قضايا المشرق | أسعدني أن يطرح الكاتب الجزائري الأستاذ عبد الله بن عمارة، وجهة نظره في موضوع التحالف المشرقي، مستنداً إلى نظرية تشبيك البحار الخمسة. تلك النظرية التي طرحها الرئيس بشار الأسد قبل اندلاع الحرب على سوريا، ما يؤكد اهتمام المثقفين العرب، بغضّ النظر عن انتماءاتهم القُطرية، بفهم أهمية وضرورة التحالف المشرقي، كنتيجة حتمية للصراع الدموي الدائر في دوله.
المشرق العربي في معناه وسياقه التاريخي الصحيح الذي فرضه تطور الأحداث بعيد عن أية نزعة انعزالية عن مفهوم العروبة، بل يعمل، على العكس تماماً، كمحرك ديناميكي لمعركة العرب ضد محاولات التقسيم وتدمير الدولة الوطنية وكرد واقعي فرضته الأحداث على مشروع الشرق الأوسط الجديد الإمبريالي. وكذلك برز مشروع التحالف المشرقي في واقع جديد أنضج الظروف الواقعية لتجاوز حتى سايكس بيكو القديم، نحو سايكس بيكو 2 أو نحو استعادة اتحاد المشرق، أقله في صورة تحالف خماسي بين كياناته.
طرح الرئيس الأسد نظرية تشبيك البحار الخمسة قبل الحرب على سوريا في ظروف سياسية صعبة. وكان الرئيس الشاب، وبمنتهى حسن النية، يعتقد بإمكانية قيام تحالف اقتصادي من أطراف متضادة سياسياً، ولكنها حسب اعتقاده يمكن أن تفكر في الانعتاق أو في الخروج من سيطرة الإمبريالية الاقتصادية. وكان يعتقد بأن هذا التشبيك الاقتصادي يمكن أن يؤدي إلى نتائج تقارب في السياسات ويجعل لسوريا دوراً مركزياً يوفر لها الحماية من سطوة العداء الأميركي والصهيوني للدولة الوطنية السورية. غاب عن ذهن الرئيس الأسد أن حسن النوايا وحدها لا يكفي في العلاقات الدولية، ولذلك لم يفاجأ بأن أعداءه الرئيسيين والأدوات المنفذة للحرب على سوريا قادها من اعتقد بإمكانية بناء شبكة من العلاقات الاقتصادية معهم يمكن أن تؤدي إلى علاقات سياسية مختلفة، ولم يدرك الفخ الذي نُصب لسوريا، ما اضطرّها إلى خوض حربها الوطنية الكبرى ضد المؤامرة الدولية منذ 2011.
لم يكن مفاجئاً انخراط معظم الدول المطلة على البحار الخمسة في الحرب على سوريا؛ وآخرها اليونان الدولة التي تعتبر دولةً صديقة للعرب والتي تصرفت بعكس العلاقات التاريخية الطيبة عندما قامت بحجز طائرة وفد الدولة السورية المتوجه إلى جنيف 2 لمدة 5 ساعات بناءً على طلب حلف الناتو. إن العلاقات الدولية لا تقوم على حسن النوايا والرغبات فقط، ولكنها تقوم على مصالح سياسية واستراتيجية سابقة للعلاقات الاقتصادية، ومن الطبيعي إذا نظرنا إلى خريطة دول البحار الخمسة نجد أن معظمها يقيم علاقات استراتيجية مع الدول الإمبريالية أو دول تابعة لا تستطيع الخروج تحت أي شرط أو ظرف من ربق التبعية، إلا أن تقوم بتغيير ثوري يضع هذه الدول في صدام مباشر مع الإمبريالية العالمية كنقيض لها ولتطورها الوطني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي. وإذا أخذنا دول الخليج مثالاً، فإن أي اقتراب سياسي أو اقتصادي معها لا يُمكن إلا أن يُسخّر لخدمة الإمبريالية والرجعية. ومن شبه المستحيل الاستفادة من إمكاناتها المادية في دفع الاقتصاد مع دولة مثل سوريا مثلاً إلى الأمام، فالمال الخليجي مال أسود حرام لا يُسَخّر إلا في خدمة الأهداف الشيطانية للإمبريالية. ولعل الجزائر تُشكل مثلاً واضحاً للتقارب مع «السعودية» والخليج في عهد حكم الشاذلي بن جديد ووزير خارجيته الأخضر الإبراهيمي، والذي نجم عنه حرب أهلية دموية استمرت 10 سنوات طوال تسعينيات القرن الماضي. ولا تزال الجزائر تعاني حتى بعد 15 عاماً على نهايتها من آثارها الاجتماعية والاقتصادية والتبعات السياسية المترتبة عليها. وتكررت التجربة في سوريا في الاقتراب من دول الخليج ومحاولة تطوير الاقتصاد عبر تشجيع الاستثمارات الخليجية، والتي تسببت بتدمير الاقتصاد السوري، ما نتج منه مآسٍ اجتماعية، والحرب التي لا تزال مستمرة ضد الدولة الوطنية السورية مموّلة بالرجال والعتاد والمال الخليجي. وكذلك كانت تركيا، والتي دفع الاقتصاد السوري عبر حسن النية والرغبة في تشبيك سياسي واقتصادي انتهى إلى أن أصبحت بوابة الهجوم العسكري على سوريا ومحاولة تدميرها بالكامل. ما أريد الوصول إليه هنا أن المجابهة مع الإمبريالية والاستعمار تقضي بتوفير الظروف الملائمة والقوى التي لها مصلحة في التخلص من نير الإمبريالية والتبعية، فوحدة الهدف السياسي هي الشرط الأول لإنجاز مهمات التحرر الوطني وبناء الدولة الوطنية المستقلة. وعلى هذا الهدف السياسي، يمكن بعدها الارتكاز على توفير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتحقيق الصمود والانتصار.
يجب التطرق هنا إلى موضوع في غاية الأهمية من وجهة نظري وهو طبيعة الصراع الكوني، مستنداً إلى القراءة التاريخية، وهي بالأساس تمثل قوى بحرية عملت منذ نشأتها بعد الاكتشافات الجغرافية والثورة الصناعية على جعل الطرق البحرية أساس التجارة الدولية، منهيةً بذلك طرق البر التجارية في عهد ما قبل صعود البورجوازيات الأوروبية وحققت فيها السيطرة الكاملة وفتحت عهد الاستعمار واستنفاد الموارد، وقضت فيها على الصناعات الوطنية، وحولت الشعوب المستعمَرة إلى شعوب مستهلكة يزداد مقدار استهلاكها أو ينقص حسب تطور القوى والعلاقات الإنتاجية في الدول الرأسمالية. ومن هنا، فإن الرد على هذه القوى في ساحاتها البحرية سيكون مكلفاً وتقريباً عديم الجدوى في الظروف الحالية. ومن هنا، أيضاً، تأتي فكرة التحالف الدولي الجديد للقوى البرية امتداداً من الصين والهند إلى روسيا فإيران، ثم دول المشرق العربي. هذا التحالف الذي يشكل كتلة اقتصادية ضخمة، تمتلك الإمكانات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية الهائلة بعيداً عن طرق التجارة الدولية البحرية وتشكل ثلثي العالم تقريباً، الأمر الذي يخلق إمكانات هائلة لكل تلك الدول البرية في تحقيق الاستقلال الوطني وتراكم الثروة والتطور الاقتصادي بعيداً عن ميدان التفوق الإمبريالي وتكون عاملاً مهماً في دحر الإمبريالية وخلق أنماط وأشكال تعاون اقتصادي قائم على المنفعة المتبادلة والاستغلال الأمثل للموارد في مصلحة شعوب هذه الدول ولا تتحكم فيها نظرية السوق الرأسمالية البشعة.
إن من أسباب نجاح مثل هذه الفكرة هو بالأساس وحدة الموقف السياسي لهذه الدول البرية، ألا وهو الخلاص من سيطرة الإمبريالية الغربية، بغض النظر عن التناقضات الداخلية التي يمكن أن تنشأ أو هي موجودة أصلاً بين هذه الدول. وأهم شرط فيها عدم التدخل في السياسات الداخلية وخلق توازن دولي جديد قادر على التصدي للمشاريع الدموية للإمبريالية العالمية، ويضع حداً لاستغلال المنابر الدولية كأداة من أدوات التدخل ضد الدول وتدميرها بحجج الشرعية الدولية وغيرها من الأكاذيب التي يسوقها الإعلام الغربي، ما يضع هنا هدفاً آخر لهذا التحالف الدولي الجديد وهو قدرته على استخدام منجزات العلم والتكنولوجيا في مجال الإعلام للتصدي لمحاولات الغرب الاستعماري باحتكاره الرأي العام العالمي وغسل الدماغ الجمعي للبشر، وشيطنة الأنظمة المعارضة لها، وخلق الإمكانات المادية لتكوين رأي عام بديل وديموقراطي حقيقي.
من الواضح أن الرئيس بشار الأسد، وهو يخوض معركته البطولية في سوريا ضد العصابات الإجرامية والتدخل الدولي، وصل إلى اقتناعات مشابهة، وأصبح يمتلك وعياً ثاقباً بطبيعة الصراع وأهدافه ونتائجه. وقد تحدث في ذلك خلال أكثر من خطاب، وتحدث بعاطفة أكثر من مرة عن المشرق العربي والذي يخوض حربه المشتركة ضد نفس الأعداء والقوى وفي سبيل الأهداف نفسها، ما قد يخلق وعياً جمعياً لأهمية قيام هذا التحالف، والإمكانات العسكرية والاقتصادية والسياسية التي يمكن أن يقدمها قيام مثل هذا التحالف المشرقي في خوض معاركه الكبرى ضد الكيان الصهيوني ودحر وتدمير الوهابية الخليجية، ما يخلق الظروف الواقعية لقيام التحالف الدولي الجديد الذي أشرنا إليه، وينهي الأدوات الطيّعة للاستعمار والإمبريالية في منطقة الخليج، والشعب التركي كفيل بالحساب للأردوغانية المجرمة حليفة أعداء الشعب التركي أساساً. وبالتالي فإن التحالف المشرقي بعد قيامه سيكون قادراً على تحقيق المهمات الملقاة على عاتقه وسيقوم بتشبيك علاقات اقتصادية متينة مع الدول الموحدة في الهدف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وفي العداء أساساً للإمبريالية الغربية. من الطبيعي أن تكون سوريا قِبلة هذا التحالف الدولي الجديد، وهي تحتل فيه مكانة راسخةً يدين لها بالحب والتقدير كل من يرغب في التصدي للإمبريالية والتحرر والخلاص من سيطرتها الاستعمارية.
* عضو الأمانة العامة
لحركة اليسار الاجتماعي الأردني