احتجت مؤخّراً الى شراء ملابس وثياب رياضيّة، ولأنني لست خبيراً بالتسوّق فقد سألت من حولي، واكتشفت أمرين: أوّلاً، انني انحدرت طبقيّاً ولا يمكن أن أفكّر بالشراء من المتاجر الرسمية للماركات العالميّة (وهذه في لبنان، وأكثر دول العالم الثالث، تفوق أسعارها بكثيرٍ السعر في بلاد الغرب، رغم فارق الدّخل، وهي متاجرُ لا يرتادها فعلياً سوى الأثرياء والسياح). ثانياً، وبشكلٍ موازٍ، اكتشفت أنّ أكثر البنانيين من الطبقة الوسطى وما دون، ومنذ أكثر من عقدٍ، يشترون حاجياتهم بشكلٍ شبه حصريّ من المتاجر التي تستورد البضاعة الفائضة في الغرب وتبيعها بأسعارٍ منخفضة في بلادنا (outlets)؛ وهذه المنافذ قد أصبحت صناعة كاملة في لبنان، تستحوذ على جزءٍ مهمٍّ من سوق التجزئة، ومحلاتها ضخمة لها فروع متعدّدة وزبائن ينتظرون وصول «الشحنات» الجديدة (انحداري الطبقي لم يكن كاملاً، فهذه المتاجر فيها ايضاً طبقات ومستويات، من تلك التي تبيع ماركات عالمية فات موسمها، بجزءٍ من ثمنها، وصولاً الى تلك التي تستورد البضاعة الصينية الرخيصة).لماذا تقوم الشركات بخفض ثمن منتجاتٍ ثمينة، ثم ترسلها للتصريف في بلاد العالم الثالث؟ الجواب السهل هو «فائض الانتاج». الصناعة تنتج كميات كبيرة من البضائع، أكبر بكثير مما يمكن للجمهور الغربي أن يشتري في موسم، وصناعة الموضة تقوم في الوقت ذاته (وذلك منذ أكثر من قرنين) على «دورات» موسمية: تبتدع دور الملابس موضة جديدة في كلّ موسم (وهذا يحصل في مراكز معيّنة: باريس، ميلانو، الخ) وهذا يرفع ثمن المنتجات «الجديدة» التي نزلت للتوّ، وهو يسمح للمراكز التي تقود الموضة بأن تحصّل أرباحاً مرتفعة من «تشكيلتها» الجديدة التي تقود بها السّوق والأذواق. ولكن هذا سيصطدم بـ«فائض الانتاج» من الموسم الماضي، والذي لم يتم بيعه بعد، فيصبح من الضروري «تصفية» هذا الفائض، أو تبخيس ثمنه واخراجه من السوق، فيتمّ ارساله الى لبنان والفيليبين وغيرها من الدّول الفقيرة. ولهذا السّبب ايضاً، حين أمارس رياضة الجري في الصباح في بيروت، أكتشف أنني ونصف من حولي نرتدي الماركة نفسها (وهذه الثياب كلّها قد تكون أتت الى البلد في مستوعبٍ واحد).

دورة الاستهلاك
ولكن هذا مثالٌ بسيط على مسألة أكبر. الفكرة التي نطرحها هنا هي أنّ الهدر، ومثله الاحتكار، ليس مجرّد «عارضٍ جانبي» للرأسمالية، فائض ينتج عن قلة الفعالية أو سوء التخطيط؛ الهدر له دور مركزي وحيوي في الرأسمالية اليوم، وهي لا يمكن أن تستمرّ بشكلها الحالي من دونه. مثلما أنّ ملابس الموسم الحالي لن تكون لها قيمة ربحية عالية الّا لو استبدلت موضة الموسم الماضي وبخّستها، فإنّ نمط الانتاج المرتفع في الرأسمالية الحديثة يحتاج الى «هدر» و«تدمير» و«تصريف» القيمة بشكلٍ مستمرّ، وبصرف النظر عن الحاجة أو العقلانية. هناك مثالٌ شهير يقدّم في هذه الحالة عن «التقادم المُخطّط» (planned obscolescence) الذي تدمجه الكثير من الصناعات في منتجها. أي أن يكون المنتج مصمّماً لكي لا يخدمك أكثر من سنتين، وأن يتعطّل بعدها أو يأتي نظامٌ يجديد يجبرك على استبداله (الهاتف أو الكمبيوتر كأمثلة)؛ فالشركة لا يمكن أن تربح لو خدمك البرّاد أو التلفزيون لعشرين سنة (وهذا ممكنٌ ومتاح). ولكن هذا النّمط من «تدوير القيمة عبر الهدر» يجري بأشكالٍ لا تحصى: من الوظائف «الهراء»، التي لا يعرف أصحابها ماذا يفعلون بالضبط، الى انتفاخ القطاع المالي حتّى أصبح أكبر بكثير من «الاقتصاد الحقيقي»، الى الحروب والتدمير الذي يجري خلالها (كما يشرح علي القادري)؛ هذا حتى لا نتكلّم عن أثر الهدر غير المحسوب على البيئة والموارد الطبيعية - الضحية الأولى لهذا النمط. هناك حاجة الى زيادة مستمرّة في الانتاج، بصرف النظر عن الاستهلاك وحالة المجتمع والأجور، وعلى هذه المليارات الكثيرة أن تصرّف بشكلٍ ما.
كمثالٍ آخر من عالم الاستهلاك، أكثر المنازل في الغرب تشتري، منذ سنوات، شاشات تلفزيون بدقّة عالية جدّاً (4K)، وتدفع ثمن التكنولوجيا، مع أنّك تقريباً لن تجد بثّاً بهذه الدقّة العالية الّا بصعوبة: البنية التحتية للانترنت لا تحتملها، والقنوات الهوائية لا تقدر على بثّها، وهي لن تصبح رائجة قبل سنواتٍ من اليوم (لدى مستهلكي التقانة في الغرب تعبيرٌ هو «الاحتياط من المستقبل»، يستخدمونه لتبرير المشتريات، وهو يناسب تماماً رغبة الشركات الصانعة ويعقلن دورة الهدر. «الاحتياط من المستقبل» يعني فعلياً أن تشتري تكنولوجيا مستقبلية - على كمبيوتر مثلاً - وتدفع ثمنها مضاعفاً وتحتفظ بها مع أنّك تعرف أنك لن تستخدمها اليوم، فهي غير رائجة بعد. ولكنك «تضمن» أنها ستكون موجودة حين تنتشر في المستقبل. السؤال الأكبر في هذه الحالات (وهو «فلسفي» في جانبٍ منه) هو: هل نحن بحاجة حقّاً الى كلّ «تطويرٍ» جديدٍ لهذه السّلع؟ هل الموارد التي تستخدم وتدمّر مع انتاج كلّ تلفزيون وهاتف - واستبدال ما قبله - هي جزءٌ «ضروري» من عملية الانتاج، وتعكس رغبات النّاس وطلباتهم، أم هي تتبع منطقاً خاصّاً بالربح والتوسّع، يكون الهدر في قلبه؟ هل تنتج الشركات أجيالاً جديدة من سلعها باستمرار لتلبية الطلب ومواكبة التكنولوجيا، أم أنّ النّاس تشتري، ببساطة، ما تفرضه عليها الشركات وتقدمه الى السوق؟ (حتى نبقى مع المثال أعلاه، هناك شكوكٌ حقيقية حول ما إن كانت دقّة أعلى في الوسائط البصرية ستقدّم «تجربة مختلفة» للمستهلكين، وأنها تستحق الاجراءات اللازمة لتحميل الشبكات أضعاف حملها الحالي. والكثير من الفروقات التقنية التي يدفع الهواة المتحمسون مقابلها مئات الدولارات هي فروقات «تقنيّة» كميّة، أي أنك لا يمكن أن تلحظها بسهولة بالعين المجرّدة. والميل المستمرّ لدفعك الى شراء تلفزيون أكبر حجماً، مثلاً، هو خدعة تسويقيّة؛ فما يهمّ حين تشاهد الشاشة هو منظورك الخاص وليس الحجم بالمطلق - أي أن تلفازاًَ بقياسٍ صغير ولكنك تجلس بقربه يعطيك صورة «أكبر» من تلفازٍ هائل بعيدٍ عنك عدة أمتار).

النفط الصخري كمثال
المسألة تتعقّد حين نفكّر بالنتائج السياسية لهذا النمط. هناك فارقٌ كبير بين الرأسمالية «النظرية» كنموذج وبين الرأسمالية كتاريخ حقيقي، تأخذ أشكالاً مختلفة حول العالم وعبر الحقبات، وإن كان يحرّكها القانون ذاته. المشكلة تبدأ حين يفترض البعض أن التاريخ يجب أن يعمل كما تقول النظريّة (سواء كانت نموذجاً ليبرالياً أو قانوناً ماركسياً) بدلاً من التخطيط على أساس «الرأسمالية كما هي». فلنأخذ صناعة النفط مثالاً. كما هو معروفٌ، فإنّ التنبؤ بانتاج النفط وسعره المستقبلي هو من أعسر الأمور، وكلّ النماذج التنبؤية التي خرجت لتفسير سعر النفط وحركته قد فشلت عبر السنين. إن كانت الصعوبة هنا تتعلّق بتعدد العناصر التي تدخل في الحسبان، تقنية وتسويقية وغيرها، فإنّ «الرأسمالية اليوم» تقدّم على الدّوام وقائع جديدة لا يمكن التنبّوء بها أو التحسّب لها أو اعتبارها نتاجاً «طبيعياً» لعمل السّوق. تمّ انتاج مليارات البراميل من النفط الصخري في اميركا، التقنية الجديدة التي لم تنطلق الا قبل عقدٍ أو نحوه. وسيتم انتاج مليارات أخرى في المستقبل، مهما حدث، وهذا قد غيّر كل موازين أسواق النفط واعتباراته. حسنٌ، هل تعرفون أن كلّ هذا الانتاج، تقريباً، كان يتمّ بخسارة؟ بمعنى أنّ شركات النفط الصخري، منذ توسّع انتاجه عام 2014 وبصرف النظر عما إن كانت الأسعار مرتفعة أو منخفضة، تخسر سنوياً، وتخسر بشكلٍ كبير؟ مجموع الدّيون والاستثمارات التي صبّت في هذه الصناعة في العقد الماضي (على شكل قروضٍ مصرفية أو شراء أسهم أو عرض سندات) قد تفوق الـ600 مليار دولار، هي على دفاتر هذه الشركات. والخسائر لم تكن موسميّة، بل مستمرّة وفي كلّ ربعٍ ماليّ، وهي ضخمة بعشرات المليارات، ويتمّ تمويلها عبر الضخّ المستمر للدّيون والاستثمارات.
بأيّ منطقٍ تجاري «تقليدي» يمكن أن تستثمر في صناعةٍ تخسر باستمرار، بل أن تزيد هذه الاستثمارات وتتضخّم؟ هناك نظريّة رائجة، منذ صعود النفط الصخري، بأنّ صناعته لا تتعلق بالربحية والفعالية، بل بتصريف الكميات الضخمة من السيولة التي توفّرت بعد أزمة عام 2008 الماليّة، وهي كانت تبحث عن منفذٍ وسط الفوائد المتدنيّة. صدر أخيراً كتابٌ للصحافية الأميركية بيثاني ماكلين (وهي اشتهرت بتحقيقاتها حول فضيحة «انرون» في بداية الألفية) عنوانه «اميركا السعوديّة» يلخّص هذه الحجج؛ وهي تقول إنّ الصناعة وتقنياتها المعقدة لم تثبت بعد بأنها قادرة على الربحية، في أي مناخٍ سعريّ، ولكنها تستمرّ بسبب وفرة السيولة والفوائد المنخفضة (بحيث تغطّي هذه الشركات قروضها بقروضٍ جديدة، ثمّ تستدين أكثر من أجل «التوسّع»). بالمعنى «العقلاني»، من الممكن استخراج كميات مماثلة من النفط بكلفةٍ أقلّ من أماكن أخرى في العالم، ولكن الهدف من هذه العمليّة هو ليس «انتاج النفط» كموردٍ وتلبية حاجةٍ معيّنة الى الطّاقة، بل تدوير مئات المليارات في مجالٍ يستهلك القروض بعطش فكان هدفاً مثالياً للتمويل. قد يتبيّن، بعد سنوات، أنّ مزاعم هذه الشركات صحيحة وأنّها ستصل، في نهاية المطاف، الى الربحيّة، وتردّ ديونها على المدى البعيد جدّاً؛ وقد تتحوّل «الفقاعة» الى أزمة لو نضب التمويل أو تعاظم جبل الدّين، وتفلس أكثر هذه الشركات أو تقوم الحكومة - كما حصل وقت الأزمة المالية - بايجاد مخرجٍ لكتلة القروض المتعثّرة على حساب المجتمع ككلّ. ولكن، مهما حصل، فإنّ كل هذا القطاع لم يكن ممكناً في جوّ «رأسمالي طبيعي» يبحث عن الربحية بالمعنى التجاري البسيط، والنتائج هنا لم تقف عند باب المصارف، بل غيّرت «الواقع» على الأرض: الطفرة الماليّة، وهي تبحث عن أسواقٍ جديدةٍ للدين، خلقت - بشكلٍ جانبيّ - طفرةً نفطيّة حقيقيّة.

خاتمة
الوجه الآخر للهدر هو الاحتكار، المصدر الأساسي للأرباح «الكبيرة» في الرأسمالية المعولمة. الصّراع بين الصين واميركا يدور تحديداً حول نقاط «الاحتكار التكنولوجي»، التي ما زالت تؤمّن للغرب عوائد هائلة وهي مسؤولة عن جزءٍ أساسي من الرخاء فيه. في عدد «ايكونوميست» الأخير ملفٌّ خاصّ عن الصراع حول صناعة الشرائح الدقيقة، وعن محاولات اميركا لمنع الصين من دخول مجالٍ تفوق قيمته مئات المليارات، وهامش الربح فيه - بحسب التقرير الأخير لشركة «انتل» - يصل الى 65% (هذا هو المعنى الحقيقي للاحتكار والعائد الاحتكاري، فلا يوجد سوق رأسمالي تنافسي يمكن أن تحصل فيه على عوائد مشابهة، الّا لغياب المنافسين. وسوق المعالجات الكبيرة في العالم اليوم، التي تستخدم في الكمبيوتر والخوادم، تحتكره فعلياً «انتل» مع شركةٍ اميركية أصغر بكثير - وهي، «اي ام دي»، تنافس «انتل» على السّعر، وتكتفي بهوامش ربحٍ تقارب الـ40%). هذا ينطبق على قطاعاتٍ معيّنة لا زالت تتركّز في الغرب، من صناعة محركات الطائرات الى «فايسبوك» و«غوغل»، كلّ واحدٍ منها يساوي مئات مليارات الدولارات، ونظريّتي هي أن الحكومات الغربية ستدافع عنها بأيّ ثمن.
العبرة هنا هي أنّه، مثلما نتعلّم مبكراً في مجتمعات العالم الثالث أن لا نصدّق الأمثولات عن الاستقامة وقيمة العمل، لا يجب أن ندخل الرأسمالية تحت أوهامٍ حول طبيعتها التنافسية وكيف تحقّق التنمية والانتاج. صناعة القيمة في العالم هي، أساساً، عمليّة سياسيّة، تماماً كما تقوم السوق بصناعة أذواقنا وحاجاتنا وأولوياتنا، وتُلبسنا على هواها. عودةً الى موضوع النفط الصخري (الذي كان وجوده معروفاً في تكساس وغيرها منذ أمدٍ بعيد، ولكن لا أحد وجد أن استخراجه مجدٍ من قبل)، حين مرّت الطفرة النفطية على اميركا أنتجت عدداً هائلاً من المليونيرات، وحلّت بعدها الأزمة والفاقة. قرأت أنّه، في تلك المرحلة بين انحدار قطاع النفط التقليدي وصعود النفط الصخري، انتشر ملصقٌ على السيارات على شكل دعاء «يا ربّ، أرسل لي طفرةً نفطية أخرى؛ أعدك بأني لن أهدرها هذه المرّة». الطبيعة والجيولوجيا كانت قد حكمت على تكساس بالانحدار ولكن السوق المالي، و«يده الخفيّة»، قد أعطى أهل تكساس ما يشتهون.