لم تتوقف الاحتجاجات الشعبية في محافظة البصرة جنوبي العراق، التي تتجدّد كل عام منذ سنوات عديدة. وكان أبرزها صيف عام 2011 الذي قُتل وجُرح فيه متظاهرون، وتلته تظاهرات كل عام تقريباً، حتى عادت هذا العام وانفجرت من جديد، ولكن بزخم أكبر، وغضب عارم، وممارسات عنيفة، أوقعت في أغلبها قتلى وجرحى، حيث استخدمت القوات الأمنية العنف والسلاح الحي لتفريق التظاهرات ومنع الاحتجاجات. كل الشعارات التي ترفعها الاحتجاجات في بداياتها تتمحور حول توفير الخدمات الاساسية: الماء والكهرباء والصحة والتعليم والوظائف العامة. وهي إذ ترفع هذه الشعارات المطلبية، تعرّي بها الحكومات المحلية والاتحادية، وفشلها وتقصيرها في أداء الوظيفة الأساسية التي تقوم عليها، كحكومة - مركزية أو محلية - تسهر من أجل مصالح الأهالي في المحافظة والبلاد. إذ لا يمكن تصوّر أن هذه النواقص في الخدمات تستمر طوال سنوات في بلد مثل العراق وثرواته، ولا سيما في محافظة البصرة، التي تُعَدّ بما تمتلكه أرضها أحد مصادر الميزانية/ الدخل المركزي الأساسية في العراق.استمرار احتجاجات أهالي البصرة خصوصاً، رغم كل ما شابها من ممارسات عنيفة وربما ليست مطلوبة قصداً، درس وطني ينبغي التفكير فيه والتعلم منه. إذ إن احتجاجات الأهالي المتواصلة، بعفوية في أكثر الأحيان، وسلمية في الأغلب الأعم، وبمطالب مشروعة، ولحقوق مهدورة وواجبات حكومات تزعم أنها جاءت لخدمة الشعب وتنفيذ وعودها الانتخابية بتوفير الخدمات وإشاعة الأمن والأمان والاستقرار في البلاد واحترام حقوق العباد وكرامة المواطنين، تستدعي التفكير في أنها تحتاج (أي الاحتجاجات) إلى تنظيم مبرمج وقيادة مركزية، وإدارة الاحتجاج على السلطات للضغط عليها في الإسراع في تنفيذ الخطط والمشاريع المرسومة والمطلوبة، وكذلك التشديد بقوة على محاسبة المُقصِّرين والفاسدين والمرتكبين لانتهاكات حقوق الإنسان والمواطنة العراقية.
تتضارب الوعود والإجراءات لحلّ تلك المشاكل المتفاقمة التي باتت مُستدعِية لا للاهتمام فحسب، بل ومحاسبة المسؤولين عن التقصير في تنفيذها. إذ لا يصحّ أن تعاني المحافظة من نقص الكهرباء في أشهر الصيف التي تصل أحياناً درجات الحرارة خلالها إلى أكثر من خمسين مئوية. ولا يمكن تحمل المناخ هذا في الأحوال العادية، فكيف في ظلّ تغير مناخي مستمر، وعدم توافر الماء الصالح للشرب، حيث إن المياه المتوافرة في المحافظة باعتراف الجهات الحكومية لا تصلح للشرب والاستخدام البشري، فضلاً عن ارتفاع نسب الملوحة في المياه المتوافرة، ما يضيف صعوبات جدية في استخدامها الطبيعي، من نتائجها المرة تعرّض آلاف المواطنين لحالات مرضية، زاد عليها عدم قدرة المستشفيات على توفير الاحتياجات واستيعاب الأعداد الكبيرة من المواطنين الذين أصيبوا بأضرار ملوحة المياه وتلوثها. وهي أمور محرجة فعلاً ومخجلة بشكل لا يوصف. وهذه وحدها قضية كبرى لا تمرّ من دون أن تعالَج كاملة، وأن تصبح مثالاً يُضرب عن الإهمال وتداعياته، وفي الحل ومميزاته.
تتحمّل الحكومة الاتحادية مسؤولية كاملة عن هذه الأوضاع ونتائجها


يضاف إلى النقص الحاد في المياه والكهرباء ارتفاع حجم البطالة في أوساط الشباب، ما يزيد في معاناة المواطنين والعوائل البصرية، ولا سيما المعتمدون على أبنائهم في توفير فرص العيش الكريم. وبالتأكيد، تتوازى هذه المشاكل مع تدهور الأوضاع الأمنية والسكنية والاقتصادية وغيرها، ما يخلق مناخات معقدة. والسؤال هو عن التقصير في الأداء، والفشل في الإجراء، والفساد في الأموال التي خُصِّصت لهذه القطاعات، والتبذير في الميزانيات المُخصَّصة والموضوعة لهذه الخدمات الأساسية دون تأثير ملموس فيها، بالرغم من حجمها العالي وحصتها الكبيرة من الميزانية العامة أو المحلية.
لا يمكن قبول شيوع الفساد والفشل في تطبيق الإجراءات المنتظمة واستمرارها طوال هذه الفترات والسنوات الطويلة في بلد كالعراق، المعروف بثرواته وطاقاته وإمكاناته الوافرة، التي كلها تثير أسئلة قائمة، وتساؤلات حادة تصعب الأجوبة عنها. وهي بالتأكيد لا تعوّض صرخات أهالي المدن المنكوبة، والدعوات المتصاعدة إلى إنقاذها قبل فوات الأوان. وبالتأكيد، تتحمّل الحكومة الاتحادية مسؤولية كاملة عن هذه الأوضاع ونتائجها وتداعياتها المُركَّبة، كما تتحمّل الحكومات المحلية مسؤوليتها فيها، والمطلوب ليس الإسراع في توفير الخدمات وحسب، بل الإسراع في المحاسبة والمحاكمة لكل الفاسدين والمُبذِّرين لأموال المحافظة والمقصِّرين في خطط إصلاحها وتطبيقها، ومشاريع توفير بنيتها الأساسية وتطويرها، بما يخدم المصالح الأساسية والاستراتيجية للمحافظة وجيرانها من المحافظات الجنوبية الأخرى.
قدّمت محنة سكان البصرة نموذجاً جديداً مُعبِّراً عن الأزمة العامة التي تورطت فيها الحكومات والأحزاب الحاكمة، وفساد أكثر المسؤولين في إدارة تلك المحنة وصعوباتها المتراكمة. وقد ظهرت في السنوات السابقة مظاهر صارخة للفساد الإداري والمالي، ولم يُعتبَر منها أو يُتَّخَذ ما يلزم بحقها، ما فاقم من الأوضاع الحالية. ولعلّ الهبّة الوطنية التي قامت بها جماهير المحافظات الأخرى، الشمالية والغربية والوسطى، في تجميع كميات كبيرة من قناني المياه الصالحة للشرب، ونقلها بالشاحنات أو عبر سكك الحديد أو وسائل النقل الأخرى إلى مدينة البصرة المنكوبة، تبيّن إمكانات حلول عاجلة وقدرات مساهمات فاعلة. ثم إن سرعة هذه المبادرات الشعبية الوطنية وتنوعها تعبير عن الروح الوطنية الجامعة لأبناء الشعب العراقي، في كل ربوعه ومواقعه ومنظماته. خلالها وفيها، يتجلى تداعي سائر الجسد الوطني بالسهر والحمى إزاء المحنة ومخاطرها.
عسى أن تكون هذه المبادرات الشعبية درساً وطنياً آخر لكل العراقيين، وخصوصاً المسؤولين الرسميين والأحزاب والاتحادات والنقابات المحلية والمركزية، وينبغي أن تقوم الجهات الحكومية بتيسير سبل هذه المبادرات وأعمالها، وإيصالها الى كل المواطنين المنكوبين في المحافظة، والإسراع في توفير الخدمات والمحاسبة القانونية. كذلك يُطلَب الوضوح والشفافية في ما اقتُرح من تشكيل لجان عاجلة وتخصيص أموال مباشرة، ولا بد من فتح الطرق والأجواء أو المعاملات والإجراءات الرسمية والإدارية لكل مبادرة شعبية وطنية، في أي شأن يخدم مصالح الشعب، ويقلّل من معاناة المواطنين، ويعالج كل النواقص والإهمال والخراب بقوة القانون والدستور والضمير الوطني.
*كاتب عراقي