونظام يؤمنان بناء مقومات وحدة وطنية راسخة ومتماسكة تستطيع أن تشكّل سداً منيعاً في وجه المطبات والأزمات والأعاصير والعدوان.
لبنان اليوم واقع ما بين فكّي كماشة الفئوية الداخلية والوصاية الخارجية. لن يأتي الحل من الحكومة. يجب أن تنهض به القوى الاجتماعية العريضة التي تدفع الثمن، وفق مشروع إنقاذي تبلوره قواها السياسية الحريصة: بالمبادرة والتجاوز والعمل والمثابرة.
* كاتب وسياسي لبناني