«كل شيء تحت السماء في فوضى عارمة؛ الوضع ممتاز»(ماو تسي تونغ)

في مقال أخير كتبه في مجلة «نيو ستاتسمن» اليسارية البريطانية، يحذّر الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك من مغبة الاستمرار باعتماد سياسات قومية «أنانية» من قبل دول العالم في ظل استفحال الأزمة البيئية التي باتت تهدد بقاء «البشرية جمعاء». وبعد أن يستعرض النتائج الكارثية للاحتباس الحراري، الناجمة عن نمط الإنتاج والاستهلاك الذي ساد على مستوى «كوني» منذ الثورة الصناعية، يوجّه جيجك نداءً مدوّياً للإنقاذ من الكارثة المحققة: «في اللحظة التي ندرك فيها أننا نعيش على المركب الفضائي نفسه، المهمة التي تفرض نفسها هي تمدين الحضارات نفسها، وفرض التضامن الكوني والتعاون بين الجماعات الإنسانية، وهي مهمة يجعلها التصاعد الحالي للعنف الطائفي والإثني، والاستعداد للتضحية بالنفس وبالعالم، شديدة الصعوبة. من المفترض أن يدفعنا الحد الأدنى من العقلانية في هذه الظروف الى ارتكاب الخيانة: أن نخون قضايانا وأن نرفض المشاركة في لعبة الحروب الدائرة. إن كنا حقاً مهتمين بمصائر شعوب بلداننا، ينبغي أن يكون شعارنا: أميركا آخراً، الصين آخراً، روسيا آخراً...». وللدلالة على المنطق «الأناني» الذي يعمق من مسببات الكارثة القادمة وعقمه، لا يدرج الفيلسوف السلوفيني سوى مثال واحد يراه نموذجياً: «أليست كوريا الشمالية الحالية، وسعيها العديم الرحمة لامتلاك الأسلحة النووية والصواريخ القادرة على ضرب أهداف بعيدة، خير تجسيد لمنطق السيادة المطلقة للدولة ــــ الأمة؟». الحقيقة هي أن موقف جيجك نموذجي في التعبير عن منطق قطاع واسع من النخب «التقدمية» الغربية، ينتابه الذعر من الأزمة البيئية وتداعياتها، لكنه مصر على تجهيل المسؤول الرئيسي عنها وعلى اقتراح علاج لها يفترض المساواة بالمسؤولية عنها، بحجة ضرورة إنقاذ «الإنسانية» بأكملها، وبأن تدفع الشعوب غير الغربية الأثمان الباهظة لهذا العلاج، وفي مقدمها التخلي عن سيادتها.

جميعنا بشر ولكن...
عالم اليوم، على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، هو نتاج لخمسة قرون من الهيمنة الغربية أولاً، ولصراع بقية دول وشعوب العالم غير الغربي معها ثانياً. الحداثة الرأسمالية الغربية مسؤولة فكرياً وعملياً عن الأزمة البيئية الحالية. لقد أسست هذه الحداثة، بالغزو والإبادة والقتل والتدمير والاستعباد والنهب البدائي للثروات، نظاماً عالمياً تراتبياً بين الأمم والشعوب لا يزال قسم عظيم من شعوب الجنوب يعاني منه اليوم. آثار الأزمة البيئية في ظل نظام الهيمنة التراتبي قد تكون «خطيرة» في الشمال لكنها «فتاكة» في الجنوب تماماً كما تنعكس السياسات النيوليبرالية تدنياً في القدرة الشرائية للطبقات الشعبية في الشمال ودماراً لقطاعات بأكملها من الاقتصادات ونكبة لكتل اجتماعية واسعة في الجنوب. يكفي التأمل في نتائج الكوارث البيئية، كالأعاصير والفيضانات والتصحر وفي انتشار الأمراض المرتبطة بالتلوث، كالسرطان والأمراض الرئوية، في دول الجنوب، للتيقن من ذلك. لقد تسبب هذا النظام، بفعل الحقبة الاستعمارية الطويلة، واستمرار سياسات الحرب والسيطرة ونهب الموارد، بأعطاب بنيوية عميقة في معظم البلدان المذكورة حيث يعاني أكثر من 815 مليون إنسان من الجوع حسب تقرير الأمم المتحدة الصادر سنة 2017، ويموت طفل من الجوع كل 11 ثانية حسب البرنامج الغذائي العالمي (World Food Program)، أي أنّ 2891174 طفلاً ماتوا منذ بداية هذا العام. على الكوكب الفضائي الذي يتحدث عنه جيجك، تعيش إنسانية من الدرجة الأولى على حساب إنسانية من الدرجة الثانية. لسنا إنسانية واحدة لأننا لسنا متساوين في الحقوق الأساسية.

السيادة لفرض الندية
قدّمت شعوب الجنوب، ولا يزال بعضها يقدم، تضحيات هائلة للخلاص من الاستعمار والتبعية واستعادة سيادتها لأنها الشرط الذي لا بد منه لفرض علاقات تقوم على الندية بدلاً من التراتبية المفروضة. استعادة السيادة لا تفترض فقط طرد الجيوش المحتلة، بل كذلك السيطرة على الموارد والثروات الوطنية والشروع في عملية تنمية وتطوير للصناعات، حتى لو كانت ملوثة، وبناء للقدرات العسكرية الرادعة، بما فيها تلك النووية، للتصدي للمطامع ولاحتمالات العدوان. لن تمنع الأزمة البيئية الدول الساعية إلى الاستقلال وإلى علاقات مع بقية دول العالم تقوم على مبدأ الندية، بدلاً من الاستتباع، من المضي في مشاريع تعظيم موارد القوة مهما كانت أثمانها. لن تجد نداءات جيجك آذاناً صاغية بين النخب الوطنية في هذا الجزء من العالم. حري به أن يطالب دول الغرب بالإقلاع عن سياسات الهيمنة وأن يدعو شعوبه إلى التحرك ضد أنظمتهم.

المساواة أو جحيم للجميع
يستخف جيجك بعقول أبناء العالم غير الغربي عندما يطالبهم بتحمل مسؤولية الكارثة القادمة، أسوة بالقوى الإمبريالية العاتية التي تسببت بها. أمر مستفز ومضحك في آن ذكره لكوريا الشمالية عند الحديث عن السياسات القومية وبناء القدرات الدفاعية ونسيانه للترسانة العسكرية الأميركية التي تفوقها بأضعاف مضاعفة والمخصصة للعدوان وشن الحروب على الآخرين وقتل الملايين في فيتنام واللاوس وكمبوديا والعراق وأفغانستان وغيرها. كوريا الشمالية لم تعتد على أحد ولم تموضع قوات وأسلحة نووية في جوار الولايات المتحدة. الخلاصة الثالثة التي تفرض نفسها هي أن إنقاذ الكوكب في ظل العلاقات الدولية القائمة بالفعل يشترط كخطوة أولى تعبئة الشعوب الغربية للضغط على أنظمتها من أجل تغيير سياساتهم حيال بقية العالم ودعم القوى غير الغربية في جهدها لتعديل موازين القوى للضغط في الاتجاه نفسه. أي كلام آخر هو محاولة للتضليل ومضيعة للوقت في ظل بداية العد العكسي نحو جحيم للجميع وليس للجنوب وحده.