في فرنسا، تتواصل تعبئة «السترات الصفراء» في جوّ انتفاض، تتخلله شكوك في تطوّر ديناميكية الاحتجاج. بعد يوم الـ17 من تشرين الثاني/نوفمبر، الذي شُلّت فيه حركة الطرقات، وتجمّع خلاله 282 ألف شخص، وفق الأرقام الرسمية، وجدت دعوات تركيز التعبئة حول باريس، يوم الـ 24 من ذات الشهر، صدى إيجابياً في شبكات التواصل الاجتماعي، رغم عنف المحتجين غير المنظَّم، ووجود خطاب هوياتي تتبناه أقلية رجعية منهم.ويرى عدد من المراقبين السياسيين، أن «حركة السترات الصفراء»، تمثل شكلاً غير مسبوق من التعبئة، يتميز بالاستقلالية والتوجيه الذاتي، وكذلك التنوع الأيديولوجي، ما يجعلها تبدو كردّ فعل شعبي (يتعالى عن تقسيم يسار/ يمين)، تجاه التوافق النخبوي الذي خُلق منذ انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً. وفي سياق ضعف أشكال الانخراط السياسي، تظهر هذه التعبئة في واقع الأمر إفلاس التنظيمات السياسية، وانتقال النقابات إلى الهامش. أما الأحزاب السياسية التي تعلن مساندتها للحركة، على غرار «فرنسا المتمردة»، الذي يقوده جان لوك ميلونشون، أو «الجمهورية الوطنية»، الذي تقوده مارين لوبان، فليس لديها أي قرار على ديناميكية الاحتجاج، أما النقابات، فما زالت منقسمة، حيث أعلنت بعضها، على غرار «الكونفدرالية العامة للشغل» (السي جي تي)، النأي بنفسها عن التعبئة.
ويترجم الوضع خاصة وجود قطيعة متعاظمة بين القوى السياسية اليسارية، التي أظهرت عجزها عن توجيه الاستياء الاجتماعي، وتنظيم الاحتجاج والواقع الاجتماعي الذي يعيشه الفرنسيون المحتجون.
في البداية، ركزت الاحتجاجات على ارتفاع أسعار المحروقات، ورفض الترفيعات الجديدة التي ستنطلق في كانون الثاني/يناير، ثم توسع موضوع الاحتجاج إلى تنديد أشمل، بالضرائب وتراجع المقدرة الشرائية. بالنسبة إلى الاقتصادي الفرنسي جاك سابير، تظهر هذه التعبئة «بواطن فرنسا الهامش»، وتعبّر عن «انقسام طبقي»، لكنها مع ذلك، تبقى صرخة اجتماعية تنبع أساساً من الطبقات الوسطى الصغرى، وتبدو غير مسيسة إلى حد كبير.
ينتشر السخط تجاه ترفيع الضرائب في صفوف الأجراء أصحاب الدخل المتوسط أساساً، فذلك ليس أمراً مستعجلاً يمسّ الفئات الأكثر فقراً، التي تعاني من البطالة، وهشاشة العمل، وصعوبات السكن، وهي آفات متجاهلة بشكل كامل من قبل «حركة السترات الصفراء». لا يعني ذلك أن مقاومة سياسة إيمانويل ماكرون الطبقية، التي تخدم مصالح الفئات الأكثر رفاهاً لا تحظى بشرعية، فهي مؤسسة على شعور بغياب العدالة فاقمه قرار ترفيع الضرائب على المحروقات.
غُذِيّ هذا الاستياء على امتداد عام، عبر الإصلاحات الضريبية التي تبنتها الحكومة، بهدف إلغاء «ضريبة التضامن على الثروة»، وخفض الضرائب على الشركات، ما خدم مصلحة البرجوازية التجارية الكبرى. ويزداد الغضب تجاه ترفيع الضرائب على المحروقات، لأنه مبني على خطاب مخاتل حول المنفعة البيئية، في حين أن هذا الإجراء ليس مصمماً ليُموّل التحول البيئي، وهو يعاقب فرنسا الريفية وشبه المدينيّة، التي تعاني اختلالاً في النفاذ إلى المواصلات العامة.
علاوة على ذلك، إن فحص مجلس الشيوخ، قبل بضعة أيام، لقانون المالية التقويمي لعام 2018، الذي يحول 600 مليون يورو من عوائد الضرائب على المحروقات، الموجهة نحو تمويل التحول البيئي إلى الموازنة العامة، يمثل ضربة قوية للحجة البيئية التي قدمتها الحكومة.
في هذا السياق، يشتد النشاط على مواقع التواصل الاجتماعي، مع تضاعف الدعوات لمساندة الحركة والتوجه نحو باريس لإظهار الحنق. ويرى عدد من المراقبين أن «السترات الصفراء» حركة تقدمية، على غرار جاك سابير، الذي يراها «شكلاً مخصوصاً من التشارك الاجتماعي، الشديد الأهمية»، بين أفراد «يتعلمون التنسيق». لكن، خلف مظهر الحركة العابرة للطبقات، يطرح عدم تمثيل الطبقات الأكثر حرماناً، والنزعة الرجعية الواضعة، التي توجد ضمن الحركة، ومظاهر العنصرية، تهديداً قد يمنع حصول توحيد للنضالات.
لكن أكثر ما يثير الدهشة، التعامل الإعلامي الرفيق مع الحركة، والتعاطف الذي أظهرته شخصيات سياسية تجاهها، وهي المعتادة للقدح في جميع الحركات الاجتماعية، خاصة أنها صورت العنف والتصرفات عنصرية، خاصة التي ظهرت في تعنيف عدد من المواطنين ذوي الأصول الأجنبية، وتسليم عدد من المهاجرين غير النظاميين الموجودين على متن شاحنة إلى قوات الأمن، كظواهر ثانوية. ورغم هذه المجاملة الإعلامية-السياسية، يمكن الحركة أن تتداعى سريعاً إن لم توسع مطالبها، لتشمل الأوجاع الاجتماعية للطبقات الأكثر حرماناً، التي ما زالت حتى الآن غير مرئية.
يطرح التنظيم الذاتي للحركة، وتغير شكلها، السؤال عن تطورها. هل يمكن «حركة السترات الصفراء» أن تشكل تحالفاً جامعاً، أي أن تجمع القوى الاجتماعية والسياسية التي لها مصلحة في التغيير؟ دون هيكلة سياسية وتوحيد للنضالات مع قطاعات أخرى من الناس، من الصعب الوصول إلى أهداف ملموسة في مواجهة تصلب حكومة عارضت منهجياً تلبية جميع أشكال المطالبات.