هل تتمكّن موسكو، في سياق معالجتها مستقبل سوريا السياسي، من إعادة تأهيل النظام السوري؟ هل يحتاج ذلك إلى إخراج إيران من سورية؟ ما علاقة كلا الموضوعين بالتسوية الإسرائيلية ـــ الفلسطينية، وما يُروَّج عن صفقة كبرى يديرها الروس في الشرق الأوسط؟لقد بات واضحاً أن جانباً من اشتغال موسكو يتركّز على تعزيز الأمن الإسرائيلي. ويحتاج ذلك، من المنظور الإسرائيلي، إلى محاربة «التنظيمات الإرهابية» التي تهدّد أمن إسرائيل، وإبعاد القوات الإيرانية عن الحدود الإسرائيلية وضمان عدم عودتها، ومنح إسرائيل حرية التحرك في حال خالفت إيران التفاهم الروسي ـــ الإسرائيلي. وإذا كانت إسرائيل تقبل عودة أوضاعها الحدودية مع سوريا إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، فإنها تتعامل مع التغلغل الإيراني في جغرافيا الدولة السورية ومفاصلها من منظور يمكن أن يدفع الروس إلى مواجهة مباشرة مع القوات الإيرانية. وهذا ما تحاول القيادة الروسية تفاديه.
أما في ما يتعلّق بالأردن، فإنه يحاول معالجة أوضاع حدوده الشمالية، وأيضاً مسألة الفصائل السورية المسلحة داخل حدوده. وينطبق ذلك، وإن بأشكال وآليات ومضامين مختلفة، على العراق. وينظر، أي الأردن، إلى تسلم الحكومة السورية لمعبر نصيب كمخرج مساعد لتجاوز أزمته الاقتصادية. فعودة الجنوب السوري إلى الحاضنة السورية، كما أشارت إليه مصادر متعددة، تمّ في سياق التنسيق بين موسكو وإسرائيل، وأطراف أخرى دولية وإقليمية. وتزامن أيضاً مع تفاهمات سياسية تقضي بخروج كافة القوات الأجنبية من سوريا، وتوقف واشنطن عن الدعوات المطالِبة بمرحلة انتقالية وبرحيل الرئيس الأسد. هذا في وقت يدرك صقور الإدارة الأميركية أن سحب القوات الأميركية من سوريا سوف يجرِّد واشنطن من أي أداة للضغط إذا أخلّت موسكو بوعودها، أو عجزت عن الوفاء بها. ويرون أن بقاء القواعد العسكرية الأميركية في مناطق انتشار «قسد» يشكّل ورقة ضغط عسكرية، وأيضاً سياسية وجيوسياسية بوجه غير دولة. ولا يستبعد هؤلاء أن تتجاهل إيران رغبة روسيا في تقليص حضورها في سوريا، أو أن تلجأ إلى الاعتماد على قوى محلية موالية لها لعرقلة أي تفاهمات تتجاهل دورها ومصالحها. لذلك، تعوّل واشنطن على سياسة العقوبات التي بدأت بفرضها على إيران. وهو أكثر ما تخشاه القيادة الإيرانية التي تواجه نقمة شعبية من أسبابها: أزمة اقتصادية عميقة، وسياسات إيران الخارجية. ويتقاطع ذلك مع احتمال استمرار الضربات الإسرائيلية لمواقع وجود القوات الإيرانية في سوريا. وجميعها عوامل تنعكس على خيارات إيران في غير دولة عربية.
أما محافظة إدلب، فإنها ستكون مفصلاً سياسياً وعسكرياً على درجة عالية من الأهمية والخطورة في آن واحد. فتجاوز إشكالية الوجود المسلّح، والتداخل بين الفصائل المسلّحة، المعتدلة منها والإرهابية، يخضع، أكثر من أي لحظة، لتداخلات وتباينات وتناقضات إقليمية ودولية وداخلية. ونشير في السياق ذاته إلى أن آليات تجاوز الأوضاع الناشئة في مدينة إدلب يمكن أن تسرِّع من إيقاع التسوية السياسية، لكنها أيضاً يمكن أن تفاقم من تأزّم العلاقات بين الأطراف المتداخلة على مسار الأزمة السورية. ومن المتوقع أن تتجلّى تداعيات المعركة القادمة في إدلب على عدة مستويات: أوضاع المدنيين، إشكالية المسلحين الأجانب، ارتفاع أعداد المهاجرين، مسار التسوية السياسية، وأيضاً ملف إعادة الإعمار. وجميعها يرتبط بطبيعة العلاقة بين الأطراف الوازنة في الصراع السوري. ومن الممكن أن يكون لـ«قسد» دور ما في معركة إدلب. وذلك يفاقم توتر العلاقة بين أنقرة وواشنطن. نشير في السياق ذاته إلى أن التحالف الذي تقوده روسيا لإعادة مدينة إدلب إلى الحاضنة السورية سيكون أمام تحدٍّ لا يستهان به. ولذلك علاقة بالجانب العسكري المتشابك، وأيضاً بالتداخل والتناقض الدولي والإقليمي. فهل سيفضي التنسيق بين تل أبيب وموسكو وواشنطن إلى تحديد ملامح النظام الإقليمي انطلاقاً من سورية؟ أم أن معركة إدلب ستضع السوريين جميعاً أمام سيناريوات عسكرية جديدة ومختلفة يكون فيها لواشنطن وحلفائها قول مختلف؟ وماذا عن دور الأوروبيين ومصالحهم؟
من جانب مختلف، ما زالت مسألة الدولة الحديثة تشغل بال السوريين. في المقابل، فإن النظام السوري يشتغل حتى اللحظة على صهر الدولة في بوتقة السلطة. فتحويل الدولة إلى دولة سلطة، إضافة إلى كونه مَنَع السوريين لعقود خَلَت من وضع أسس الدولة الحديثة، سيحدّ من قدرتهم على إنجاز أي تغييرات سياسية ملحوظة. ويتقاطع مع ذلك ويُفاقِم من تداعياته الكارثية استمرار تضارب سلوك الدول المسيطرة على تفاصيل الملف السوري، وتقليص سيادة الدولة على القرار السوري. وجميعها يدلّل على أن شكل الدولة السورية سيكون وفقاً للمعطيات الراهنة كياناً متعالياً على الشعب ومنفصلاً عنه. بالتالي، لن يكون الشعب عنصراً تكوينياً في الدولة وللدولة، ما يعني أن دوره في بناء مستقبل سوريا السياسي سيكون هامشياً. أما جغرافياً، فإنها ستبقى سائلة إلى حين اتضاح المساومات الإقليمية والدولية.
في نموذج للدولة كهذا، سيستمرّ التضييق على النشاط السياسي المدني والإعلامي. ودلالات ذلك تعزيز دور الأجهزة الأمنية، والاستمرار في تحميل الناشطين والمثقفين مسؤولية الأوضاع السورية الراهنة. ويُفاقِم من تلك المخاطر اشتغال موسكو، بالتنسيق مع أطراف أخرى دولية وإقليمية، على تمكين السلطة بتركيبتها الراهنة من حكم السوريين، والتحكّم في ملف إعادة الإعمار، ما يعني زيادة إفقار السوريين، وتقاسم الهيمنة على الموارد السورية وعلى السوريين المقهورين مع سلطة تدار من الخارج وتستقوي به، ومع رموز الفساد الذين مكَّنوا سطوتهم مرحلة الحرب، وتحولوا إلى أحد مكونات السلطة. وقد يكون أخطر ما في الموضوع هو فرض ثقافة سلطة المنتصر ولغته على السوريين. وجميعها يشير إلى أن المرحلة القادمة لن تشهد تأسيساً لدولة حديثة قوامها حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية وإطلاق الحريات.
فأطراف الصراع، الداخليون منهم والخارجيون، يدركون مدى تناقض مصالحهم مع وجود دولة وطنية ديمقراطية مدنية مستقلة يتمتع فيها السوريون بحقوق المواطنة. في المقابل، فإن إدراكهم لتمزّق القوى السورية الحيّة، وبالتالي خروجها عن سياق الفعالية السياسية، يفتح أمامهم المجال واسعاً للعبث بالزمن السوري لإنتاج أوضاع تؤمن استمرار مصالحهم. وستكشف عن ذلك مفاوضات المرحلة المقبلة حول الدستور، وإعادة الإعمار، وقضايا تتعلق بطبيعة الدولة وبنيتها، وأيضاً بتركيبة السلطة. واللافت أنه يمكن أن نكون من التجارب النادرة التي يُصاغ لها دستور مبني على مصالح قوى خارجية، وبما يتناسب مع أوضاع إقليمية، وبأدوات محلية لا تمثّل فعلياً الشعب السوري، الذي يُعدُّ صاحب الحق في صياغة مستقبله. وذلك يستوجب إجماع السوريين على توافقات وطنية تقطع مع إملاءات دول جيوشها تسيطر على أجزاء واسعة من سوريا.
* كاتب وباحث سوري