ما إن انتهت حرب الجرود الشرقية الفاصلة بين لبنان وسوريا، التي أبعدت خطر الإرهاب المباشر عن حدود الوطن، حتى انطلقت عجلة تطبيق الدستور لتكريس السيادة الوطنية في وجه أي اعتداء أو تدخّل خارجي. فاعتمد النظام النسبي للانتخابات التشريعية، وأنجزت الموازنة بعد غياب طويل. وبانتخاب مجلس نيابي جديد انتهت حقبة التمديد، وأيضاً تطبيقاً للدستور، وبعد الاستشارات النيابية الملزمة والتكليف، واستقالة الحكومة القائمة، وفي انتظار التأليف... هل توقفت عجلة الدستور؟المكلف هو نفسه سعد رفيق الحريري، الذي فاجأ الجميع بدعم ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية وانتخابه، ومن عاد عن الاستقالة رئيساً للوزراء مؤكداً على الانسجام في الموقف السيادي الوطني. وهو الذي خاض الانتخابات النيابية من دون اكتراث لأي تحالفات أو نتائج، واكتفى بخطاب الخصومة السياسية مع حزب الله لقطع الطريق على كل مستغل لخطاب طائفي، وآخرها رفضه التمثيل السني من خارج حصته، وإصراره على تأليف لا تحكمه مهل. فهل معياره أنه المكلف دستورياً وأنه الأقوى في موقعه، كما هي الحال في الرئاسة الأولى والثانية؟
ولمّا كان المقام هو تشكيل الحكومة، وتطبيق الدستور هو المعيار في صون الشراكة وعدم الإلغاء، وتبوّء الرئاسات الثلاث من هو الأقوى في طائفته في تشكيل لحمة ميثاقية في وجه أي تدخل خارجي، وحيث لا قدرة لأحد على التعطيل الجدي كما أبرزت نتائج الانتخابات النيابية، وكحالة سيادية وطنية لا سابقة لها منذ اتفاق الطائف ومتضافرة في سياق دستوري وتوافقي بين الرئاسات الثلاث، وصولاً إلى تأليف حكومة قادرة على الحكم، فماذا يعيق تأليف هذه الحكومة متى اعتدلت دستورياً؟
وقبل الدخول بتحديد الحصص الوزارية المبنية على أسس الشراكة في الحكم، يجب تقويم موازين القدرة على التنازل لدى الجميع لتأمين أوسع مشاركة ممكنة. وفي هذا المقام، تصبح قدرة رئيس الوزراء هي مدخل هذا التقويم. فبعد التكليف، لا قدرة دستورية لأحد على فرض تشكيل حكومة تنقص من صلاحيات رئيس الوزراء، ولا يمكن استرضاؤه بما قد يتسبب له بتداعيات ميثاقية داخل طائفته. وبين ضمانة الصلاحيات ومنع التداعيات، يتم التوافق على تحديد هذه الحصة ووضع الضمانات العادلة لاستمرار هذه الشراكة الوطنية. فبعد مراجعة توزيع الحصص في الحكومات السابقة ما بعد الطائف، وبغض النظر عن اختلاف ظروف كل منها، يمكن تصنيف حصة رئيس الوزراء على شكل «النصف زائداً واحداً كحد أدنى» في موازين حكم في مقابل معارضة، أو حصة «الثلث زائداً واحداً كحد أدنى» في موازين حكم ثلاثي الأطراف، أو بحصّة بين الاثنين عند وجود كتلة وسطية أو كتلة لرئيس الجمهورية ضامنة للتوازنات وتمنع الاستئثار والإلغاء. وللتوضيح، سنسقط هذه الحصص على واقع الحصص الطائفية في الحكومة، في حكومة افتراضية ثلاثية الأطراف ومكونة من أربعٍ وعشرين حقيبة. بهذا سيحتاج رئيس الوزراء إلى أربع حقائب تضاف إلى كامل الحقائب السنية الخمس لتأمين الحد الأدنى المطلوب وهو حصة الثلث زائداً واحداً، وإذا انتقلنا إلى استكمال باقي حقائب النصف المسلم من شيعة ودروز تمثيلاً لمرجعيتها الطائفية أو كتلها النيابية، سيتضح أن الحقائب الأربع المضافة إلى حصة رئيس الوزراء جاءت من حساب النصف المسيحي، ما يستلزم توزيع الحقائب الثماني الباقية على الطوائف المسيحية بالنسبة والتناسب تمثيلاً لمرجعيتها الطائفية أو تمثيلاً لكتلها النيابية. فماذا عن حصة رئيس الجمهورية، ومن يحدد الطوائف التي ستتمثل بالحقائب الأربع المحسوبة على حصة رئيس الوزراء، وهل يمكن وضع معيار موحد لحجم الكتلة النيابية في مقابل حصتها الوزارية؟ أم أن هذه المرحلة السيادية بحاجة إلى استعمال معايير واقعية في التشكيل؟
فالفارق الوحيد في ظروف هذه المرحلة هو السيادة المتشكلة في مواقع الرئاسات الثلاث معاً، ومعياره الواقعي مرتبط بكونهم «الأقوى في طوائفهم»، والأحقية الطائفية هنا دستورية وميثاقية، والتوافق على اعتماده كمعيار قائم، وبذلك يستكمل كل مواصفات المعيار الحقيقي. وللمفارقة، هنالك من يطالب سراً وعلناً باعتماد معيار «الأقوى في طائفته» في تحديد حصة تمثيل الكتل النيابية وزارياً. فما هي مواصفات هذا المعيار الواقعية والأحقية والتطبيقية؟ فمن الناحية الواقعية، لا يمكن تطبيق نسبة موحدة لحجم الكتل النيابية على عدد الحقائب واحدة في جميع الطوائف، وما تشكله من عقدة درزية وأخرى سنية وحالة متشابكة مسيحية. ومن ناحية الأحقية الدستورية، فالنائب «يمثل الأمة جمعاء»، وينتخب على أساس تمثيل طائفي ومناطقي، وله الحق بجمع الوظيفتين في الموقع النيابي والوزاري، لكنه لا ينص على حق الكتل النيابية أو الأحزاب بالتمثيل الطائفي لا في مجلس النواب ولا في أي من مجالس الدولة الأخرى أو إداراتها، ولأن التمثيل حصراً لدى الطوائف، لا الكتل ولا الأحزاب. ومن الناحية التوافقية، أبسط الأمثلة على هذا الخلل، أن حصة الموارنة هي الأكبر في مجلس النواب، مقارنة مع باقي الطوائف، لكنهم متساوون بعدد الحقائب مع السنّة والشيعة في مجلس الوزراء، فمن الغير ممكن التوافق على معيار كهذا. وبالخلاصة، لا يمكن اعتماد هكذا معيار حتى لو افترضنا بأحقية تمثل الكتل النيابية. أما تداعيات اعتماد هكذا معيار ترتبط بوهم بفائض القوة، فإن اعتمد نيابياً فتداعياته داخل الطائفة الواحدة وخارجها، ويتسبب بانقسام عمودي بين الطوائف والمذاهب، فيوصل الجميع إلى الحائط المسدود. أما تداعيات فائض القوة عند الرئاسات الثلاث، فيبقى في حدود الانتظار أو الامتناع أو المطالبة، وهذا مقدور عليه بالتوافق.
بالعودة إلى سكة الحل المناسب في تشكيل حكومة العهد الدستورية، أود التأكيد أن كل الظروف الداخلية والخارجية تشير إلى استمرار عجلة السيادة الوطنية، رغم التهويل بالتدخل الخارجي والمردود عليه من قبل كل الدولة المعنية بالاستحقاق، والتهويل بالانهيار الاقتصادي وتفشي الفساد والمردود عليها بإقرار الموازنة، وغيرها من فرضيات ضعف القرار السياسي والمردود عليها بكل الإنجازات السيادية المذكورة. وهكذا يصبح التشكيل وشيكاً، والذي يبدأ بتوافق الرؤساء الثلاثة على حصة رئيس الوزراء من الحقائب، وذلك استناداً إلى مبدأ المثالثة في حكومة مكونة من ثلاثين حقيبة وزارية، والتي تسمح بالتنازلات لتأمين أكبر مشاركة سياسية ممكنة، وحل عقد التمثيل الطائفي، وتأمين الثلث زائداً واحداً كحد أدنى ضامن لرئيس الوزراء، وذلك بالتوافق على أكثر من شخصية معتبرة لا تزيد على أربعة وزراء ومن طوائف متعددة، لتمثل ضمانة استمرار الشراكة بالحكم وتمنع الاستئثار أو الإلغاء. وأخيراً، لا بد من التوضيح أن التنازلات الأساسية تبدأ عند رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون المؤتمن على الدستور والوطن، ولأن نصف الحقائب على عاتقه.
* كاتب لبناني