لم تمر حقبة في تاريخ العلاقات بين حركة أمل وحزب الله أسوأ وأشد قتامة من المرحلة التي شهدت اقتتالاً عنيفاً بين القوتين أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وانتهت باتفاق في دمشق برعاية سورية ــ إيرانية في كانون الثاني من عام 1989. الصراع آنذاك عكس حالة عميقة من سوء الفهم وانعدام الثقة والمخاوف المتبادلة، كادت تطيح أساسات «الجماعة الشيعية» وتشتتها، وهي وقتذاك تقف أمام ضروب شتى من التحديات، لكن استمرار الصراع كان أمراً لا يمكن عملياً قبوله، لأنّه يدمر نسيج المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل الطائفة، وإيرانيّاً لأنّه يعكس عجزاً في فعالية الجماعة التي تتولاها بالدعم لدور تضطلع به في مجرى النزاعات والتحولات المحلية والإقليمية، وسوريّاً لأنّه يوسّع الشرخ مع الحليف الإيراني من جهة، ويهدد شكل العملية السياسية والأمنية التي ترعاها الحكومة السورية بعد التزامها مع الشركاء الإقليميين والدوليين التوقيع على اتفاقية الطائف لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية. فكان المطلوب إعادة ترتيب نطاق التنازع وتخفيض التصعيد بانسحاب كل فريق إلى حدود اطمئنان الآخر، وذلك بإيجاد صيغة تتساكن فيها حركة أمل مع أفضلية استحواذ حزب الله على إدارة العملية القتالية ضد الاحتلال الإسرائيلي، مقابل تساكن حزب الله مع أفضلية لحركة أمل في استحواذها على إدارة العملية السياسية الداخلية في أنساقها المؤسساتية والخدماتية وفي علاقات الطائفة مع الدولة والطوائف الأخرى، وما تتيحه دواعي التواصل والمخاطبة مع الخارج. وهكذا تم التفاهم في إطار نموذج من العلاقات يحرص فيه الراعيان الإقليميان الإيراني والسوري على الحفاظ على هذا التفاوت في المهام والأدوار لحليفيهما المحليين، ففازت حركة أمل بشروط المعادلة الداخلية، وفي مقابل ذلك انخرط حزب الله في بناء معادلة القوة الاستراتيجية، ولكن ليس في إطار خطوط فصل ثابتة ونهائية ومطلقة. كانت سوريا مهتمة بدرجة أساسية في تثبيت مقاربتها للتسوية بإدخال حلفائها اللبنانيين، ومنهم حركة أمل، في معادلة السلطة، وكانت إيران مهتمة بتثبيت مقاربتها الإسلامية الثورية للصراع مع الكيان الصهيوني وتعزيز حضور حليفها حزب الله في معادلة المقاومة. انتهى الأمر بتوازنات مرضية لكل من إيران وسوريا ومنافسات مضبوطة ومنظّمة بين أمل وحزب الله.
المهمة الأساسية تكمن في تجاوز معضلة التنافر التاريخي العميق


كانت حرب أمل ـــ حزب الله أقصى إهانة يمكن تصورها في تاريخ شيعة لبنان، وكان يمكن لمس عواقبها ونتائجها الكارثية في ذهن كل فرد وخياله. ومعالجة الموقف وقتذاك تطلّبت قدراً عالياً من التسامح والغفران، وحرباً على المخاوف، وجرأة في تفكيك التعقيدات النفسية والسياسية. مع اعتياد الطرفين على حدود العلاقة ومستوياتها، سعت القيادتان بجهد حثيث للحدّ من الاستفزازات بين المحازبين والمناصرين، وعمدت إلى تطويق أي إشكال على نحو عاجل، بل ومنعت تسرّب الذكريات الأليمة إلى وسائل الإعلام وتحويلها إلى مادة لسجال عائلي أو سياسي. شيئاً فشيئاً بدأت أعراض التغيير كرد فعل قوي ومذهل على مرحلة عميقة بجراحاتها والتباساتها وتناقضاتها. البيئة الشيعية تقبّلت التفاهمات والإجراءات التنظيمية بقبول حسن، بل شجعت الطرفين على الاستمرار في تمتين العلاقات لإرواء الساحة المتعطشة للاستقرار الروحي والاجتماعي. المهم أن حركة أمل وحزب الله أدركا أن الاقتتال كان سيضع حداً لوجودهما ودورهما، إن لم يتصديا معاً للخوف وسوء الظن المتبادل، وأنّ المهمة الأساسية تكمن في تجاوز معضلة التنافر التاريخي العميق، نحو عهد جديد من التعايش الواعي. وفعلاً جاء اختبار الاستحقاق الانتخابي لعام 1992 ليؤكد الحقائق الأخلاقية على الأرض ويعكس الطبيعة المريحة للتوازنات السياسية. وبعكس ما يمكن أن يُحدثه التنافس الحزبي عادة من تعقيدات وتجاذبات، فإنّ التحالف بين حركة أمل وحزب الله لم يشهد بعد أن دخل مرحلة الاستقرار، معوقات وتعارضات وحساسيات يمكن أن تسبب أزمة ثقة بين الجانبين، بل كانت السياسات والإجراءات والجهود متسقة ومنسجمة مع استراتيجية بناء شراكة ثابتة ومستدامة. كذلك مثّل «الاحتلال الإسرائيلي» لجنوب لبنان والبقاع الغربي مادة التأييد الشيعي العام لمسارات التفاهم، وليوفّر من جهة ثانية أساساً متماسكاً للتواصل والتعاون لمواجهة تهديداته، وقد انعكس ذلك بنحو جلي خلال العدوان الإسرائيلي عام 1993 (حرب الأيام السبعة) وعام 1996(حرب نيسان)، فظهر التنسيق السياسي والعسكري أوسع أفقاً وأصلب عوداً.
مع اكتمال التحرير، بدا جمهورا أمل وحزب الله مقيّدين بالتمام بعجلة المنطق الذي فرضته القيادتان، محمولاً بالحرص الشديد على أطر التضامن والوعي بضرورة الحفاظ على السلم الأهلي على المستوى الشيعي وكذلك الوطني، وإكسابه بعداً أخلاقياً وكيانياً واستراتيجياً. وعندما نشبت حرب عام 2006 بكل أوارها وقساوتها، تعامل الطرفان مع قضية المواجهة باعتبارها قضية أولى، واعتبار المقاومة الضمانة في مواجهة التهديدات الإسرائيلية وليس ما تقدمه القوى الكبرى من وعود ومبادرات بنحو مباشر أو عبر الأمم المتحدة ومؤسساتها.
حينها، أتقن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والرئيس نبيه بري لعبة توزيع الأدوار وصياغة توازن مدهش في إدارة التجاذبات المحلية والخارجية. في الحرب وأثناءها وبعدها، انعقد نصر وثّق عرى الروابط والعلاقات بين مناصري الطرفين ومحازبيهما بصورة صرفت من جهة ما كان يتسرّب من أسى تاريخي، وبدّلت ملابسات القسمة إلى مناشئ جديدة للتعاون والتفاعل الإيجابيين من جهة أخرى.
بعد عام 2006 انصبّ عمل الدول والجهات المعادية لجعل البيئة الشيعية غنية بأسباب التشاحن، ومشبعة بالمشاكل الخلافية، كي تفرض نفسها عنوة على اهتمامات القيادتين رغماً عنهما. سيل التحديات والتوترات التي أعقبت الحرب والأزمة السورية التي نشبت لاحقاً، منح العلاقة بين الحزبين بعداً مؤسّسيّاً راسخاً، فحيث تكون أمل يكون حزب الله، وحيث يكون حزب الله تكون أمل، هذه الصيغة كرّست حضوراً استثنائياً للشيعة في الجهود المبذولة لاستقرار لبنان ورسم معالم مستقبله.
مع إعلان موعد الانتخابات النيابية في السادس من أيار عام 2018 شرعت استراتيجية التحريض والدعاية لتُبرِز إلى السطح فشل تحالف أمل حزب الله في تأمين متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين الشيعة وضرورة انتخاب قوى جديدة. من الواضح أنّ الدعاية كانت تهدف إلى إبعاد القوتين الرئيسيتين إحداهما عن الأخرى، وتشويه صورة إحداهما عند الأخرى، وبث الشكوك المتبادلة لتيئيس الناس وبث الشائعات المتصلة بقياديين في أمل وحزب الله، وتسليط الضوء على فسادهم أو قلة كفاءتهم في إدارة مسؤوليات عامة، وسوء اختيارهم (الاستنسابية، فقدان المعايير، المحسوبية و... إلخ)، وإبراز حالة النفور العامة عند الجمهور الشيعي بسبب سياسات التحالف وإخفاقه في تحقيق مطالب الشيعة بدولة عادلة وإنماء متوازن.
جاء ذلك بالتزامن مع التهويل بالعقوبات الأميركية والغربية والعربية بحق أشخاص ومؤسسات «شيعية». هذه الحملة دفعت بالأمين العام لحزب الله إلى تكثيف خطاباته على نحو غير مسبوق، ووصل الأمر إلى حدّ عزمه على زيارة القرى والمدن في البقاع «مهما كانت الأثمان، ولو تعرضتُ للخطر»، حسب قوله. صحيح أنّ الطريقة التقليدية التي كان ينتهجها كلّ من حزب الله وحركة أمل في القضايا المطلبية ومتابعة قضايا الناس لم تعد موائمة للمرحلة، لكن ما كان بالإمكان أن تُترك ظاهرة النقمة التي سرت في أوساط الجمهور على اختلاف مستوياته من دون تعليق أو تفسير. انبرى الأمين العام لحزب الله في مهمة صعبة لمواجهة الظرف المعادي الذي كان يستدعي من قبل الجمهور «استيعاباً ثقافياً»، وفهماً لخريطة التحديات، وتحديداً ووعياً دقيقاً للأولويات، وشرحاً وافياً لكل المراحل التاريخية التي مرّ بها الشيعة، وأهمية هذا التحالف في حالة النهوض العام، وضرورة استمراره وتأمينه وسلامته من المخاطر.
الاستهداف لم يتوقف، من لحظة هذا الاقتران قبل عام 2000 وبعد انتصار عام 2006، حتى هذه اللحظة التي يُراد منها عودة الشيعة إلى حالة التمزّق النفسي والاجتماعي والسياسي. لا شكّ في أنّ الثنائي نجح في بناء شبكة أمان مؤسسيّة للبنان والشيعة في لحظة تمر فيها المنطقة بالأزمات والمخاوف واللايقين، وفي ظل بحث مسعور للجماعات العرقية والطائفية عن الأمن. لم يعد لبنان كما كان في السابق، ولم يعد الشيعة حالة هامشية ومهمشة. لقد تغيرت موازين القوى الداخلية بما سمح للثنائي بلعب دور مؤثر في كثير من الاستحقاقات التي وفّرت كل هذا السياق التاريخي الحافل بالإنجازات والانتصارات. أعداء الثنائي لم يتوقفوا عن نشر مطاعنهم، ولكن التحدي الأبرز هو في نجاح الثنائي نفسه في بثّ سياسات تبعث على الأمل والثقة والجدة، وتُعجز الأعداء عن اختراق الجدران وتهشيم كل أشكال الالتزام والتكافل والتضامن الاجتماعي الذي دفع ويدفع المخلصون ثمنه دماً وولاءً وصبراً جميلاً.
يقول المثل: «عندما تكونان في قارب مشترك اعبرا النهر معاً في سلام».
* أستاذ جامعي