واحدة من صور الخيبات والانحطاط السياسي التي نعيش، تلك المتجلية في قدامى المقاتلين والفدائيين. إنها صورة قادرة على تكثيف الواقع الذي نعيش وتلخيصه من دون بذل جهد كبير لفهم هذه الصورة، وقادرة أيضاً على تقديم أسباب عملية نابعة من وقائع تاريخية تفسّر الحالة التي نعيشها اليوم في فلسطين. قد يسأل أحدهم: كيف لمثال واحد أن يعكس حالة وأن نقبل عبرها التعميم؟ سؤال مشروع جداً إلى لحظة فهم هذه الصورة. إنها تشبه كثيراً الصور التي تختارها وزارات السياحة في الدول لترويج السياحة في البلد، لكن على النقيض تماماً: الأمثلة الجيدة تلك التي يؤخذ بنقيضها!أولئك تربوا على فلسفة واضحة ودقيقة، مفادها أن الطريق إلى فلسطين يمرّ عبر فوهة بندقية، وأن الموت أو السجن أو الإصابة المؤقتة أو الدائمة أو حتى ظروف الحياة المريرة هي أسلوب لحياة الثائر الذي سيعود إلى فلسطين، وسيعيد معه اللاجئين إلى بلادهم. هؤلاء لم يكونوا بشراً بالمعنى العادي، بل كانوا حالمين، وليسوا حالمين فقط، بل يسعون إلى تحقيق هذا الحلم، وهم قادرون على تفسير أي فعل مهما كان أنه في سبيل هذا الحلم، حتى لو كان هذا الفعل «حرام، عيب، بالعرف العام». إنهم باختصار ثوار، وفي الوقت نفسه ليسوا من المستوى السياسي الذي نراه على الشاشات، بل في المستوى الميداني، وهم الأكثر تأثيراً في بناء الثورة في الميدان، في ذلك الحين.
في لحظة أوسلو، انشقّ هؤلاء إلى قسمين في اللحظة الأولى، وإلى عدة أقسام لاحقاً. القسم الأول أدرك أن المسألة كلها «فيلم هندي»، والآن مرحلة جديدة تحتاج إلى مهارات جديدة ومنطق عمل جديد، وسرعان ما استبدل بالبذلات العسكرية المرقعة بذلات حرس الشرف، وبدأ تنفيذ مشروع «الحلم» المؤقت وبناء الدولة على أي بقعة أرض حررت. القسم الثاني شعر بالخيبة، ولم يستوعب أن كل شيء انتهى (بح، خلصت اللعبة)، فظلّ بعضهم في الدول العربية ورفضوا العودة، لكن آخرين قبلوا العودة بمرارة، فيما ترك بعضهم كل شيء وعادوا إلى الحياة السابقة أو ما بقي منها، وأصبحوا سابقين.
بالعودة إلى القسم الأول، ظل بعضهم يشغل مناصب قيادية كبيرة حتى الآن، وهم غير قابلين للتبديل أساساً، وهذا يوضح جزءاً من الصورة، لكن بعضهم انتهى دورهم بانتهاء دور ياسر عرفات، وآخرون انتهى دورهم تدريجاً، وآخرون وجدوا على الأقل أدواراً تشريفية. أما في القسم الثاني، تحديداً الذين عادوا على مرارة، فماتوا بقهرهم وحزنهم، تحديداً بعد موت عرفات حيث كان يعني كل شيء لهم، وانتهى دورهم السياسي و العكسري حينذاك، رغم محاولات بعضهم للبقاء والحفاظ على الوضع والمستوى السياسي والعسكري في أجهزة الأمن التي بدأت تأخذ - بعد عرفات - عقيدة أمنية تختلف عمّا يؤمن بعض هؤلاء به. وهنا مربط الفرس.
منذ قدوم محمود عباس خلفاً لعرفات، سرعان ما بدأت حملة واسعة لنقل مجموعة من هذه القيادات واستبدال أخرى، وإحالة على التقاعد بالجملة، وأيضاً استحداث مؤسسات جديدة كمؤسسات التقاعد العسكري لاستيعاب فئات جديدة من المجتمع. كان ذلك جزءاً من المشروع السياسي الذي أتى به عباس وسلام فياض في البدايات. ولتحقيق هذا المشروع السياسي، كانوا بحاجة إلى عقيدة أمنية جديدة، أبرز معارضيها هؤلاء الذين لا تزال إسرائيل في رأسهم عدواً، ولم يكونوا على ممارسة يومية لهذه القناعة، لكن في لحظة الانتفاضة الثانية عادوا إلى موقعهم كمقاتلين، بل دربوا الكثير من جنودهم على هذا الأمر. لذا، كان لا يمكن تحقيق أن نتائج على الأرض من دون استبدال هذه الفئة، ليس فقط المستوى السياسي نسبياً، بل الأمني والعسكري، أو كما يصفها بعض رجال هذه الفئة «زلام عرفات»، مع أنّ من المهم التنبيه إلى أنْ ليس في هذا ترويج لعرفات.
المستوى الثالث من هذا الشرح، أنّ بعض هؤلاء ظلوا غير مقتنعين بالمشروع السياسي، وسرعان ما باشروا بتأسيس مجموعات عسكرية، كان أبرزها «شهداء الأقصى»، وبعضهم انخرطوا مع أجنحة مسلحة أخرى كـ«كتائب القسام» و«سرايا القدس»، في غزة تحديداً، وقد استشهدوا أو اعتقلوا في معظم الحالات. لكن كيف لهؤلاء أن يقبلوا الواقع السياسي حينما بدأت الأمور تختلف من حولهم في لحظة تاريخية كانوا قادرين فيها على التغيير؟ ولا ننسى أن هؤلاء قادة أجهزة أمنية في نهاية المطاف، وأن هناك آلافاً من الشباب المدربين بانتظار تعليماتهم، فلماذا قبلوا هذا الواقع الذي سرعان ما انقلب عليهم؟
الجواب ليس ماءً صافياً. إنه تحليل مبنيّ على وقائع وأحداث. إحدى الوقائع هي مستوى قرارات التقاعد ووتيرتها، التي كانت تصدر عن عباس بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة (نعم، لدينا هذا المنصب في فلسطين). في البداية، كانت قرارات التقاعد تأتي بالاسم، بتوصية ضباط من القسم الأول، الذي فهم اللعبة من بدايتها، فعباس ليس على اتصال مباشر مع هذا المستوى العسكري منذ البدايات، ولذا سيقبل توصيات المقربين من دون معرفة التوازنات الداخلية لهؤلاء منذ زمن طويل. الأمر الثاني أن تبديل المواقع القيادية سمح للعديد منهم بأن يقبل تقاعد الضابط فلان مقابل حصوله على موقعه والامتيازات في النهاية، ليُحال هذا الضباط نفسه بعد مدة قصيرة أيضاً على التقاعد. وفي مستوى آخر من العمل، فُرزَت الأجهزة الأمنية ضمن دائرة المقرب والأبعد، أي أن جهازاً كـ«الأمن الوطني» ظل عالقاً إلى مدة قصيرة نسبياً لتتغير ملامحه ومضمونه. أما جهاز كـ«حرس الرئيس»، أو قوة الـ١٧ كما كان يسمى، فكان من أول الأجهزة التي جرى تشكيلها بما يناسب المشروع السياسي الجديد، ليكونوا القوة الضاربة في حالة قيام أي جهاز بأي فعل لا يناسب المشروع السياسي، بل إنّ قوات «حرس الرئيس» دُرِّبَت منذ البداية لتكون حائط الصدّ الأمتن، وبُنيَت هيكلية الجهاز بصورة منفصلة عن بنية السلطة الوطنية عموماً، بإشراف مباشر في بعض الحالات من عباس وبعض الضباط المحيطين به.
ثمة سبب آخر منع هؤلاء من اتخاذ أي خطوة لتغيير الوضع القائم، هو قدر الامتيازات الاقتصادية التي حصلوا عليها، فسرعان ما أُحيلوا على التقاعد، بمعنى أنه صُرفَت سيارات وأتعاب ورتب إضافية وبعض الامتيازات للعائلة، الأمر الذي شكل قناعة للعديد منهم بقبول الواقع الجديد. المبكي اليوم، أن قادة الأجهزة الأمنية هم أساس المشروع السياسي، وليسوا قادة أجهزة أمنية فقط، أي أن البلاد، على أرض الواقع، محكومة بالمستوى السياسي والأمني منهم، وهم قادرون على تغييرها وعلى تحويل ظروفها بين ليلة وضحاها، وهم أيضاً مسيطرون على القضاء وجانب من الاقتصاد والرياضة وأطراف من الثقافة. إنهم يمسكون مفاتيح هذه البلاد: حكم العسكر.
المصيبة الأولى أن هذا العسكر مؤدلج، ويحمل فكراً وعقيدة ووجهة نظر سياسية، أي أنه ليس رجل أمن يعمل بالقانون، إنه رجل أمن يعمل بالفكر و التوجيه السياسي. لذا، إنّ مسألة العمل معه وتحسين قنوات التواصل معه غير منطقية أساساً، فهو يتعامل مع «حماس» كانقلاب على سلطته السياسية، ومع أي فعل مقاوم ضد الاحتلال على أنه «خيانة وضد المشروع الوطني»، وأن التنسيق الأمني مسألة لوجستية ميدانية وليست سياسية!
اليوم يمكننا أن نفهم بعض الأسباب والظروف التي أدت بنا إلى هذا الواقع الفظّ. إنه قبول آخرين خيارات ظنوا أنها جوهرية وأبدية. ويكفي ما يمكن أن نشعر به من أسى هائل يهشّم رؤوسنا حين نكتشف أن الأمر ليس حكراً على مستوى من العسكريين القدامى. إنه أسلوب عمل متجذر في العقلية السياسية الفلسطينية منذ مدة، ومتغلغل في عمق التجارب التنظيمية، وما يجري مع «حماس» اليوم أكبر دليل على ذلك، أو لنسر بالتاريخ منذ البداية، منذ «اللجنة العربية» التي هرولت إلى مؤتمر لندن، ثم إلى «منظمة التحرير» في الأردن ثم المنظمة في لبنان ثم تونس ثم مصر... ثم أوسلو.
إن الأمر ليس تنازلاً بمعنى الخيانة، إنه قناعة. فهؤلاء (الجيل الجديد من الأجهزة الأمنية) على إيمان كامل بأن ما يفعلونه هو للشعب الفلسطيني، وهنا المصيبة الثانية: واحد من عناوين الانحطاط وانسداد الأفق السياسي، أنْ لا مرجعيات للعمل الوطني، بل هناك حالات ونبضات غير متزنة الإيقاع وغير واضحة الرؤية، وهناك ميدان خفي من التوازنات والمصالح المعقدة والمركبة بين الاحتلال وقيادات فلسطينية في الداخل والخارج، وقيادات عربية أيضاً. إنها صورة شديدة التعقيد والتشبيك، هي فوضى، وسرعان ما ستنقلب لتكون ظاهرة وشديدة الدموية.
* كاتب فلسطيني