ليس من المبالغات الحديث المتكرّر عن أزمة حكم في الولايات المتحدة. صاحبت فضائح عهد بيل كلينتون وجورج دبليو بوش أحاديث عن إمكانية اللجوء إلى إجراءات دستورية قد تطيح بالرئيس الأميركي. لكن الأزمة الحالية هي غير سابقاتها: هي شبيهة فقط بالتوتر السياسي والعجز الحكومي الذي رافق فضيحة «ووترغيت». الرئيس الأميركي في حينه، ريتشارد نيكسون، كان قد انتخب بأكثرية كبيرة في ولاية ثانية وقاوم قدر المستطاع تيار المعارضة الذي تنامى تدريجياً ضده. لكن نيكسون لم يقع أرضاً إلا عندما هجره حزبه، بعد أن عبر أقطاب الحزب الجمهوري في الكونغرس أمثال هاورد بيكر وباري غولدوتر عن فقدان ثقتهم بالرئيس. وقد حمل وفد رسمي من الحزب، ضم غوولدوتر، رسالة واضحة تطلب من نيكسون الاستقالة.لا يمر الرئيس دونالد ترامب بأزمة تقارب (بعد) أزمة نيكسون الذي افتضح أمر خرقه للدستور ومحاولته عرقلة مسار تحقيقات قضائية. كذلك فإنه حاول إقحام أجهزة الاستخبارات الخارجية ومكتب التحقيقات الفيدرالي لتعطيل التحقيق القضائي (أي إنه خرق مبدأ فصل السلطات) مما زاد في تفاقم أزمته. ترامب لم يصل إلى هذه المرحلة من الأزمة. فهو لا يزال يتمتع بتأييد كبير في قاعدة الحزب الجمهوري: نحو ٩٠٪ من قاعدة الحزب تؤيّده، وهذه أعلى نسبة مسجلة في تاريخ الاستطلاعات الرئاسيّة، وهي نسبة تفوق نسبة تأييد ريغان في حزبه في الثمانينيات. وكلما تنامت المعارضة الداخلية (الديموقراطية والجمهورية النخبوية، أي في أوساط الصحافة ومراكز الأبحاث والمسؤولين السابقين) كلما تمسكت القاعدة بترامب. لكن يمكن لترامب أن يعاني سياسياً إذا ما خسر تأييداً في أوساط البيض من حملة الشهادات الجامعية (التأييد الأكبر لترامب هو في أوساط البيض من غير حملة الشهادات الجامعية) لأن هؤلاء الأكثر نشاطاً ومشاركة (في الانتخابات أو في غيرها من مجالات العمل السياسي). لكن ترامب لم يصل إلى هذه المرحلة من فقدان التأييد مع أن الاستطلاعات التي استشهدت بها مجلة «إيكونمست» في عددها الأخير لحظت تناقص التأييد لترامب بين أوساط البيض من حملة الشهادات الجامعية، ما أثر في مجمل نسبة تأييد ترامب ونسبة الاعتراض عليه بين العامة.
وتأييد ترامب في أوساط الحزب الجمهوري في الكونغرس لا يزال قوياً؛ لا يجرؤ على نقده ومعارضته إلا المتقاعدون فيه (مثل رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كوركر). أما الذين يخوضون انتخابات تجديدية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، فهم الأكثر تأييداً ومناصرة لترامب لعلمهم أن القاعدة شديدة التأييد له. هذا لا يعني أن ترامب يستطيع أن يضع تأييد الجمهوريين في الكونغرس في جيبه. يمكن لبعض هؤلاء بعد ضمان الفوز أن يجاهروا بنقد كانوا يحتفظون به لأنفسهم، أو هم عبروا عنه في لقاءات صحافية لكن غير رسمية أو منشورة. ومعارضة الرئيس يمكن أن تنمو بسرعة، كما حدث في عهد نيكسون (تنامت المعارضة بعد صدور تصريحات نقدية عن أقطاب الحزب). لكن أقطاب الحزب الجمهوري، بمن فيهم المرشحون الذين هزمهم ترامب في الانتخابات الماضية، يخافون منه لأن سخريته الفاقعة ومهرجاناته الخطابية تستطيع أن تعبئ قاعدة الحزب ضد أشخاص معينين.
لم يسبق أن احتل سدة الرئاسة شخص مثل ترامب: ليس فقط بسبب عدم خبرته السياسية أو عدم تبوئه مناصب منتخبة بل لأنه يتعامل مع الحياة السياسية بطريقة غير مألوفة وخارج نمط السلوك السياسي التقليدي. كان يقال عن رونالد ريغان أنه رئيس «تيفال» (يستعملون في أميركا اسم «تيفلون» وهو الاسم التجاري المتداول في أميركا) لأن الفضائح والزلات والسقطات لم تكن تلتصق به. لكن ترامب فاق ريغان في مناعته، فهو تحدث عن خصوم له (في حزبه أو في الحزب المنافس) بلغة سوقية وبذيئة وتسرب شريط صوتي له يتحدث فيه عن النساء بطريقة مهينة جداً (اعترف بالشريط أنه خالف القانون لأنه اعترف بلمس النساء من دون موافقتهن) ولا يزال يحتفظ بشعبيته. لكن كل هذه الحوادث والسوابق مرّت في موسم الانتخابات من دون مضاعفات وكان كلما أمعن في الخطاب السوقي، زاد منسوب حماسة مناصريه. وهذا ما يجري الآن: كلما أصرّت المعارضة على ضرورة إقصاء ترامب عن الرئاسة، زادت شعبيته بين أنصاره.
إمكانية إقصاء ترامب من منصبه ليست سهلة. الآباء المؤسسون لم يضعوا أسس إجراءات محددة لإقصاء الرئيس


إن إمكانية إقصاء ترامب من منصبه ليست سهلة. الآباء المؤسسون لم يضعوا أسس إجراءات محددة لإقصاء الرئيس. ما يرد في الدستور القديم (الذي لا يتخلى النظام السياسي عنه مهما طال الزمن بسبب تعلق الشعب الأميركي وممثليه بالتقاليد وبخصوص حكم المؤسسين) صيغ بلغة مبهمة وعامة. هذا جانب من الطابع المحافظ جداً لأميركا: بقيت متمسكة بنفس الدستور على مدى ثلاثة قرون في فترة غيرت فيها فرنسا الدستور ست عشرة مرة. والدستور الأميركي فريد في أحكامه ويضع «التوازن» بين السلطات مبدأً هادياً لها، ما يؤدي حكماً إلى صراع بين السلطات، خصوصاً عندما يكون حزب الرئيس وحزب (أغلبية) الكونغرس مختلفين (الوضع يختلف في فرنسا لأن «المساكنة» السياسية نادرة الحدوث ولأن العلاقة بين السلطات تختلف عن الحالة الأميركية). والدستور الأميركي يسمح بمحاكمة وإقصاء الرئيس في حالات «الخيانة العظمى والتجسس والجرائم والجنح الكبرى». لكن لا يوضح الدستور الفارق بين الجرائم الكبرى والجرائم الصغرى أو الجنح الكبرى والصغرى. ومن المقبول في الأدب الدستوري الأميركي أن الرئيس لا يحاكم في قضايا جرائم عادية أثناء توليه الرئاسة، وأن محاكمته يجب أن تنحصر في الجرائم الكبرى. أراد الآباء المؤسسون الحفاظ على «هيبة» بالغة في شخص الرئيس، خصوصاً أنهم أخذوا أنفسهم على محمل الجد، وأسسوا لنظام فاقع في نخبويّته (الطبقية والسياسية). كذلك أرادوا وضع «طاقة» في السلطة التنفيذية ولم يريدوا أن يُسهلوا مهمة إقصاء الرئيس من قبل ممثلي الشعب الذين أكنّوا لهم احتقاراً متأثرين بكتابات أفلاطون وأرسطو السياسية.
لكن عملية إقصاء الرئيس من منصبه صعبة للغاية - عن قصد - ولم تطل إلا رئيسين في كل التاريخ الأميركي: في حالة أندرو جونسون في القرن التاسع عشر وفي حالة بيل كلينتون في القرن العشرين. تمر العملية في مرحلتين: المرحلة الأولى يتولاها مجلس النواب فقط، حيث يلعب دور «هيئة المحلفين العليا»، أي عندما تعرض الحكومة قضية ما على هيئة خاصة من المحلفين للنظر هل هناك من الأدلة ما يكفي للإدانة. والمرحلة الثانية يتولاها مجلس الشيوخ (الذي أكنّ له المؤسسون احتراماً أكبر لأنهم أرادوه نادياً للأثرياء المتعلمين).
وبعد أن تتقدم لجنة العدل في مجلس النواب بطلب مناقشة والتصويت على حكم «الإدانة» (يخلط الإعلام العربي وحتى الغربي في فهم الكلمة المستعملة في الدستور فتجري ترجمتها بكلمة «إقصاء» بينما هي إدانة فقط على مستوى دور مجلس النواب) وذلك بأكثرية عادية في اقتراع الأعضاء كافة. وإذا ما جاء الاقتراع بالإدانة تجري إحالة قرار الإقصاء إلى مجلس الشيوخ حيث تجري محاكمة دستورية للرئيس، وذلك بإشراف المحكمة العليا. تتحول قاعة مجلس الشيوخ إلى محكمة ويستعين الرئيس المتهم بمحامين للدفاع عن نفسه (كما فعل بيل كلينتون)، ويلعب أعضاء مجلس الشيوخ مجتمعين دور هيئة المحلفين. لكن قرار الإقصاء من سدة الرئاسة يحتاج إلى ثلثي الأعضاء (وهذا صعب لأن الأكثرية في مجلس الشيوخ، بحكم التوازن بين الحزبين، يكون قريباً جداً من نسبة الخمسين بالمئة وعليه إن الاقتراع لإقصاء الرئيس يحتاج أن ينال تأييداً من عدد من أعضاء حزب الرئيس نفسه وهذا شبه مستحيل حالياً بسبب حدة الانشطار السياسي في البلاد. أما إذا نال قرار الإقصاء نسبة الثلثين، فإن الرئيس يقصى من الحكم تلقائياً ويصبح نائب الرئيس رئيساً بعد أن يقسم اليمين الدستورية). لكن إجراءات المحاكمة تخضع لترتيبات وتفاصيل خاصة بكل محاكمة وهي عرضة للاتفاق بين أعضاء مجلس الشيوخ من الحزبين بمساهمة من رئيس المحكمة العليا. اقترب كلينتون من الإقصاء في ولايته الثانية لكن ما أنقذه أنه لم يكن هناك عدد كافٍ من أعضاء حزبه للانقلاب عليه للحصول على أكثرية الثلثين المطلوبة للإقصاء. والنقاش في حينه لم يكن حول ما إذا كان كلينتون قد خالف القانون، لا جدال أنه كذب وهو خاضع ليمين المحكمة، بل كان النقاش يومها حول ما إذا كان «الحنث باليمين» (كما نقول بالعربية) يرتقي إلى مرتبة «الجرائم والجنح الكبيرة» في موضوع يتعلق بكذب الرئيس حول علاقة جنسية بينه وبين متدربة في البيت الأبيض.
وعدم الوضوح في التعبير الدستوري الأميركي عن حالة إقصاء الرئيس تعود إلى المناقشات الدستورية الأولى عند سن الدستور الأميركي. أراد الآباء المؤسسون رئيساً قوياً لكن من دون سلطة مطلقة. والتوازن بين السلطات كان يكفي عند البعض لكن البعض الآخر رأى أن فترة الرئيس في الحكم والممتدة على أربع سنوات يمكن أن تصبح مطلقة ما لم يجر وضع ضوابط عليها (وكان هذا رأي جيمس ماديسون). كان الاتفاق على معاقبة الرئيس لارتكابه جريمة الرشوى أو الخيانة العظمة وهناك من أضاف كلمة «فساد» (على مشروع الدستور) لكن الكلمة مطاطة ولا تفي غرض واضعيها. اقترح جورج ميسون عبارة «إساءة الإدارة» لكن هذه أيضاً كانت غامضة في مرماها، وعاد ماديسون واقترح استعارة عبارة من القانون البريطاني حول «الجرائم والجنح الكبرى».
أما الطريق الثاني لإقصاء الرئيس عن الحكم، فهو الأصعب، أي طريق التعديل الدستوري رقم ٢٥. وهذا التعديل، حديث العهد، يعود إلى المرحلة السياسية القلقة التي تلت اغتيال جون كنيدي، وجرى إقراره في عام ١٩٦٧ (يحتاج التعديل الدستوري الأميركي إلى مرحلتين من الموافقة: المرحلة الأولى هو نيل أكثرية الثلثين عن التعديل في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، والمرحلة الثانية هو نيل الموافقة في ٣٨ مجلساً اشتراعياً من مجالس الولايات المحلية، أي أكثرية ثلاثة أرباع المجالس الاشتراعية المحلية). هذا التعديل الذي لم يستعمل بعد، ينص على أن لنائب الرئيس الأميركي وأكثرية أعضاء حكومة الرئيس الحق في إقصاء الرئيس عن الحكم إذا ارتأوا (مجتمعين) أنه لم يعد قادراً على «ممارسة مهام وسلطات المنصب» لأسباب صحية أو نفسية أو عقلية. هذه المادة لا تشرح الظروف بالتحديد، وهذه أصعب من الطريقة الأولى لإقصاء الرئيس، لأنها تحتاج إلى ثورة من أقرب المقربين إلى الرئيس ضده، وهذا نادر الحدوث. لم يتمرد أعضاء حكومة نيكسون عليه، وبقي هنري كيسنجر، مثل غيره من الوزراء، مطيعاً وموالياً لنيكسون حتى آخر لحظة من رئاسته.
أما كيف يمكن أن تؤثر هذه الحالات الدستورية في ترامب، فهذا ليس واضحاً بعد. من الأكيد أن الذي شكل القلق الأكبر عند الرئيس هو اعتراف محاميه الخاص أنه دفع من ماله بإيعاز منه شخصياً لممثلة إباحية كي لا تفصح عن علاقتها الجنسية بترامب قبل الانتخابات الرئاسية. لو أن ترامب دفع من ماله الخاص للممثلة لما كان في خطر المخالفة الدستورية. لكن إيعازه إلى محاميه بدفع مال خاص للممثلة يخالف القوانين الانتخابية المالية (التي لم تسمح في الانتخابات بإنفاق أكثر من 5400 دولار لكل فرد على الانتخابات). لكن تدخل ترامب في إنفاق كبير لمحاميه للتأثير في مسار الانتخابات يشكل مخالفة قانونية. لكن حتى لو أن ذلك أصبح مثبتاً قانوناً، فالسؤال الذي سيطغى عند محاكمة ترامب في مجلس الشيوخ - لو حدثت - هو: هل أن هذه المخالفة ترتقي إلى مرتبة «الجريمة الكبرى» التي تحدث عنها الدستور؟ سيجيب الديموقراطيون بالإيجاب فيما سيجيب الجمهوريون بالنفي.

تستطيع المحكمة العليا أن تعطل بطريقة ما مسار عزل ترامب في الكونغرس، وذلك يمكن أن يؤدي إلى أزمة دستورية


المخالفة الثانية تتعلق بعلاقة حملة ترامب الانتخابية بالحكومة الروسية. أجهزة الاستخبارات الأميركية التي تقوم بجهود لم تعد خافية ضد ترامب من أجل تقويض حكمه أملاً بإقصائه عن السلطة (لأسباب عدة سبق لنا الحديث عنها)، مصرة على أن الحكومة الروسية قامت على التأثير في الانتخابات الرئاسية الأميركية. والأجهزة قالت ذلك (باسم ثلاثة من أجهزة الاستخبارات التي يبلغ عددها سبعة عشر جهازاً) من دون أن تعطي دليلاً واحداً. والذي يصدّق أجهزة الاستخبارات الأميركية ذات التاريخ العريق في الكذب والتضليل والخداع والمواربة والتزوير يفعل ذلك لأسباب سياسية محضة، مثل حالة الحزب الديموقراطي وأجهزة الإعلام التقليديّة التي تمقت ترامب. إن المحقق الخاص، روبرت مولر، يستطيع أن يتقدم بطلب محاكمة لترامب بسبب علاقة بين حملته وبين الحكومة الروسية لكنه يحتاج إلى دليل في ذلك، وهذا لم يحدث بعد. إن القانون الأميركي دقيق في هذا الصدد وقول في هذا الصدد إن الرئيس الحاكم وحكومته هم وحدهم المخولون بالتعاطي في أمور السياسة الخارجية وإنه لا يحق لأي مرشح رئاسي التعاطي المباشر مع حكومة أجنبية، من دون إعلام السلطة التنفيذية، خصوصاً إذا كان التباحث بين الطرفين يتعلق في شأن داخلي أميركي. هنا، يمكن لمجلس النواب - لو أراد - أن يتقدم باتهام ترامب بالخيانة العظمى لو ثبت أمر تعاونه مع حكومة أجنبية ضد منافسته في الانتخابات.
لكن مصير ترامب لم يتقرّر بعد. لديه عدد من الخيارات والأساليب والحيل. فهو مثلاً يستطيع أن يعفو عن نفسه قبل محاكمته. وهذا خيار أشار إليه ترامب من قبل عرضاً. وليس هناك من نص دستوري واضح حول ما إذا كانت سلطات الرئيس التي تسمح له بالعفو تسمح له بالعفو عن نفسه. إن ريتشارد نيكسون، مثلاً، لم يعف عن نفسه واعتمد على سلفه، جيرالد فورد، لإصدار عفو عنه بعد أن استقال من سدة الرئاسة (هناك نقاش لا ينتهي بين المؤرخين إذا كان عفو فورد عن نيكسون أتى نتيجة ترتيب مسبق بين الرجلين مع أن فورد نفى ذلك حتى آخر ساعة من حياته). لكن العفو الذاتي لا يرضي الخبراء الدستوريين الذين يرون فيه هرطقة لكن القرار ليس لهم. إن الحكم في دستورية أي قرار من القرارات يعود فقط - بحسب تفسير الدستور منذ القرن التاسع عشر - إلى المحكمة العليا لا إلى سواها. وهذه المحكمة باتت راجحة نحو اليمين وهي تستطيع أن تسبغ شرعية دستورية على قرار ترامب لو أراد عفو نفسه بنفسه (قبل المحاكمة).
من المبكر إصدار رثاء لولاية ترامب. هذا رئيس غير عادي أتى في ظروف غير عادية. وهو يتجاوز التفسيرات الدستورية والأعراف السياسية التقليدية فيما يتمتع بمستوى كبير من التأييد في حزبه. والانتخابات التي ستجرى في ٦ تشرين الثاني/ نوفمبر المُقبل ستقرر مصير ترامب، لكن ليس بصورة حاسمة أو قاطعة. ليس مؤكداً أبداً ما إذا كان باستطاعة الحزب الديموقراطي انتزاع الأكثرية في مجلس النواب من الحزب الجمهوري، لكن لو حدث ذلك فإن ذلك سيسمح بمباشرة مبادرة إدانة الرئيس لأن ذلك لا يحتاج إلّا إلى أكثرية بسيطة. لكن الحزب الديموقراطي لا يتحدث الآن عن «إقصاء» الرئيس على لسان قادته؛ والحزب معروف بتردّده وضعفه وخنوعه أمام الشراسة الجمهورية السياسية. وشروع الحزب الديموقراطي بقرار الإدانة ثم الإقصاء سيقابل بمعارضة عنيفة (بالمعنى الحرفي) من قبل قاعدة الحزب الجمهوري. البلاد في حالة انقسام خطير وإقصاء ترامب سيزيل رادع تفجير صراعات في الشوارع، وقد بدأت بوادرها في حملة ترامب الرئاسية. ترامب ليس رئيساً عادياً وهو لا تردعه أخطار تفجير صراع أهلي. وإذا كان الحزب الديموقراطي يعاني من تمنع وخنوع في صراعه السياسي مع الجمهوريين، فإن الحزب الجمهوري يريد الفوز وبأي طريقة وبأي ثمن مهما كان مكلفاً على البلاد. لكن انتخابات نصف الولاية بعد أسابيع قد تغير في سيطرة دفة مجلس النواب لكن من المستبعد أن تغير في سيطرة حزب الأغلبية في مجلس الشيوخ، والأخير هو وحده الذي يمكن أن يقرر عزل الرئيس من منصبه.
لكن ترامب لا يستطيع أن يطمئن إلى مصيره من دون قلق على مسار المستقبل السياسي. هو طرح بصراحة أمام جمهوره في خطاب أخير له أخطار عملية العزل فيما لو نجح الديموقراطيون في الانتخابات المقبلة. وبناء على ما لدى المحقق الخاص مولر، الذي يقض مضجع ترامب منذ أن بدأ مهامه، فإن أعضاء الكونغرس سيقررون مواقعهم واصطفافاتهم. وهناك أعضاء في مجلس الشيوخ أكثر استقلالية من غيرهم - مثل سوزان كولنز عن ولاية مين. ولو أن ترامب يقرأ التاريخ لعلم أن المعارضة داخل الحزب الحاكم ضد رئيس يغرق تتنامى مثل كرة الثلج، وهذا ما حدث مع ريتشارد نيكسون مع أن فروقات هائلة تفصل بين الوضع السياسي الحالي وذلك الوضع في سبعينيات القرن الماضي، يومها كانت نوعية الحزب الجمهوري مختلفة تماماً، لم يكن الحزب تحت سيطرة المتطرفين بل كان خاضعاً لأهواء جمهوريي مدن الشاطئ الشرقي من البروتستانت. لكن ترامب يملك الشارع ويستطيع أن يحركه متى شاء، لو شاء. لكن المحكمة العليا ستوفر عليه مشقة خيار شارعي. هي ستفصل في مسألة ترامب لمصلحته، وتستطيع حتى أن تعطل بطريقة ما مسار عزل ترامب في الكونغرس. لكن ذلك يمكن أن يؤدي إلى أزمة دستورية وتعديل دستوري جديد يغير في طبيعة النظام السياسي. بقي ترامب أم عزل، لم يعد النظام السياسي الأميركي كما كان. وطبيعة تغير الفرص السياسية، على قول إدوار غيبن في «انحدار وسقوط الامبراطورية الرومانية»، هو الذي يدفن إمبراطوريات ومدناً في مدافن عادية.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)