يخوض «التيار الوطني الحر» معركة الاحتفاظ بوزارة الطاقة بوصفها معركة مصيرية. اعتبر الوزير «المعني» المهندس الصديق جبران باسيل أن وزارة الطاقة هي «ضمانة جديدة للمسيحيين، وفيها الإنماء المتوازن الغائب عنهم منذ 25 سنة». حذّر في مؤتمر صحافي، آخر الأسبوع الماضي، من أنّ «وأد الفتنة إذا كان محصوراً بين السنّة والشيعة سيولد نزاعاً بين المسيحيين والمسلمين». أضاف باسيل محذّراً أو مهدداً: «إن لم يبادر المسلمون إلى وقف هذا المسار، فإنهم يدفعون المسيحيين دفعاً، منقسمين أو موحّدين، إلى مشاريع غير ميثاقية»!هذا كلام جديد. لكنه ليس جديداً تماماً! إنّه تتمة لتوجّه ما زال يتراكم ويتعاظم لدى العماد ميشال عون وتياره منذ عام 2006 حتى هذه اللحظة. قبل أن نعود إلى بعض المحطات الماضية، ينبغي القول إننا نناقش هنا في أصل المواقف والتوجهات لا في تفاصيلها. لذلك لن ندخل في اللوحة السياسية الراهنة للتمثيل والاصطفافات والتوازنات والحقوق! اتخذ العماد عون مواقف لافتة، أو حتى تاريخية، بعد عودته من منفاه الباريسي عام 2005. قد يوافق المرء على هذه المواقف أو يختلف معها. لا يغيّر ذلك من كون هذه المواقف شجاعة ولافتة. نعني بذلك موقفه من فتح صفحة جديدة مع السلطات السورية بعد انسحاب قواتها من لبنان (لا يشمل الأمر تحالفه اللاحق مع دمشق)، وإعلان «تفاهم» مع حزب الله في أوائل عام 2006. ومعروف أن عون كان على صراع، بل قتال شرس، خصوصاً مع الطرف السوري!

تعاملت «المسيحية السياسية» التقليدية (ممثلة بأحزابها وبالكنيسة حتى استبدال البطريرك صفير) مع هذه التحولات بوصفها خروجاً على التقاليد القائمة والتاريخية المكرسة. تعرض عون وتياره لحملات غير مسبوقة، بلغ بعضها حدّ التكفير وإلقاء الحرم. أثمرت هذه الحملات إضعافاً محدوداً لشعبيته. لم يتراجع عون نتيجة ذلك. واصل سياساته وتحالفاته محاولاً، مرة جديدة، الانتقال إلى استعادة زمام المبادرة، والتحوّل من الدفاع إلى الهجوم.
أذكر أنه في تلك المرحلة، ومن قبيل التفاعل الإيجابي مع تلك الظاهرة السياسية الشعبية التي جسدها عون، مثّلت الحزب الشيوعي في إقرار توجهات مشتركة أعلنّاها معاً، الوزير جبران باسيل وأنا، بحضور عدد من محازبي الطرفين في ساحة الشهداء. شددنا يومها على بناء دولة مدنية ديموقراطية وعلى ضرورة الأخذ بمبدأ النسبية في قانون الانتخاب. لم يكن ذلك بعيداً عن صورة بدا فيها العماد عون وتياره أقرب إلى التوجه المدني منهما إلى التوجه الطائفي. حاولنا تعزيز ذلك التوجه (لم تكن قيادة الحزب قد أدخلته في غيبوبته الطويلة الراهنة) وحاول بعض مساعدي عون موازنة التفاهم مع «حزب الله».
بين ما لجأ إليه العماد عون، لمواجهة التشكيك في «مسيحيته»، تأكيد أولوية الدفاع عن حقوق المسيحيين في سياساته وتحالفاته، بطرق أكثر فعالية من طرق منافسيه. مضى الجنرال وتياره في هذا الأمر إلى أقصى المبالغة! آليات النظام الطائفي وتواطؤ الجميع على تجاهل وتجميد، بل إسقاط، البنود الإصلاحية في «اتفاق الطائف» (والتي باتت بنوداً بارزة في الدستور اللبناني)، شجّع على المضي في هذا النهج المزايد والخاطئ.
الإمعان في اعتماد المنطق الطائفي جعل «التيار الوطني الحر» الأكثر تكراراً للتعابير والمفردات و«المطالب» المسيحية. كان يحصل ذلك عند كل استحقاق. وبشكل كان يزداد تصاعداً ومبالغة.
لا تبرر المنافسة مثل هذا التحول السلبي. وهي، لو سلّمنا جدلاً بأنها قد تجعل العماد عون وتياره في وضع تنافسي أفضل، إلا أنها انخراط من الموقع الخطأ في مسار توفير الاستقرار والمساواة والمشاركة في لبنان، أي في مشروع «التغيير والإصلاح»!
ثم إن مثل هذه اللعبة لا يمكن أن تفلت من مطبات الديموغرافيا إلى أجل بعيد، وخصوصاً في مناخ الفئويات المذهبية ومناخ التطرف والتكفير واستهداف الأقليات. بدورها لا توفر «المناصفة» أي ضمانة بالمشاركة الفعلية. ألم تكن المناصفة قائمة في مرحلة الإدارة السورية وبعدها؟
في مواجهة أي هيمنة أو طغيان، من مصلحة الكتل التي تستشعر الخوف، وخصوصاً الأقليات منها، أن ترفع شعار المساواة. لا آفاق جديدة، ولو بضمانات، لمناصفة تتحرك قاعدتها باستمرار لحساب طرف على آخر (ديموغرافيا). في تاريخ لبنان علامات ريادة مسيحية ينبغي مواصلتها بأشكال جديدة بعد سقوط الامتيازات الداخلية والضمانات الخارجية. ستصبح المناصفة منّة أو امتيازاً: في الحالة الأولى يجب رفضها، لأنها ستكون شكلية. وفي الحالة الثانية يجب تجنبها، لأنّها ستكون مفروضة واستفزازية!
الانتماء البدئي الديني أو القبلي أو الإثني أو المذهبي، لا ينطوي على شروط بناء خيارات فكرية وسياسية واجتماعية سلمية. استخدامه سيقود إلى الغرائز والعصبيات والسلفية: التطرف هو الذي سيسود في النهاية.
يصبح رفع شعار المساواة واعتماده هو الرهان الصحيح، وربما الوحيد، لإنقاذ لبنان مما يتخبط فيه من انقسامات وحروب وفتن وعدم استقرار وأزمات وارتهان وتدخلات خارجية. أثبت الشعب اللبناني أنه قادر على الإنجاز. المقاومة أحد الأدلة الباهرة على ذلك.
لبنان لا يزال وطناً قيد الدرس. لا سبيل إلى بناء وطن سيد وحر ومزدهر بدون وحدة وطنية أساسها المساواة في المواطنية، والتوحد على الأساسيات، واعتماد الديموقراطية المنطلقة من الدستور والمكرسة في الممارسة والمؤسسات.
التلويح بخطوات «غير ميثاقية» هو انفعال لن يقود، في حال اعتماده، سوى إلى ما يعادل الانتحار. إنه ارتداد نحو الخلف لا تقدم نحو المستقبل. أما إذا كان المقصود إنشاء صندوق فئوي جديد للهدر والانتفاع على غرار الصناديق القائمة، فسنكون أمام مشكلة مزدوجة: التعامل مع ثروة وطنية واعدة على أنها ثروة لفئة من اللبنانيين دون سواهم، وتكريس الخلل بتعميمه بدل التصدي له من خلال عملية إصلاح وتغيير حقيقية.
* كاتب وسياسي لبناني