في تسعينيات القرن الماضي، بدأت مجموعة من الأشخاص تدور بين المنازل في منطقة عبرا في صيدا، وتطلب من «رجّال البيت» أن يذهب إلى ما كان يعرف بمصلّى بلال من رباح القائم في عبرا، لسماع محاضرة دينية. في البدء، لم يعر الصيداويون أي اهتمام يذكر لهذه الحركة، برغم استغرابهم لها، لكن ما لبثت أن تكررت هذه الزيارات، فبدأ اسم أحمد الأسير، داعية جديد عاد إلى مدينته وفتح مصلى، يطفو إلى سطح المجتمع الصيداوي، المسالم، الذي يعيش بهدوء.
ومع مرور الوقت، بدأت تحركاته ونشاطاته تثير استياء البعض واعتراضهم، وخاصة أهالي من كان يرتاد المصلى. فأغلبية من كان يتحمس لخطابات «الداعية»، كان من الشباب، الذين تبدأ أعمارهم من الخامسة عشرة وما فوق، ومعظمهم من العائلات الصيداوية المعروفة، التي ليس لها صلة بالتديّن. إلا أنه، برغم ازدياد عدد الذين كانوا يجدون منفذاً في محاضرات الأسير أو يعجبون به، تجاهل القيّمون على المدينة هذه الظاهرة الجديدة مرة أخرى، أو لم يعالجوها على النحو المطلوب عن قصد أو غير قصد، ولم يتنبهوا للنتائج التي قد تترتب عليها انطلاقاً من فكرة أن الصيداويين لن يتأثروا و«موجة وبتمرق». ومع بداية الألفية الجديدة، أخذ مصلى الأسير بالتوسع شيئاً فشيئاً بسلاسة صامتة في المدينة، حتى يتسع للمصلين إلى أن أصبح مسجد بلال بن رباح.
في علم السياسة والحروب، يقدّم بعض العلماء نظرية جديدة تقوم على فكرة وجود ما يسمى «الحروب الجديدة»، التي بدأت معالمها بالتبلور في القرن الحادي والعشرين. وتعرض هذه النظرية لأشكال جديدة يجري اتباعها في الحروب، من هنا كان اعتماد مصطلح «الحروب الجديدة» لتمييزها عن الحروب التقليدية التي عادة ما تكون بين الجيوش النظامية، بين دولتين أو أكثر. وتختلف بالنسبة إلى هؤلاء العلماء أشكال الحروب الجديدة وأهدافها عن «الحروب القديمة». فعلى سبيل المثال، كانت أهداف «الحروب القديمة» تتمحور حول نشر أيديولوجيات معينة مثل الديموقراطية أو الاشتراكية، أما «الحروب الجديدة»، فهي تخاض باسم الهوية، وهي غالباً ما تكون دينية أو إثنية أو قبائلية، وترمي إلى سيطرة مجموعة معينة، محلية أو إقليمية على الدولة، كما يشير هؤلاء إلى أن «الحروب القديمة» كانت ترتبط بفكرة بناء الدولة والمحافظة عليها، بينما لا تؤدي «الحروب الجديدة» إلا إلى هدم الدولة ونشر الفوضى والتطرف، فالحرب «هي مشروع عنف مصوغ باسم السياسة».
وفيما كانت الجيوش النظامية هي بطلة «الحروب القديمة»، تمتلئ الساحة اليوم بلاعبين جدد من الدولة وخارج إطارها، فإضافةً إلى الجيوش النظامية، وجد المرتزقة والشركات الأمنية الخاصة والجهاديون وأمراء الحرب وغيرهم مكانهم في الساحات التي تمتد على مساحة خارطة العالم العربي، بعدما تراجع نفوذهم في القرن العشرين.
إذاً، يكثر اللاعبون والهدف يأخذ منحىً طائفياً ومذهبياً وغايته السيطرة القبائلية العقائدية على الدولة أو من دولة لأخرى مجاورة. فهل الصراع والواقع الحالي في البلدان العربية يمثلان أحد أوجه هذا النمط الجديد من الحروب؟ إذا قام المتابع بمراجعة شاملة لمسار الأحداث في عدد من الدول كلبنان ومصر وسوريا، فمن السهل عليه ربط الخيوط العريضة المتعددة والمتشابكة والمرتبطة بعضها ببعض على طول حدود هذه الدول وداخلها، والتي، على اختلاف حدوثها أكانت نتيجة أم سبب، تقود إلى خلاصة واحدة.
ففي لبنان، يمكن الحديث عن ظاهرة الأسير، وهي ليست الوحيدة، بل هناك نماذج عدة مثلها على اختلاف قوة تأثيرها في بيروت وطرابلس والبقاع، وهي ليست وليدة الساعة، بل يجري العمل عليها منذ تسعينيات القرن الماضي. فمنذ عام 2005، وتحديداً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، بدأت رقعة الاحتقان المذهبي تزداد على كامل الأراضي اللبنانية، وبدأ العمل على خلق أيديولوجيا معينة، أو حالة معينة في الشارع اللبناني، عبر التصويب على أن هناك طائفة بكاملها مستهدفة، فجاءت هذه المجموعات لتستغل حالة الفراغ تلك، التي بدأت تتسع مع غياب أو ضعف المرجعيات المعتدلة، حتى بات وجودها مقبولاً، لا بل مطلوباً، وخطابها يصوّر على أنه «خطاب الحق» و«خطاب المظلوم» في وجه الظالم. أما في العراق، فقد أعاد الاحتلال الأميركي إليه زمن المرتزقة في حروب الدول، الذين تعود حركتهم إلى القرن الرابع عشر ميلادي بالتزامن مع بداية سياسات الحكام والملوك التجارية والاستعمارية عبر التنافس في ما بينهم من أجل توسيع جغرافية دولهم، والسيطرة على التجارة والأراضي، فكان استخدام المرتزقة عبر وسطاء أو مقاولين (contractors) مما سمح أيضاً للملوك بتوفير الكلفة المالية العالية في حال دخول جيوشهم في حروب على أراض أخرى.
في التعريف الأكاديمي، يجمع الباحثون على أن المرتزقة هم مجموعة أشخاص يخوضون حروباً خارج أراضيهم من أجل كسب المال، وهم يثيرون الفتن ولا يمكن السيطرة عليهم ويدمرون أي مكان يدخلون إليه. وعلى الرغم من انحسار حركة المرتزقة في أوروبا بعد نشوب الثورة الفرنسية، وتوجه الدول الأوروبية نحو بناء الجيوش النظامية لأسباب اقتصادية، عادت حركاتهم إلى الظهور بعد الحرب الباردة عام 1989 لأسباب اقتصادية أيضاً.
إذاً، استقدم الأميركيون المرتزقة إلى العراق، حيث كانت وظيفتهم التدمير، في وقت توهّم فيه الكثيرون أن الأميركيين «سيحررونهم» من صدام حسين وسيقدمون إليهم المساعدة لبناء دولتهم. ومثل حجم انخراط المرتزقة و«المقاولين الأمنيين» عام 2007 ما يقارب الـ90 في المئة من حجم القوات النظامية، كما جرى تمويل ودعم ما يقارب 128.888 «مقاولا خاصا» في الأمن، ما جعل تكلفة هذه العملية تصل إلى 16 مليار دولار في العام نفسه.
غرق العراق في وحول الفوضى والاقتتال الطائفي والمذهبي. وبناءً عليه، وجدت الجماعات التكفيرية فرصة لممارسة عقائدها وتطبيق شعاراتها، فأضحى فكرها القائم على استغلال الدين والقتل باسم «نصرة المسلمين» حقيقة، حتى باتت أعداد الشهداء الذين يسقطون يومياً بالعشرات خبراً عادياً، هذا إضافة إلى تدمير البنية التحتية وأبسط مقومات الحياة في المجتمع العراقي. وتجدر الإشارة إلى أن أوّل ما قام به هؤلاء كان تدمير المكتبات وحرقها، وقتل العلماء أو دفعهم إلى الهجرة، وذلك من أجل تفريغ العراق من العقول والأدمغة، وإغراقه بنظام عقائدي يقوم على ترويض أكبر شريحة ممكنة على تقبل الفكر المتطرف على أنه الهوية التي ينبغي الدفاع عنها «نصرة للدين».
هنا دمشق. بالطبع، لا يخفى على أحد حاجة الجمهورية العربية السورية إلى الإصلاحات السياسية، برغم ذلك كان يستحيل توقّع الهجمة التي تعرضت لها سوريا ولا تزال، لأكثر من اعتبار أمنيّ واجتماعيّ واقتصاديّ، لكن. عدوى «الربيع العربي» أصابت سوريا. الشعارات نفسها التي رفعت من قبل في مصر والعراق ولبنان وجدت. والأنفاق اكتشفت، إضافة إلى كميات هائلة من السلاح الموزع من قبل بعض الدول الأجنبية، وهي على عداء مع سوريا، على المتمردين. ومرة أخرى، مثلت الساحة السورية، التي غرقت بالفوضى، مرتعاً جديداً للمرتزقة، الذين من جهة، يعملون من أجل إسقاط النظام خدمةً لأهداف هذه الدول، ومن جهة ثانية، مثل انغماسهم في الوحول السورية فرصة لمصدريهم بالتخلص منهم. فتجسّد ما يسمى «الربيع العربي» في سوريا دماراً هائلاً للبنية التحتية، وحرق وتدمير المكتبات والجامعات والآثار (فضلاً عن سرقتها)، إضافة إلى تدمير الاقتصاد السوري وغرق سوريا بالديون، بعدما كانت الدولة العربية الوحيدة بصفر ديون.
قد يسأل المتابع، عن سبب صمت شرائح كبيرة من القواعد الشعبية وبعض القيادات عن الواقع الجديد المغلّف بشعارات إنسانية، وهو صمت بدأ بالتعوّد ثم القبول فالتبرير.
يشرح الباحثون في سياق عرضهم لخصائص «الحروب الجديدة» التي تكتسح العالم، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، كيفية اعتماد أو تسخير اللاعبين الجدد للتطور التكنولوجي الجديد لخدمة أهدافهم بوسائل حديثة فكرية مختلفة، وهي كما جرت الإشارة سابقاً، تأخذ طابعاً دينياً ومذهبياً وطائفياً. ويركز أول هذه الأهداف على محو أفكار مثل الاشتراكية أو القومية، تواكبها تعبئة سياسية عقائدية من أجل تغيير العقيدة وترسيخ الهوية التي يراد لها، والتي لا تقوم إلا على الطائفية والمذهبية. ولا يتحقق هذا الأمر من خلال الحروب التقليدية التي تقوم على احتلال أرض ما عبر الآليات العسكرية، بل عبر السيطرة على وجدان وذاكرة الشعوب، باعتماد عناوين لها علاقة بحقوق الإنسان والقضايا المحقة بغية جذبهم، حتى يتقبّل فيما بعد عقلهم أي عمل في خدمة هذه العناوين، المفترضة طبعاً.
ولعلّ هذا ما يفسّر «النسيان» التدريجي أو تجاهل القضية الأساس أو الصراع الأساسي في منطقتنا، الذي لا يمكن فصله عمّا يجري اليوم من اقتتالات وحروب طائفية، أو بالحد الأدنى، إدخاله طبيعياً في دائرة الاحتمالات، إذ بات الحديث عن العداء لإسرائيل وإمكانية ضلوعها في ما يحدث اليوم على الساحة العربية أشبه «بمزحة» أو اتهام من يطرح هذه الفكرة بأنه رجعيّ أو غير منطقي وواقعي! في المقابل، تزداد ظاهرة تبرير وجود الجماعات التكفيرية في سوريا أو لبنان، وتبرير المجازر التي يرتكبونها في تدمير التاريخ السوري، الذي يمثل العمق العربي، تارة تحت شعار «الحلم بالديموقراطية» المنشودة، وطوراً تحت شعار «نظرة أهل الحق» من المدنيين في سوريا، على قاعدة «الغاية تبرّر الوسيلة» عن جهل وتعصب أو اقتناع. وفي حالات رفضها، يصبح الصمت سيد الموقف بسبب الاصطفافات السياسية. وبدل محاربة هذه الجماعات التكفيرية المنتشرة في بلادنا، لا ينفك هؤلاء يُعطون النظريات والتفسيرات حول سبب وجودها، متهمين بالطبع خصومهم أكان في سوريا الدولة أو المقاومة في لبنان، وهم أول المستهدفين منها، وهو أيضاً ما يعد تبريراً لوجود هذه الجماعات وغطاء للفكر التكفيري الذي ينخر في العمود الفقري لمجتمعاتنا، وخاصة في عقول قسم كبير من الشباب. وفي جميع الحالات، تكون النتائج كارثية.
في الختام، يمثّل الواقع الذي يسيطر على بلادنا العربية أبرز مثال على فاعلية ونجاح «الحروب الجديدة»، باختلاف الأسباب التي أدت إلى هذا الاختراق الخطير والسيطرة الممنهجة على عقول شبابنا. وقد وصل الصراع الدائر اليوم إلى نقطة حسم الخيارات، فإما أن يختار المرء الدولة، وإما أن يختار الفوضى، ولا خيار ثالثاً بينهما. أما خيار الدولة، وهو الخيار الذي على الجميع اتباعه، فيحتم الحاجة الماسة إلى إعلان حالة طوارئ اجتماعية وفكرية وثقافية وسياسية لمواجهة الفكر التكفيري، الذي بات سهلاً عليه اختراق العقول وخلق أيديولوجيا خطيرة. قد تنجح التسويات في وقف الأعمال العسكرية والانفجارات والسيارات المخففة، لكنها حتماً، لن تسطيع ردم الهوة الكبيرة التي أنتجتها هذه الأزمة، بين ما يجب أن يكون، أي الانتماء العروبي لمجتمعاتنا، الذي يتنبى فكر خط المقاومة ضد التطرف وضد العدوّ الإسرائيلي، وبين واقعها الحالي المفكك والمنقسم والمتخبط والغريب عن نفسه.
المراجع


1- Carafano, J. J. (2008). Private Sector, Public Wars: Contractors in Combat- Afghanistan, Iraq, and Future Conflicts. PRAEGER SECURITY INTERNATIONAL
2- Kinsey, C. (2009). Private Contractors and the Reconstruction of Iraq: Transforming Military Logistics. Routledge.
3- Kaldor, M. (2013). In Defense of New Wars. Stability, 2(1): 4, pp.1-16.


* أستاذة جامعية