ثمّة من يستعجل دفن التجربة المصرية، وإحالتها على الهامش. ومن يفعل ذلك يظنّ أنه حريص على «نقائها» وإبعادها عن «الحضيض» الذي يأخذها إليه العسكر. لنتفق أولاً أنّ الحضيض في مكان هو غيره في مكان آخر، فالثورة في تونس وصلت هي الأخرى إلى الحضيض، لكنها بخلاف مصر أفلحت في الإبقاء على «التوافق» سمةً أساسية بدلاً من القطيعة، ولذلك أقرّت دستورها «بسلاسة»، مبقية على الثورة «كقوقعة فحسب»، وكقوّة دفع للمسار السياسي «المحافظ» ليس إلّا.
في السياسة يعتبر الأمر نجاحاً باهراً، وقد حصل فعلاً أن اعتبره الكثيرون كذلك، لكن في الثورة لن تجد من يتحدّث عنه بالحماسة نفسها، إذ إنّ القطيعة هنا تؤول إلى عكسها، وتصبح الاستمرارية مع النظام القديم هي الأساس. وهذا بالتحديد هو ما يثير حفيظة الثوريين في مصر حالياً، فارتيابهم من المشهد لا يعود فقط للخشية من إحكام الجيش قبضته من جديد، بل أيضاً لسماحه في ضوء 30 يونيو وما تبعها بالخلط بين الثورة وعكسها. بمعنى أنّه استعان بحجّة ما حدث بالفلول على الإخوان، وبالتالي لم يسمح للقطيعة مع الماضي بأن تمضي قدماً. في تونس تجاوزوا هذه المسألة، ولم يقفوا عندها طويلاً، ولهذا السبب اعتبرت تجربتهم ناجحة، فجلّ الأحزاب الثورية هناك تتعامل مع حزب «نداء تونس» الذي يمثّل على نحو ما استمرارية لحزب التجمع المنحلّ، وتعتبره شريكاً أساسياً في المسار الانتقالي، وهو ما يتعذّر تحققه في مصر بفعل المنحى «الجذري» الذي أخذته الثورة بعد إسقاط رئيسين وحكمين في غضون أقلّ من عامين. بهذا المعنى يصبح الكلام على نجاح الثورة هنا وفشلها هناك نسبياً، ويغدو بالإمكان محاججة الداعين إلى تسفيه التجربة المصرية والحكم عليها بموجب مساطر جاهزة. لا يدرك هؤلاء أننا إزاء صيرورة تاريخية سواء في مصر أو في تونس أو في غيرهما من البلدان، وفي صيرورة كتلك ثمّة أثمان للتقدم، من جملتها أن تتراجع خطوة لكي تتقدّم خطوتين، وإذا نظرنا إلى تجربة السنوات الماضية فلن نجد أنّ تقدماً قد حصل بلا «دماء» أو صدام مع أجهزة السلطة المختلفة (جيش، شرطة، أمن... الخ). على ذاك الأساس، وفي ضوء هذا الفهم بالتحديد للصراع، تتقدّم مصر على تونس، فالتجربة التونسية كما نعرفها اتّسمت بالمحافظة الشديدة، وأحجمت على الدوام عن الصدام العنيف مع أجهزة الدولة، وفي «المرّات القليلة» التي حصل فيها الصدام (احتجاجات سليانة والقصرين وقفصة و... الخ) تدخّلت قوى نقابية وازنة (الاتحاد التونسي للشغل تحديداً) للتسوية بين الطرفين على قاعدة الانتصار للمجتمع بأقلّ ما يمكن من التضحيات. طبعاً، التدخّل لحقن الدماء مهمّ إذا كان سيفضي إلى إجبار السلطة على التنازل للمحتجّين والإذعان لمطالبهم. وهذا ما لم يحصل تماماً، بدليل بقاء حكومات النهضة طوال الفترة الماضية ومماطلتها بالحقوق الأساسية للمواطنين (الحقّ في العمل والسكن والصحّة و... الخ) حتى اللحظة الأخيرة. في مصر «حصل التقدّم»، لأنّ المواجهات دفعت الصراع خطوة إلى الأمام، فكانت تستمرّ أحياناً - بين السلطة والثوريين - لأسابيع، وبفضل هذا التجذّر المستمر أضحت بمثابة أيقونة وعلامة على الطريق (محمّد محمود، ماسبيرو، مجلس الوزراء، العبّاسية، معركة الجمل... الخ). ربما كان التدخّل لإيقافها أو لإيجاد تسوية لها «أفضل» بالنسبة إلى الضحايا وأهاليهم، بالنظر إلى الكلفة المرتفعة للصراع، لكنه - أي التدخّل - في الحالة المصرية ينطوي على حسابات مختلفة، فلا الجسم النقابي القادر على منازلة السلطة وإجبارها على التنازل موجود كما هي الحال في تونس، ولا النيّة للتراجع عن مسار القطيعة الكاملة مع النظام القديم واردة في حسابات الثوريين المصريين. في هذه الحال يصبح الكلام على تسويات بلا طائل، إذ إنّ حصولها بغياب جسم يحميها ويمنع توظيفها من جانب السلطة هو في أحسن الأحوال تنكّر للقطيعة التي باشرتها الثورة غداة إسقاط مبارك. ثم إنّ التسوية بفرض ترجيحها تقتضي وجود طرفين مستعدّين لخوضها، وهو بالتحديد العنصر الذي يفتقر إليه المشهد هناك، في ظلّ وجود سلطة تحتكر القرار فعليّاً، وتدّعي أثناء التفاوض مع الثورة أنّها تفعل العكس. هكذا كان يتصرّف المجلس العسكري السابق طوال الوقت، وكذا الإخوان حين أصبحوا في السلطة، فالحكم بمعزل عن «الشركاء الآخرين» وفي مواجهتهم غالباً كان القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً. ويتذكّر الثوريون جيّداً كيف كانت تحصل الاصطفافات لدى كلّ مواجهة مع الأمن والجيش. لنقل كذلك إنّ كلّ بطولات الثورة وعلاماتها الفارقة (باستثناء معركة الجمل) من ماسبيرو إلى العبّاسية إلى محمّد محمود قد ولدت وقتها، أي في اللحظة التي غاب فيها الإجماع، وترك الثوريون وحدهم في مواجهة مؤسّسات الدولة جميعها، بما فيها الجيش الذي تبدّل موقعه حالياً. والمضحك الآن أنّ الراديكالية الثورية التي تصاعدت بفعل اجتماع كلّ تلك العوامل معاً تنسب حالياً إلى الإخوان، وتوضع من جانبهم في خانة استعادة الثورة وتوحيد قواها المختلفة ضدّ «الانقلاب»! ينسى هؤلاء الفاشيّون أنهم أداروا ظهرهم للجميع حين أصبحوا في السلطة، وأنهم فوّتوا فرصاً ثمينة للتوافق على إدارة الحكم بمنطق الشراكة، وأهمّ تلك الفرص على الإطلاق واقعة فيرمونت في حزيران 2012. حينها قطع مرسي أثناء وجوده مع آخرين في فندق فيرمونت بالقاهرة وعوداً للمعارضة بجعلها شريكاً في السلطة، وهي المحاولة التي جرّبت على ما أظنّ استنساخ التجربة التونسية ونقلها إلى مصر، وبفشلها تأكّد أن فرص التسوية قد تلاشت تماماً، ولم يعد أمام الثوريين بالتالي إلا المواجهة على طريقة محمّد محمود. للتذكير فقط، فإنّ الجميع كان يعلم وقتها بأنّ الصدام سيستأنف من جديد، ولكنهم أرادوا أن يختبروا ممكنات التسوية لديهم، فهي وإن تكن ضئيلة إلا أنها ستوفّر عليهم إن حصلت أنهاراً من الدماء. المهمّ أنها لم تحصل، ولم تنضج بما يكفي، وفي ذلك توكيد على أنّ الاحتجاج هو الأساس في التجربة، وبعد ذلك تأتي الأمور الأخرى المتعلّقة بالسياسة ومساوماتها. على هذه الأرضية استؤنفت المواجهة ضدّ السلطة، وتصاعدت لاحقاً مع الإعلان الدستوري المنفرد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، لتبدأ سلسلة من الصدامات الدموية (واقعة الاتحادية، مجزرة بورسعيد، إحراق مقارّ الإخوان في المحافظات… الخ) التي سبّبت أكبر احتقان اجتماعي وطبقي ضدّ السلطة منذ إسقاط مبارك. لا بدّ من التذكير بهذا التسلسل للأحداث، فمن دونه يصعب على أيّ كان، لا على المصريين فقط، فهم الموجبات التي أتاحت للجيش أن يتدخّل، ويقطع مع فكرة الانتقال الديموقراطي التي ينظر إليها بوصفها «سمة المرحلة». وقد جرى أخيراً تثبيت هذا الفهم مع اكتمال تجربة الانتقال في تونس، والإسراف في مدحها على قاعدة أنّها الأكثر تعبيراً عن المجتمع وتعقيداته. فهي لم تهمّش أحداً على ما يقال، وتركت التطوّر الاجتماعي ينساب بنحو طبيعي، من دون تدخّلات، وبمعزل عن القطيعة التي حدثت أكثر من مرّة في مصر، وأفضت في النهاية إلى وضعية الانقسام التي تحكم الوضع هناك. ثمّة انقسام في تونس أيضاً، لكنه لم يكبح عملية الانتقال، وحين عرقلها جزئياً تدخّل الجسم النقابي الصلب المعادل للدولة العميقة في مصر (بالفعل هو كذلك إذا ما اعتبرناه المؤسّسة الوحيدة الضامنة للحمة المجتمع هناك) بقوّة، وفرض على الجميع أن يجلسوا معاً لإيجاد حلول وسط تنقذ الثورة وتمنعها من الاندثار. بهذا المعنى، لا تمثّل الثورة التونسية قطيعة فعلية مع الماضي، فحاملها الاجتماعي الأساسي المتمثّل بالاتحاد العام التونسي للشغل يغلّب بحكم تكوينه العابر للطبقات الاجتماعية التسوية على ما عداها، ولا يضع الصدام العنيف مع السلطة على الطريقة المصرية في أساس تصوّراته للحلّ في تونس. وهذه بالتعريف هي سياسة الممكن الاجتماعي والاقتصادي التي ميّزت تونس عن سواها، وجعلت منها قبلة التسوية والصراع السياسي السلمي في المنطقة.
والوضعية هنا بخلاف ما يعتقد استثنائية، فالأساس في الثورات والانتفاضات دائماً هو الصراع (وغالباً ما يأخذ طابعاً عنفياً)، وخصوصاً عندما يكون بين طبقات اجتماعية ناجزة، أمّا التسوية فهي لا تحصل إلّا بعدما ينتصر طرف على الآخر، وبالتالي تصبح ضرورية للحفاظ على تماسك المجتمع، وبلورة شكل الحكم الناجم عن انتصار الثورة أو «هزيمتها». في تونس لم نعرف بعد إذا كانت الثورة قد انتصرت أو لا، ومن يتحدّث عن «انتصارها» يتغافل عن الوقائع المثبتة التي تؤكّد أنّ ما حصل لا يعدو كونه تسوية مؤقّتة تريح الأطراف المتصارعة، وتضع أرضية لاستئناف الصراع على قاعدة دستورية أوسع، وأكثر تمثيلاً للطبقات التي نهضت بالثورة. وهذا جيّد بالنسبة إلى المجتمع التونسي فحسب، أمّا بالنسبة إلى المجتمعات الأخرى التي اختارت بسبب ظروفها أن تقطع أكثر مع الماضي، فليس هنالك وصفة محدّدة للحلّ. لا يعرف مثلاً إن كان المصريون سيمنحون ثقتهم بعد إقرار الدستور للمرشّح الرئاسي المعبّر عن الثورة وانحيازاتها (حمدين صباحي، إذا مضى في ترشيحه طبعاً ولم يتأثّر بحملات الأمن والفلول عليه)، أو لذاك الممثّل «للدولة العميقة» وبيروقراطيّتها (عبد الفتاح السيسي). وحتى لو انتصرت «الدولة العميقة» بأصوات أكثرية الناخبين، فسيكون انتصارها مؤقّتاً، لأنّ ممكنات الصراع لم تنته بعد، وبالتالي لن يكون «الاستقرار» الحالي أكثر من محطّة على الطريق من بين محطّات عديدة أخرى. فبخلاف تونس، لا تزال مصر تفتقر إلى القاعدة الاجتماعية العريضة التي تنحاز إلى «التسوية» بوصفها الأداة السياسية لتحصيل المكتسبات والحقوق المهدورة. الصراع الاجتماعي العميق مع الإخوان الآن يقول ذلك، وكذا الانحياز المستمرّ إلى القطيعة مع الماضي، بوجهيه الفلولي والإخواني. ثمّة من يضيف إليهما وجهاً آخر: العسكريتاري.
* كاتب سوري