التعاطي السعودي الرسمي مع جريمة قتل جمال خاشقجي يقترب كثيراً من لعبة الأطفال الأشهر شعبياً التي تتخذ مسمّيات كثيرة بحسب ثقافة كل بلد، وهي المعروفة بـ«الغميضة» أو «الغباية» خليجياً، حيث يطلب من أحد الأطفال المنتخب من بينهم إغماض عينيه ريثما يختبئ بقية الأطفال، ثم يناديه كل طفل من مكان ليس بعيداً لاكتشاف مخبئه، فيوهم كل طفل نفسه بأنّه لن يكتشف، ولكن لا يلبث أن يقع في يد الطفل المنتخب.هي الجريمة الأشد وضوحاً في تاريخ الجريمة في عصرنا الحديث، وهي الأكثر شهوداً، بما يصعّب مهمة «التسوويين»، لأن كل تسوية تتطلب دون ريب تشويهاً للحقيقة. ومن سوء طالع أولئك الذين انخرطوا في صفقة التسوية أنهم الأقل ذكاءً، والأكثر جشعاً، سواء السعودي أو الأميركي أو حتى التركي، برغم من أن الأخير سيكون الخاسر الأكبر في أي تسوية، وإن جنى «حفنة مليارات»، لأنها ستكون على حساب صورته السياسية، وصدقيته الأمنية والقضائية، ورمزيته التاريخية والأيديولوجية.
فائض الزخم السياسي والإعلامي في قضية خاشقجي كان له تفسيران متنافران: تفسير سعودي يرى فيها «مؤامرة كونية» على المملكة، وتفسير «الآخرين» بتشكيلاتهم السياسية والأيديولوجية كافة يرى أن خاشقجي «أكل الجو» الإعلامي والسياسي على المستوى الدولي على حساب جرائم أخرى كان النظام السعودي ضالعاً فيها مثل اليمن.
الذي أكسب جريمة مقتل خاشقجي الاهتمام الشعبي العالمي، ليس فقط بشاعة طريقة تنفيذها، ففي كل يوم تقع عشرات أمثالها في اليمن الذي يتعرض لعدوان سعودي ـ إماراتي منذ نحو أربع سنوات، بل لكونها الجريمة «الكاشفة». خطيبة خاشقجي نعتته بأنه بمثابة قربان افتدى به حرية بقية المواطنين والمعارضين على وجه الخصوص، فيما نبّه ناشطون دوليون إلى أن الجريمة كانت بمثابة رسالة إلى المعارضين في الخارج، وزاد آخرون عليها بأن الرسالة تتجاوز المعارضين إلى كل أصدقاء وشركاء السعودية في الخارج.
في حقيقة الأمر، إن مقتل خاشقجي فجّر خبايا عهد سلمان وبلاياه، ولا سيما لناحية تفويضه شؤون الدولة إلى ابنه الذي عمل منذ البداية على إعادة تشكيل السلطة والمجتمع لتكون الدولة مؤهّلة لحكمه لها مدة نصف قرن من الزمن.
الجميع تجاوز الحادثة بعد الساعات الأولى من وقوعها، وبدأ فتح الحساب العسير لابن سلمان من خصومه الكثر في الداخل والخارج، وهذا ما جعل أنصاره يصفون التعاطي مع الجريمة بـ«المؤامرة الدولية على المملكة». في حقيقة الأمر، كانت الجريمة اختباراً نادراً واستثنائياً لسياسات ابن سلمان على مدى السنوات الأربع الماضية. وكانت مناسبة لاكتشاف خصومه أيضاً، وكذلك مفاعيل الأموال الطائلة التي أنفقها على صورته في الغرب. لا بد أنه توهّم في لحظة ما بأنه أحد عظماء التاريخ المعاصر، ولكن مشهد القافزين من قاربه الغارق أقنعه في نهاية المطاف عكس ذلك تماماً، فخفض سقف توقعاته وأنه «ليس مصلحاً، بل يبحث عن مصلحة شعبه» كما قال لوكالة «بلومبرغ» في 5 تشرين الأول الجاري.
اعتنق ابن سلمان سياسة الصدمة في تنفيذ «أجندته الإصلاحية!»، ولم يكن يتوقّع للحظة أن ثمة صدمة مضادة ستعصف بكل أحلامه. يظهر ذلك ابتداءً في «الخفّة» التي تعامل بها مع سؤال اختفاء خاشقجي، فأسّس للرواية الفخ، حين قال إن «جمال خاشقجي دخل القنصلية وخرج منها بعد ذلك بدقائق أو ساعة»، فبنى عليها أنصاره المحاجّة المفرغة، وطاروا فيها تغريداً وتهكماً على المتمسّكين بالحقيقة المصوّرة بأن «جمال خاشقجي دخل القنصلية ولم يخرج».
دعوى خروجه من القنصلية وضعت الجانب التركي أمام مسؤوليته القانونية والسيادية والأمنية، لأن مجرد القول بأنه خرج يعني الانتقال من سيادة إلى أخرى. وهنا بدأت لعبة الأشباح، أي الأجهزة الاستخبارية، فأخرج التركي بعض ما لديه من معطيات، وثبّت حقيقة منذ اليوم الأول بأن خاشقجي قتل داخل القنصلية وقطّعت أوصاله. التزم الجانب السعودي الصمت وبقي على ذلك حتى النهاية إلى أن تشكّل فريق التحقيق المشترك بهدف صوغ رواية أو على قول أردوغان «رأي مقبول» في القضية.
خسر ابن سلمان الرهان، أو بالأحرى ربح معركة وخسر الحرب. قتل خاشقجي، ولكن مصيره السياسي بات على المحك، إذ قدّم للمتربّصين به هدية عمرهم، من أمراء أفقرهم واعتقلهم وعذّبهم، ورجال دين أذلهم وحرمهم سلطانهم وأدخلهم السجون، وتجّار نهب أموالهم وصادر أوقافهم ولاحقهم في الداخل والخارج، ولا ريب أن قوى التغيير التي نالت النصيب الأكبر من القمع في عهده والعهود السابقة، فهي تتطلع إلى تغيير شامل ينهي احتكار السلطة والثروة من شخص أو عائلة، ويفسح في المجال أمام مشاركة شعبية وتمثيل متكافئ لكل المكوّنات السكانية.
منذ بدأت بوادر خسارة ابن سلمان للرهان بعد مقتل خاشقجي، تدخّل والده الذي بات اليوم يعمل إطفائياً لإخماد الحرائق التي يشعلها ابنه، بما في ذلك «صفقة القرن» وبيع حصة من «أرامكو» في السوق العالمية وحتى التسويات داخل العائلة المالكة، بعد أن هدم ابن سلمان هيكلها والتراتبية الناظمة لشؤونها منذ عبد العزيز بن سعود.
تدخّل الأميركي في لحظة ابتزاز سانحة لفتح قناة التسوية، الذي يعني: إنقاذ رأس ابن سلمان مقابل ثمن ما مالي وسياسي، وتقديم أكباش فداء. الذكاء المنخفض لدى ترامب سهّل مهمة المراقبين لنوع التسويّة المتوقّعة. حديثه عن «قتلة مارقين» ليس شيئاً آخر سوى «القرابين» الذين سيُرمى بهم في محرقة التسوية. فتح باب المضاربة بالدم وفق قوانين تجارية تبدو لعبة رخيصة، ولكن هذا ما يتقنه اللاعبون في حلبة السياسة الدولية في الوقت الراهن.
عودة القنصل السعودي محمد العتيبي إلى الرياض هي أول مؤشر على أن فصلاً من التسوية اللاأخلاقية قد بدأ، وأن سلمان يتأهب لـ«نحر» الأكباش لافتداء جريمة ابنه، القاتل الحقيقي. من محاسن عصر الإنترنت، بالرغم من سيئاته الجمّة، أن قوانين التلاعب بالعقول قد تبدّلت، ولا يكفي أن تقدّم «سرديّة» كيفما كانت وتتوقع أن تحظى بشعبية واسعة. لأول مرة نصبح أمام مسرح جريمة على الهواء، يتبادل فيه السياسيون والأمنيون أدواراً وفق مرويّات متناقضة، ولكن «المجتمع الشبكي» قد تجاوز خدعة التمويه ويملك خياراته المستقلة، وانتقاء الرواية التي لا تخضع للتزييف.
الأميركي يلعب وفق قانون رابح مفرد، وهو يحاول اختطاف ورقة الوعي في لعبة الابتزاز، ولسان حاله أن الثمن الذي على السعودي دفعه يجب أن ينسجم مع مستوى الجهد الذي على الإدارة الأميركية بذله لجهة صوغ رواية عن الجريمة تقنع العالم الذي بات ينتظر إجابات شافية ووافية حول مصير خاشقجي.
لا بد من لفت الانتباه إلى أن قضية خاشقجي اندمجت في اللعبة الانتخابية الأميركية، وصارت موضع تجاذب بين الجمهوريين والديمقراطيين، وأن فريق ترامب في عجلة من أمره لحسمها نهائياً، وبالتالي سحب ورقة من يد خصومه الديمقراطيين قبل موعد الانتخابات النصفية الشهر المقبل.
وفي الخلاصات، وبأي أثمان انتهت إليها التسوية، في محاولة لإغلاق القضية سياسياً وإعلامياً وربما قضائياً، فإن مقتل خاشقجي ليس حادثة جنائية معزولة، فقد تحوّلت إلى قضية رأي عام دولي، ولامست جملة قضايا أريد السكوت عنها في الداخل والخارج. صورة ابن سلمان بعد الحادثة ليس كما قبلها بلا ريب، فقد أصبح اليوم الشخصية الأكثر إثارة للاشمئزاز على المستوى العالمي، وبات في حكم المنتهي سياسياً. محاولات «ترميم» الصورة تبدو يائسة، لأن ما لحق بها من أضرار بنيوية يجعل من إمكانية إصلاحها في حكم العدم. فعل الجريمة بكل تفاصيلها البشعة هو عارٌ لا يغسله ماء زمزم، وهكذا هي النظرة حوله في الإعلام الدولي، فقد وصفته صحيفة «نيويورك تايمز» بسيد منشار العظم Master of Bone Saw، وتوماس فريدمان، مثلاً، قفز أخيراً من قارب ابن سلمان بعدما وصفه في الصحيفة ذاتها بأنه يقود ربيعاً سعودياً.
قد يعمل سلمان أو حتى فريق ترامب على إعادة إنتاج ابن سلمان، ومحاولة تعويمه وتسويقه بصورة مختلفة، على قاعدة أن التغييرات التي أحدثها في الداخل والخارج تتطلب وجوده على رأس السلطة، ولأن ثمة مصالح أميركية لا يمكن تحقيقها من دون وجوده، الذي سيصبح أكثر ارتهاناً من ذي قبل بعد الحادثة. لكن منطق الأشياء يخبرنا بأن الأخطاء القاتلة في الحرب لا تختلف عنها في السياسة، وما أنهى زنوبيا ملكة تدمر في مواجهة روما هو نفسه قد ينهي أي سياسي يرتكب جريمة حمقاء في اللحظة التاريخية الخاطئة.
يحسب لابن سلمان إتقانه فن صناعة الخصوم، في الداخل والخارج، ويريد أن يحكم شعباً بالخوف والتخويف، ولسان حاله ليكرهنا الشعب ما دام هو يخضع. سيكون العالم أكثر أمناً من دون ابن سلمان، وبالنسبة إلى قوى التغيير في الداخل فإن خروجه من الحلبة ضمانة لبدء عملية إصلاحية حقيقية وشاملة.