الرصاص الذي أطلقته الخلية الفدائية التي نفذت العملية البطولية، مساء يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، مقابل مستعمرة عوفرا الواقعة شرق مدينة رام الله في الضفة الغربية المحتلة (أنشئت هذه المستعمرة عام 1975 على أراضٍ مسجّلة في الطابو على اسم مواطنين فلسطينيين من سكان قرى عين يبرود وسلواد) على تجمع يضم ما يقارب ألف مستعمر، بينهم عسكريون، يحملون المشاعل حول نصب أحد قتلى العمليات الفدائية التي تم تنفيذها سابقاً، هز بعنف شديد البنى السياسية والعسكرية والأمنية داخل التجمع الاستعماري الصهيوني. هذه البنى التي تعيش على وقع ارتدادات العملية البطولية التي نفذها الفدائي الشهيد أشرف نعالوة (الشبح، كما تحدثت عنه وسائل إعلام العدو) في المدينة الصناعية «بركان» قرب مدينة سلفيت داخل الضفة المحتلة. وقد أحدثت عملية «عوفرا» صدمة عنيفة داخل دوائر صنع القرار، وفي التجمع الاستعماري - الاستيطاني، ظهرت تداعياتها المُركبة: المؤلمة، والمُرعبة من حيث هروب العسكريين الموجودين مع المتجمعين حول النُصب، وعدم تعاملهم بالسلاح مع المجموعة التي كانت ضمن السيارة التي استُخدمت بالعملية.لم تخرج عملية «عوفرا» عن النهج الذي مارسه الفدائيون في عملياتهم الأخيرة، خصوصاً، في المدينة الصناعية «بركان»، من حيث دقة الاستطلاع والرصد في تحديد الهدف، وتوقيت لحظة التنفيذ لإيقاع أكبر عدد من الخسائر، والأهم، سرعة الانسحاب من دون خسائر. وعلى رغم الإجراءات الاستباقية التي يلجأ إليها العدو في الملاحقة والاعتقالات، كما كشف رئيس «جهاز الأمن الداخلي/ الشاباك» نداف أرغمان (عن نجاح أجهزة الأمن من إحباط نحو 480 عملية واعتقال 290 خلية) فإن نجاح عشرات العمليات خلال الأشهر الأخيرة، على رغم العمل الاستخباري والأمني الذي تتحمل جزءاً منه سلطة التنسيق الأمني، قد أكد أن إرادة المقاومة وعلى رغم كل محاولات التضييق عليها وتطويقها لن تنكسر ولن تموت. وهذا ما أكده التقرير الذي نشرته صحيفة «هآرتس» قبل بضعة أيام، وجاء فيه: «شهد النصف الأول من العام الجاري تنفيذ 7 عمليات إطلاق نار في منطقة رام الله ومحيط القدس. كما شهد شهر تشرين الثاني/ نوفمبر وحده 4 عمليات ومحاولات لتنفيذ عمليات، حيث أصيب 3 جنود في عملية دهس، إضافة إلى إطلاق النار تجاه حاجز الجلمة وإطلاق النار تجاه باص للمستوطنين قرب مستوطنة بيت إيل، ومحاولة تنفيذ عملية طعن قرب مفرق إلياس في بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، أيضاً».
كشفت العمليتان الأخيرتان («بركان وعوفرا») عن هشاشة البنية الأمنية المعادية التي تتوهم أنها تحكم المناطق المحتلة بقبضة عسكرية واستخباراتية لا مثيل لها. وأن من يقود تلك الأجهزة، جنرالات عسكريون مجربون قادوا عمليات الملاحقة والاعتقال والتصفية للفدائيين على مر السنوات السابقة. وهؤلاء يعملون في ظل نهج فاشي لحكومة يتزعمها أحد غلاة المستعمرين الذي يحاول الهروب من أزمة طاحنة في حكومته الائتلافية، نحو مغامرات استعراضية عسكرية على أكثر من جَبهَةِ مواجهة، من أجل تحسين وتمتين أوضاعه، في حزبه وتحالفه الوزاري. على الجانب الآخر، أضاءت نتائج العمليتين الأخيرتين بشكل خاص، ومعظم العمليات الفردية التي شهدتها السنوات الأخيرة منذ نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015 وحتى الآن، على حالة شعبية وفّرت للفدائي المُطارد أشرف نعالوة البيئة الصديقة والحامية ومظلة الأمان، على رغم استنفار عشرات الآلاف من الجنود وعناصر الأمن ومئات الآليات العسكرية التي ترافقت مع إجراءات القمع والاعتقال والقهر التي لم تتوقف عند عائلة وأقارب أشرف بل امتدت لتشمل أبناء بلدته والقرى المجاورة، قبل أن يستشهد قبل أيام. وقد أشار غيورا آيلند، رئيس مجلس الأمن القومي السابق وأحد كبار المخططين الاستراتيجيين، «كل عملية لا ننجح فيها بالقبض على المنفذ، كما حصل في عملية بركان يتصاعد الشعور لدى الشباب بالرغبة لتنفيذ عمليات كهذه – يقصد عوفرا). أما آفي ديختر، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، فقد تحدث عن تلك العملية واصفاً آثارها على التجمع الاستعماري/ الاستيطاني: «هي واحدة من أقسى العمليات التي خبرناها بالضفة». وهذا ما أكده المراسل العسكري في قناة «كان» الصهيونية، روعي شارون، بالقول: «لقد استخدموا بهذه العملية – عوفرا – سلاحاً تقنياً غير بدائي وباهظ الثمن، ونادر الانتشار بالضفة... هناك أرجحية كبيرة من خلال الحديث المتداول داخل الدوائر الأمنية، بأن هناك مجموعة مُدربة ومهنية، حصلت على توجيه من أعلى». ويمكننا، استناداً على ما يدور داخل المراكز الأمنية والسياسية والإعلامية، استخلاص بعض النتائج من تحليلات أولئك القادة، صُناع الرأي العام وأصحاب الرؤى الاستراتيجية:
ـــ التصعيد المتتالي في العنف الثوري المُسلح كخطوة متطورة على أشكال العنف الأخرى: السلاح الأبيض والدهس في الضفة المحتلة، يؤكد أن هناك برنامجاً للعمل بدأ تنفيذه بعد توفير واستكمال كل التجهيزات لانطلاقه، من تهيئة العمق البشري الصديق والجغرافي كمعرفة طبوغرافيا المكان، وتأمين السلاح، وتجهيز أماكن الاختفاء.
لم تخرج عملية «عوفرا» عن النهج الذي مارسه الفدائيون في عملياتهم الأخيرة


ـــ امتلاك الفدائيين جرأة غير عادية في المواجهة كما لاحظنا في السنوات الأخيرة، سواء باستخدام السلاح الأبيض والناري (الفدائيان غسان وعدي أبو جمل، والسلاح الأبيض/ مهند الحلبي)، والمسدس والبندقية كما في عمليات الفدائيين الأبطال نشأت ملحم وباسل الأعرج وأحمد نصر.
ــ الاهتزاز المستمر والثقوب الواسعة في ما أطلق عليه «مظلة أمن وسلامة المستوطنين» مما سيؤثر في تراجع استباحة أراضي الضفة على يد قطعان المستعمرين الفاشيين، ويهدد بالتالي ليس الاستقرار في المناطق المحتلة بعد عام 1967، بل سيتعداه ليؤثر في معدلات الهجرة للكيان والتي تشكو من التراجع في السنوات الأخيرة.
ــ ارتفاع بعض الأصوات التي تُشير إلى أزمة ثقة بالمستوى القيادي داخل الكيان، كما عبَّر عن ذلك المعلق العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، أليكس فيشمان: «عملية عوفرا هي قطعة من لغز مبهم... لدى شخص ما في المستوى السياسي مصلحة في إبقاء عين الجمهور على غزة وإبقاء أذنيه على ما يحدث في سوريا ولبنان... هناك يأخذون لأنفسهم صوراً مع الجنود ولا يتعاملون مع القضايا الأيديولوجية، إنهم يفضلون إبقاء التعامل مع الانفجار الأمني الذي يختمر ويزداد في الضفة الغربية بعيداً من الأضواء، وقد نجحوا».
لقد أكدت العمليات المسلحة الأخيرة، واتساع حجم المواجهات الشعبية التي يواجه بها الشباب الاقتحامات المتتالية للمدن والقرى الفلسطينية، مخاوف رئيس «الشاباك» أردغان حينما تحدث قبل أسابيع أمام لجنة الشؤون الخارجية والأمن عن الوضع في الضفة بأنه «حالة من الهدوء النسبي على وجه الأرض، إنه هدوء خادع ومعقد ومغاير تماماً لما يبدو عليه... إنما تحت السطح التوتر يتصاعد».
تأتي هذه الإنجازات الميدانية في الضفة وداخل قطاع غزة في الحشد الشعبي الكبير في مسيرات العودة وكسر الحصار، وفي المواجهة العسكرية مؤخراً، وفي تشكيل غرفة العمليات المشتركة. وكذلك في الإقليم: الانتصارات المتتالية لمحور المقاومة ولقوى التغيير. كل ذلك يأتي ليعيد رص الصفوف في مواجهة الهجمة الإمبريالية القائمة على الهيمنة والاستحواذ على ثروات الأمة، وعلى تواطؤ الرجعية العربية الحاكمة في تنفيذ الخطة الأميركية للتطبيع مع كيان العدو واعتباره «كياناً شرعياً ويجب الاعتراف به» بما يعني التنكر للشعب الفلسطيني بحقه بوطنه، والذهاب بعيداً في المشاركة بالمذبحة التي تُهيّأ للقضية والشعب.
إن مواجهة تلك الهجمة والمؤامرة والمذبحة، تتطلب العمل على تحقيق وحدة وطنية حقيقية تلتزم ببرنامج المقاومة وتُسقط كل أشكال الرهان على المفاوضات العبثية و«السلام» مع العدو، استناداً إلى صمود الشعب الفلسطيني وبطولات أبنائه وبناته، وبعيداً من نهج التنسيق الأمني، وإسقاطاً لمنطق «تجريم البندقية والصاروخ» في معركة التحرر الوطني.
* كاتب فلسطيني