من التّاريخحين نتكلّم على الصّين، يجب أن نتذكّر أن «الصّين التاريخية» لا تشبه الخريطة الحاليّة للبلد. التيبت وتركستان الشرقية هي «اضافات حديثة» نسبياً، حين قامت الامبراطورية بتوسّعها الأخير صوب الغرب في اوائل القرن التاسع عشر، فضمّت التيبت واقتسمت آسيا الوسطى مع روسيا. «الصّين التاريخيّة» هي الاقليم الزراعي في جنوب شرق الصّين، بين الحوضين العظيمين لنهر يانغتسي ونهر اللؤلؤة. حتّى بيجينغ هي عاصمة «محدثة» للصين، تم اختيارها قصداً لتكون في الشمال البعيد وتمثّل قاعدة متقدّمة لحماية المملكة من غزوات المغول في الشمال.
حتّى نفهم الجذور التاريخية للديموغرافيا في الصّين، يجب أن نستعيد ما يقوله والرستين ــــ في عمله الشهير عن نشوء «النظام العالمي الحديث» ــــ حول «الامتياز الزراعي» الذي كانت تملكه الصين مقارنة بباقي الأقاليم في العصور الماضية. بسبب خصوبة الأرض وتوافر المياه والشمس، يقول والرستين، تمكّنت المجتمعات الزراعية في الصين ومناطق أخرى في شرق آسيا من توظيف الزراعة المكثّفة للأرز منذ قديم الزّمان. زراعة الأرز تختلف جذرياً عن زراعة القمح في اوروبا الاقطاعيّة لأنّ العائد الغذائي الذي تحصّله من مساحةٍ معيّنة من الأرض (لو قسناه بالوحدات الحرارية) أكبر بكثير في النمط الآسيوي، والطّقس يسمح لك بزراعة موسمين في السّنة. من هنا، كانت المجتمعات الزراعيّة في شرق آسيا والهند تقدر، تاريخياً، على إعالة كتلٍ سكّانية أكبر بكثير من تلك التي تستوطن اوروبا، حيث البرد والعتمة والطقس السيئ (وكان الطقس اسوأ في قرونٍ ماضية). كما يشرح والرستين ايضاً، يجب أن تذكّر أنه قبل الثورة الزراعية، انت كنت تحتاج الى زراعة مساحاتٍ ضخمةٍ من القمح حتّى تطعم عدداً معيّناً من النّاس مقارنةً بالانتاجية التي نعرفها اليوم؛ ولم يكن من المجدي اقتصادياً أن تصدّر أو تستورد الحبوب بعد مسافةٍ معيّنة وخارج دائرتك الانتاجية الصغيرة. هذه كانت المعضلة الأساسية في المجتمع الاقطاعي (من الصّعب، مثلاً، أن تربّي حيوانات وتستفيد من عائدها المرتفع، لأنها تستهلك مساحاتٍ كبيرة تضيع على الزراعة، فلا يعود في وسعك اطعام الفلاحين الذين يقطنون على أرضك)؛ وهذا يفسّر ايضاً سوء أحوال الفلاحين الاوروبيين في القرون الوسطى مقارنةً بباقي المجتمعات الزراعية والرعوية حول العالم.
طالما أنّ الموضوع قد ذُكر: لا تسمحوا للتاريخ القريب للاوروبيين والثراء الحالي في القارة بأن يخدعكم، فقد عاش عموم الناس في أوروبا في ظروفٍ بالغة الصعوبة لقرونٍ مديدة (ولا علاقة بين ذلك وبين اقتحام اوروبا للعالم في ما بعد). جرّبوا أن تأكلوا صنفاً واحداً من الطّعام، يتكرّر على كل وجبة وفي كلّ يومٍ، على مدى أسبوعٍ أو اثنين، وبكميات غير كافية لأن تشبعك، وستبدأ بفهم الحياة التي عاشها الفلاح في اوروبا الغربية على مدى ألف عام. بل إنّ والرستين يؤكّد أن الضحايا الكثر للطاعون لم يسقطوا بسبب ان المرض خطيرٌ ومميت (فهو ليس كذلك)، بل لأنّ غالبية الناس كانت تعيش ــــ بشكلٍ اعتيادي ــــ على حافّة الجوع والمرض، فلا يقدر جسدها على مقاومة الطّاعون ويموت المصابون فوراً بأعدادٍ كبيرة. أمورٌ مثل اللحم والبيض والحليب لم تدخل الى مائدة الطبقة العاملة الاوروبية حتى وقتٍ قريبٍ جداً، النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكانت قبل ذلك مأكولات «باذخة» لا يستهلكها سوى النبلاء والأثرياء (أحد أهمّ الأسباب لاستيراد التوابل من الشرق هو لتمكين الفقراء من أكل «اللحم»: كانت الأجزاء «السيئة» من الحيوان تُطبخ في حساءٍ كثيف مقرف، من الضروري أن تضيف اليه البهارات حتى يتمكن الفلاح من استساغته وأكله، والحصول على بروتين حيواني).

حواضر العصر الجديد
عودة الى الصّين، على فمِ نهر اليانغتسي تتشكّل دلتا حول مدينة شانغهاي، شمال شرق هذا «القلب التاريخي»، فيما نهر اللؤلؤ يكوّن دلتا ضخمة في جنوبه الغربي، قريباً من هونغ كونغ وماكاو وغوانغجو. في هذه «الثغور» نشأت مدن صينية كبرى؛ ومنذ «الانفتاح» وانتقال أكثر من 300 مليون صيني الى المدن خلال أقل من 25 عاماً (ارتفعت نسبة الصينيين الحضريين من 25% عام 1985 الى النصف عام 2010)، تحوّلت هذه البقع الى أكبر التجمعات الحضرية في العالم. قرب غوانجو، مثلاً، في مواجهة هونغ كونغ تماماً، ظهرت مدينة ــــ هي شينزين ــــ كانت عبارة عن قرية ساحليّة قبل «الانفتاح» عام 1978، فأصبحت اليوم أكبر من باريس أو لندن. منذ سنوات، يعمل الصينيّون على مشروعٍ لوصل هذه المدن المتجاورة ببعضها البعض، وتحويلها الى «متروبوليس» واحد متّصل، على طريقة تجمّع طوكيو ــــ اوساكا أو منطقة خليج سان فرانسيسكو ــــ مع فارق أنّ الصّين ستحوي أربعاً أو خمساً من هذه «المدن الفائقة»، في كلّ منها تجمّع من عدّة مدنٍ متّصلة، وعشرات الملايين من السكّان.
منذ أيّامٍ دشّن الصينيّون جسراً هائلاً هو جزءٌ من هذه الرؤية، يصل جزيرة هونغ كونغ بمدينة ماكاو والساحل الغربي من دلتا نهر اللؤلؤ، وقد وُصلت هونغ كونغ قبل ذلك بقليل بالقطار السريع عبر شينزين ــــ فيصبح في وسع العامل قريباً أن يسكن في غوانجو مثلاً ويعمل في هونغ كونغ، أو يقطن في شينزين ويذهب يومياً للعمل في ماكاو؛ بعد أن كان الانتقال بين هذه الأماكن يستلزم ساعاتٍ وعبورا بالزوارق. النظريّة في الصّين هي أنّ النموّ المتسارع للمدن، والعدد الهائل للسكان، سيجعل «المدن الكبرى» ــــ مثل شانغهاي او بيجينغ ــــ تنتفخ حتّى تفيض. بعد حدٍّ معيّن من السكان ــــ عشرة ملايين مثلاً ــــ تبدأ المدينة بالفشل، وتتراكم مشاكل الزحام والفوضى والبيئة، ولا تعود أجزاء المدينة متّصلة. بدلاً من اسكان ثلاثين مليون صيني في شانغهاي، تصنع أربع مدنٍ حولها، كلٌّ منها يضمّ عشرة ملايين نسمة، وتكون موصولةً ببنية تحتية تجعلها بمثابة «اقليم مديني» واحد.
الكثير من مشاريع البنية التحتية في الصّين، كالقطار السريع، من الممكن فهمها من هذه الزاوية: تخطيط البيروقراطية الصينية لايواء مئات الملايين من النّاس في المدن، وتحويل بعضها الى مراكز انتاج على مستوى «عالمي»، فيها تجمعات للشركات والمصانع والمراكز البحثية (منطقة خليج غواندونغ، المذكورة أعلاه، يُقارب ناتجها السنوي الناتج القومي لروسيا). القطار السريع هو الوسيلة التي تسمح بتحويل نطاق مئة كيلومتر حول شانغهاي الى «ضواح» و«مدن تابعة». القطار الفائق السرعة، والاستثمارات الأخرى الهائلة في البنى التحتية، هي التي تسمح بـ«نسج» هذه الرقعة المدينيّة وبروزها كنموذجٍ فريد.
المفارقة هنا هو أنّ الآية قد انقلبت في هذا العصر. لو عرف المواطن الغربي بأسلوب حياة الموظف في الصّين، فهو لن يرغب بتبادل الأدوار معه، وأن يأخذ كلّ يومٍ باصاً ثمّ قطاراً ثم مترو، ويقضي ساعتين ذهاباً واياباً، لكي يصل الى مكتبه وينال مرتباً قليلاً بالمقاييس العالمية. ولكن ما لا يعرفه من ينتمي الى «العالم الثري»، واعتاد مقاييسه، هو أنّ هذا النموذج كان الوحيد الذي سمح بإسكان مئات الملايين، نزلوا فجأةً على المدن، من دون أن تمسخ المدينة مستودعاً للفقر والعشوائيات كما حصل في طول الجنوب العالمي وعرضه.

الدروس التي لا نتعلّمها
مدهشٌ كم أنّنا، حتى ونحن نراقب الصّعود الصيني، ما زلنا نعرف القليل القليل عن تجربة البلد وميزاتها ومشاكلها، مع أنّها بلدٌ من العالم الثالث، ظروفه وتحدياته وتاريخه أقرب الينا بكثير من «النماذج» التي استخدمناها لتخيّل الحداثة وتخطيط المستقبل، وصولاً الى بناء المدن. في نصٍّ لها عن «الايقونات المعمارية» والعولمة (ضمن كتابٍ حرره غريغوري براكن عن التمدّن في الصين، منشورات جامعة امستردام، 2012) تشدّد الباحثة ليسلي سكلير على الطّابع «الطّبقي» للعمارة. التصميم والمباني، وخاصّة «الايقونات» المعمارية الضخمة، هي ليست مجرّد نظريات جماليّة أو عمليّة، بل هي دوماً تعبّر عن نظام طبقي وتترجم، بشكلٍ بصري، تراتبية طبقيّة. على سبيل المثال، حين تكون المباني الكبرى في مدينةٍ ما هي مباني الدولة والوزارات والجامعات والبرلمان، فهذا يشير الى هويّة ما لهذا المجتمع. وحين تضيف الى هذه، كما في اميركا مثلاً، مباني ايقونية للشركات الضخمة، على شكل ناطحات تعلّم أفق المدينة، فهذه المصالح ايضاً تعلن عن مكانها في المجتمع. حين تكون المباني المميّزة والعقارات المهمّة في المدينة، كما في بيروت، هي للمصارف وقصور الزعامات السياسية، تُصبح «عنواناً» يطبع أحياءها، فهذا ايضاً يدلّ على تراتبية خاصة بالبلد.
تصميم المدن، تقرير من ينتمي اليها ومن لا ينتمي، وشكل العمران البشري بالاجمال، هذه ليست مسائل «نظريّة» أو عمليّة أو جماليّة، ولا هي تأتي بالصدفة، سواء في الصين أو في ساو باولو، ومن تتبّع هذه المصالح نبدأ بفهم «التصميم». لدى ليسلي سكلير نظرية مثيرة عن هندسة المدن في العالم الثالث في عصر العولمة. المسألة هنا ليست «تغريبا» بهذه البساطة. تقول سكلير إنّ «التغريب» هو ابن مرحلة الاستعمار المباشر، حين كانت «الحداثة» تعني بالفعل النسخ المباشر عن المدن الاوروبية، وغالباً عبر مصممين اوروبيين. في اواخر القرن التاسع عشر أو قبيل الحرب العالمية الثانية، كانت الفكرة أن النموذج الاوروبي متفوّقُ بلا لبس، وهو النموذج الوحيد للحداثة، وارتقاء أي مدينة يعني بناء حيٍّ اوروبيّ فيها، كما نجد في وسط بيروت أو الجزائر أو الاسكندرية أو أيّ من المدن «الكولونيالية» القديمة. وتستخدم سكلير هنا ايضاً نموذج فندق «هيلتون» ــــ الذي بني بعد الحرب العالمية الثانية، قصداً، ليكون «قطعةً من اميركا» في عواصم العالم الثالث.
في عصر العولمة، اختلف شكل الطبقة المهيمنة وتغيّر معها مفهوم «المدينة العالمية». لم يعد النّموذج «غربيّاً» بالتّحديد، بل أصبح «معولماً»، يتطلّب مساحات لها مقاييس متشابهة حول العالم، وتسكنه نخبٌ متشابهة، في ظاهرةٍ تسميها سكلير «مساحات عابرة للدول»، أصبحت ضرورة لأي مدينةٍ تريد نفسها «مركزاً». التصميم هنا «حديث»، ولكنه ليس «غربياً» بالضرورة، بل هو هجين، يمكن أن تدخل فيه «عناصر اسلامية» ــــ كأبراج بتروناس في ماليزيا أو بعض العمارة النفطية ــــ من دون أن تؤثر على وظيفته كـ«عقدة« لثقافة مهيمنة تعولم حياتها ومقاييسها (لهذا السبب ايضاً، يجب أن نحذر من الثنائية الزائفة بين «الحديث» و«التقليدي» والهوس بعمارة أشكالها «تراثية» باعتبارها «المنقذ» من العولمة والتغريب؛ فالمعمار «التراثي» من الممكن أن يخدم مساحةً معولمة أو وظيفة اجتماعية سيئة، كأن تبني فندقاً فخماً في اريزونا يستوحي عمارة الطين الهندية، والمسألة ليست في الشكل). الأساس في وجود هذه «المساحات المعولمة»، تكتب سكلير، هو أنها تخدم نخبةً معولمة صعدت منذ الستينيات، لها ثقافة واقتصاد واسلوب حياة يلفّ الكوكب، وقد أصبحت أي مدينة تطمح للبروز تتوجّه حصراً اليها (هذه النخبة، تقول الكاتبة، مكوّنة من أربع فئات: الشركات الكبرى التي تمسك بهذا الاقتصاد، الدولة والبيروقراطية التي تتعاون معها وتفتح بلادها للعولمة الرأسمالية، الموظّفون والخبراء في هذا القطاع، أي الفئة التقنية، والنخب التجارية والمحلية التي تستفيد من وصل البلد بالخارج، أي فئة الاستهلاك). على هذا الأساس بنيت بيروت بعد الحرب، وعليه تبنى الأحياء الجديدة في عمّان واسطنبول وغيرهما، وهدفها أن تخلق في عاصمتها «قاعدة» لنخبةٍِ جديدة عابرةٍ للدول.
المشاكل في هذا النمط كثيرة. تستخدم سكلير حالة شانغهاي، حيث تمّ بالفعل بناء «مساحة معولمة» فيها كلّ مواصفات المدينة «الكبرى» الحديثة. ولكنّ هذه «المدينة العالمية»، فعلياً، لا تخدم الا نصف مليونٍ، هو عدد الأجانب وابناء الطبقة المترفة الذين يعيشون في هذا «الجو المعولم» ويقدرون على تحمّل كلفته (الأرقام هي من 2010، وقد ازدادت من وقتها، ولكن هذه الفئة تظل أقلية صغيرة في شانغهاي). في الوقت ذاته، أقصت هذه «المدينة الجديدة» الكثير من أهل شانغهاي الأصليين، وأحياء الطبقة العاملة، فيما تدفّق على المدينة ملايين من العمّال الريفيّين، يعيشون حياةً محمومة ولا يستفيدون من كلّ مزايا «المدينة المعولمة» وخدماتها. في بيروت، بالمقابل، كان الإصرار على بناء «مدينة عالمية» ــــ بصرف النّظر عن أي حاجات خاصّة بالعاصمة وسياقها وسياق البلد ككل ــــ حتى انتهت الى قلب مدينةٍ فارغ، لا هو جزءٌ من المدينة ولا هو «مركز عالمي».

خاتمة
في أواخر العصر الامبراطوري في الصّين، منذ القرن الثامن عشر، رسّمت غوانجو (اسمها الاوروبي «كانتون») كمنفذٍ رسميّ وحيدٍ لتجارة الصين مع العالم الخارجي. من هنا، فإنّ فكرة «المناطق الخاصّة» (التي استخدمها النظام الصيني بعد الانفتاح) ليست حديثةً بالكامل، بل إنّ لدى البلد تراثاً في استخدام مدنٍ معيّنة تكون بمثابة «عازل» بين اقتصاده وبين السوق الدولي، يدير العلاقات التجارية عبرها وتحت سيطرة الحكومة ــــ انتهى هذا النّظام، كما هو معروف، بعد حروب الأفيون والغزو الاوروبي، حين تحوّلت كانتون وشنغهاي الى أشباه مستعمرات، وفرضت «حرية التجارة» على الامبراطور. تنظيم العلاقة بين الخارج والداخل وبين الرأسمالية والمجتمع كان أهمّ مهام النّظام الصيني في العقود الأخيرة، وهو سبب «الفرادة» الصينية اليوم، وأنّ الصّين لم تصبح مجرّد «بلدٍ آخر» من العالم الثالث.
فيما كانت الصين تصعد، أصبحت الرأسماليّة هي المحرّك الأساس في تخطيط المدن والعمران، وقد يرى البعض أن البلد نجح الى حدٍّ بعيد في تذليل مشاكل النموّ والتحديات السكانية والتقنيّة. لكن السؤال الأعمق هو عن الطريق الرأسمالي نفسه، وعن الوجه الآخر لهذه المدن العظيمة: الفقر، الاستغلال، نمو الفروقات، تحطيم مساحات واسعة من الريف الزراعي. هل كان كلّ ذلك، أساساً، ضرورياً بالفعل ولا مهرب منه من أجل التنمية، كما يدفع زعماء البلد منذ عهد الانفتاح؟ هذا سؤالٌ مختلف جوابه لا يبدأ في المدينة، بل من التجربة الزراعية الصينيّة ومصيرها، وهي تستحقّ نقاشاً مطوّلاً.