كنّا قد توقفنا عند هذا الموضوع في مقالة سابقة تناولنا فيها بعض متعلقات الجانب التاريخي والديني لمكانة القدس والمسجد الأقصى عند المسلمين ومحاولة بعض المستشرقين الغربيين من ذوي الميول الصهيونية ومعهم نفر من الكتاب العرب والباحثين، اشتهر من بينهم د. يوسف زيدان، التشكيك فيها أو تسفيهها. وسنحاول في هذه المقالة توضيح خلفيات الموضوع وكيف تم تزوير وخلخلة رواية تاريخية إسلامية حول حادث وموضع معينين ونقلهما من سياقها إلى سياق آخر لتحقيق أهداف أخرى. فما حيثيات هذا الخلط، وما تفاصيل وخلفيات القصة التي رواها الواقدي لبناء قبة الصخرة في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهل حقاً أرادها بديلاً عن مكة يحج إليها المسلمون؟يوضح د. حسام الدين عفانة المقصود بالخلط الجاري لدى المستشرقين وسوء قراءتهم النصوص الإسلامية خصوصاً في خلطهم وسوء فهمهم لكلمة الأقصى والعدوة القصوى والدنيا فيقول: «روى الأزرقي بسنده عن زياد بن محمد بن طارق أخبره أنه اعتمر مع مجاهد من الجعرانة، فأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة قال: ومن ههنا أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لأعرف أول من اتخذ المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش سمَّاه، واشترى بمالٍ عنده نخلاً، فبنى هذا المسجد. قال ابن جريج: فلقيت أبا محمد بن طارق فسألته فقال: اتفقتُ أنا ومجاهد بالجعرانة، فأخبرني أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ما كان بالجعرانة، قال: وأما هذا فإنما بناه رجلٌ من قريش. ووفق هذه الرواية فثمة مسجدان في هذا الموضع الأول بناه الرسول أو أحرم من موضعه وهو مجرد مصلى وهو الأبعد أي الأقصى ويقع (من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة) والثاني هو الأدنى وقد بناه رجل من قريش لاحقاً بدليل عبارة (أما هذا ...)».
وذكر الواقدي أن «النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من المسجد الأقصى، الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، وكان مصلى النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالجعرانة، فأما الأدنى، فبناه رجل من قريش». وقال أبو الطيب المكي الحسني الفاسي: «ونقل ابن خليل عن ابن جريج أن الرجل الذي بنى المسجد الأُديني هو عبد الله بن خالد الخزاعي/ شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/384». وقال د. حسين الشافعي: «ورد ذكر مسجدين في الجعرانة، أحدهما بالعدوة القصوى من الوادي في موضع مصلى النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني بالعدوة الدنيا من الوادي، بناه عبد الله بن خالد الخزاعي/ المساجد الأثرية في مكة وما حولها (ص 41)»، أي أن كلمة «الأقصى» هنا وصفية، وليست عَلَمَيَّة، في مقابل «الأدنى» ولا علاقة لها باسم المسجد الأقصى، وهذا الحديث لم يروِه كبار رواة الحديث ولم يتكرر في كتب الحديث حتى جاء المستشرقون والباحثون الصهاينة في العصر الحديث فبحثوا عنه وأخرجوه من كتاب الواقدي أو الأزرقي وأطلقوه بعد أن حرّفوه ووضعوه في سياق آخر مختلف.
الطريف والمهم هو أن الواقدي الذي يحتج يوسف زيدان ورهطه بكتابه «المغازي» روى حديثاً نبوياً مهماً في هذا الكتاب يؤكد قدسية المسجد الأقصى في أورشليم القدس لدى المسلمين حين كانت فلسطين تحت الاحتلال الروماني، وهذا هو نص الحديث: «وقالت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم. فقالت: آتي بخفيرٍ يُقبل ويدبر. فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيتٍ يستصبح لك به فيه، فكأنك أتيته. فكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمالٍ يُشْتَرى به زيتٌ يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك» (المغازي للواقدي). ويرد الحديث بألفاظ أخرى قريبة في عدد من المصادر الإسلامية القديمة كهذا المصدر للواقدي المولود سنة 130هـ والمتوفّى سنة 207 هـ والمصادر المتأخرة.
إن الفكرة التي أطلقها د. يوسف زيدان وكرّرها بعده آخرون تقوم على ثلاث ركائز يُراد لها أن تتحول إلى مراحل عملية في التنفيذ، هي:
1-التشكيك في علاقة الإسلام والمسلمين والفلسطينيين مسلمين وغير مسلمين بالقدس «بيت المقدس» والمسجد الأقصى في السنوات الأولى من صدر الإسلام، كمقدمة لنفي أي صلة بين الطرفين ضمن خطة قطع الجذور التدريجي. وضمن هذه الخطة يجري تغيير جغرافية مروية الإسراء الدينية الإسلامية لتكون قد حدثت من المسجد الحرام في مكة إلى مسجد الجعرانة، وليس من المسجد الحرام إلى الأقصى في أورشليم - القدس كما هو ثابت وشائع.
2-تسييس وتهشيش العلاقة بين الإسلام والمسلمين بالقدس والمسجد الأقصى واعتبار وجود الأقصى مفتعلاً وطارئاً ومجرد بناء اقتضته ظروف سياسية صراعية خلاصتها هي محاولة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان صرف الناس عن الحج إلى مكة التي سيطر عليها عبد الله بن الزبير ببنائه قبة الصخرة، وإهدار السياق التاريخي للأحداث وخاصة بناء قبة الصخرة في زمن عبد الملك بن مروان وإهمال الاحتمال الراجح جداً الذي مفاده أن يكون عامة المسلمين قد ألفوا زيارة المسجد الأقصى بعد انقطاع الطريق إلى مكة بسبب الحرب بين الأمويين وابن الزبير، وهو أمر طبيعي وشائع يحدث في حالات استثنائية كهذه، بل لا يزال المسلمون يفعلونه حتى في عصرنا حتى إذا كان بوسعهم الحج إلى مكة بسهولة ويسر.
إن رواية التشكيك في نيات عبد الملك بن مروان لم ترد - كما يخبرنا د. عدنان إبراهيم - في المصادر الإسلامية من العهد الأموي الذي حدثت فيه الحادثة، بل قال بها بعضهم في العصر العباسي والمملوكي المتأخر، فهل يعقل أن يسكت مؤرخو العصر الأموي وهم بالمئات ولم يتركوا صغيرة وكبيرة لم يدونوها ويشرحوها، وقد دفع بعضهم حياته ثمن حريته وإيمانه الديني عن هذه الحادثة لو أنها كانت تنطوي على تجديف أو هدم لأحد أركان الإسلام وهو الحج إلى مكة واستبداله بالحج إلى بيت المقدس؟ أما المصدر الوحيد الذي روى هذه القصة وفصل في روايتها، فهو المؤرخ أبو العباس أحمد اليعقوبي المتوفى سنة 284 هـ الموافق سنة 897م، وفي رواية أخرى سنة 298 هـ، أي أنه من المتأخرين عن الحادثة وعن عصر ابن مروان المولود سنة 26هـ والمتوفى 87هـ أكثر من قرنين ونصف. وقال - اليعقوبي - ما معناه، إن ابن مروان، لما سيطر ابن الزبير على الحجاز ومنه مكة، منع الناس من الحج إليها وأمرهم بالحج إلى بيت المقدس، وبنى مسجد قبة الصخرة وأمر الناس بالطواف حولها وجعل لها سدنة وكساها بستائر من الحرير. هذه الرواية المفردة لم يقل بها أو يوردها في كتابه أي من كبار المؤرخين المسلمين كالطبري الذي كان مجايلاً لليعقوبي وقد فصل في أحداث الخلاف بين ابن مروان وابن الزبير تفصيلاً مسهباً، ولا البلاذري ولا غيرهما. الوحيد الذي كرر روايتها هو سعيد بن البطريق وهو مؤرخ أرثوذوكسي مصري من الإسكندرية توفي سنة 328 أي بعد وفاة اليعقوبي بأربعة وأربعين عاماً. والسؤال هو: لماذا لم ترد رواية اليعقوبي في كتب الطبري والبلاذري وغيرهما بتاتاً، أو أنها وردت بصيغة مقتضبة ليس فيها المعاني الواردة في رواية اليعقوبي والمنافية لثوابت الدين الإسلامي بجميع مذاهبه لأنها تمنع المسلمين من أداء ركن من أركان الإسلام الخمسة هو الحج إلى بيت الله الحرام في مكة؟
3-جعل الوجود العربي والفلسطيني والإسلامي والمسيحي طارئاً وغريباً في القدس التي ستعود - بموجب منطق وحملة د. يوسف زيدان وأمثاله - إلى الصهاينة «الإسرائيليين» المعاصرين باسمها «أورشليم»، رغم أن غالبيتهم الأشكنازية الخزرية لا ترتبط بأي صلة لا بالعبرانيين الجزيريين القدماء، ولا بأورشليم القدس، ولا بأرض فلسطين.
حتى كلمة القدس بوصفها اسم علم لمدينة القدس التي بناها اليبوسيون الكنعانيون قديماً وسموها «أورشليم، أورسالم» لم تكن ذائعة في صدر الإسلام، ففي العهدة العمرية ورد اسمها الروماني «إيلياء»، ويعتبر المؤرخ العربي المسلم محمد بن جرير الطبري من أهل القرن الهجري الثالث الهجري، من أوائل من استعمل هذا الاسم علماً للمدينة في قوله في معرض الحديث عن جالوت: «وكانا إذا جاءت النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن». وردت في قوله: «فسارت البقرتان سيراً سريعاً حتى إذا بلغتا القدس كسرتا نيريهما». ثمة دليل آخر أقدم من هذا، يعود إلى القرن الأول الهجري، فقد ورد اسما «القدس» و«بيت المقدس» في تفسير مجاهد بن جبر المولود سنة 21هـ والمتوفى سنة 104 للهجرة. وفيه يرد الاسمان في مواضع كثيرة نكتفي منها بالأمثلة التالية التي أورد بعضها الباحث الفلسطيني د. عدنان إبراهيم في ردوده الرصينة والمحترمة على د. يوسف زيدان، التي نشرها في تسجيلات فيديو وأضفتُ إليها ما أضفت من توثيقات ونصوص:
-تفسير مجاهد عبارة (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ) وهي جزء من الآية 58 من سورة البقرة، وفي تفسير كلمة «الباب» فيقول مجاهد، هو «باب إلياء بيت المقدس أمر قوم موسى أن يدخلوا الباب سجدا، ويقولوا: حطة...».
وفي سيرة ابن إسحاق المولود سنة 85 هـ، المتوفى 151 هـ، ورد اسم «بيت المقدس» مرّات عدة، خصوصاً في مواضع الحديث حول الإسراء. ومن تلك المواضع ما قاله ابن اسحاق مباشرة ومنه قول النبي في الرواية: «ثم جئت بيت المقدس فصليت»، وقوله: «ولما فرغت مما كان في بيت المقدس...». أما في ما نقله ابن هشام في سيرته، التي يمكن اعتبارها إعادة كتابة وتهذيب لسيرة ابن إسحاق، وهو كثير جداً، نذكر منه قوله: «وقال ابن إسحاق، ثم أسري برسول الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بين المقدس من إيلياء وقد فشا - في النسخة المغربية من سيرة ابن إسحاق يرد الفعل بالألف المقصورة: فشى، والأصح بالألف الممدودة - الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها» (سيرة ابن هشام).
-وفي «الموطّأ» لمالك بن أنس المتوفى سنة 179هـ وردت أسماء «القدس» و «بيت المقدس» و«المسجد الأقصى» مرات عدة خصوصاً في حديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى»، وهو حديث صحيح وثابت، ممن رواه الإمام علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو بُصرة الغفاري وآخرون.
-مسند الإمام عبد الله بن المبارك المتوفى سنة 181هـ، وفيه وردت أسماء «القدس» و«بيت المقدس» والمسجد الأقصى مرات عدة.
-كتاب «الأم» للإمام الشافعي المولود سنة 150هـ المتوفى 204. ومن مواضع ذكر القدس وبيت المقدس فيه باب من نذر أن يحج إلى «بيت المقدس» و«باب استقبال القبلة».
إنَّ كل هذه الأدلة الموثقة بأسماء المصادر وأرقام الصفحات تقدم رداً داحضاً وقوياً على «التحدي» الذي أطلقه يوسف زيدان وقال فيه ما معناه إنه يتحدى من أي كان أن يأتيه بدليل مكتوب من التراث الإسلامي يثبت أن اسم القدس أو بيت المقدس ورد في أي كتاب قبل سنة 250 هجرية، قد أصبح هباء ولا معنى له.
الطريف أن الواقدي روى حديثاً يؤكد قدسية الأقصى في أورشليم القدس


إن د. يوسف زيدان نفسه استدرك بعد ردود د. عدنان إبراهيم وغيره عليه، فاعترف أنه أخطأ باستعمال كلمة «يتحدى» وكان عليه أن يقول إنه «يتمنى»! ولكن ردوده اللاحقة أثبتت أنه معاند ولم يراجع رأيه البحثي أو يتراجع عنه، بل أصر عليه، وقدم رداً بالغ السذاجة لشديد الأسف، وقد يشعر المرء بالحرج الشديد من إيراده ونسبته إلى باحث يحمل شهادة الدكتوراه في الإسلاميات، إذ قال، وسأنقل كلامه حرفياً من تسجيل فيديو له، «لنفترض أنه - د.عدنان إبراهيم -دمر كلامي خالص، وأنني كنت غلطان مائة بالمائة فهل استرد هو القدس؟».
هل هذا كلام علمي أو نصف علمي أو حتى شبه علمي ينطق به باحث رصين؟ أما القائمة الطويلة من الأدلة والمصادر التي ذكرها د. عدنان إبراهيم وآخرون في ردودهم، فلا يبدو أنها حققت أمنية د. زيدان في العثور على المصادر التي يريدها، فقد رد عليها بحركة التفاف مفادها أن كل هذه الأدلة لم تصلنا كما هي وكاملة بل أعيد نسخها وكتابتها في أزمان لاحقة وأن نقلها ونسخها من أوراق البردي وغيرها إلى الورق قد تم لاحقاً وبشكل لم يكن دقيقاً، فما هو دليله على انعدام الأمانة في النقل والتأليف، ولماذا لا يطبق هو نفسه هذا الشطب على صدقية الوثائق التراثية على مزاعمه واقتباساته المعاكسة!
وأخيراً يمكن لنا أن نتبين تهافت هذه الخرافة أو الفرية المفبركة عن أن الرواية الدينية الإسلامية عن الإسراء إنما وقعت من مكة إلى الجعرانة التي لا تبعد عن الحرم المكي سوى 25 كيلومتراً، فهل تستحق هذه المسافة إسراء إليها بواسطة ما تسميها الرواية الإسلامية «دابة سماوية» اسمها البراق، وهي خارقة السرعة بدليل اشتقاق اسمها من البرق؟
(هذه المقالة جزء من دراسة مطولة ستنشر كملحق في كتاب «موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي»)
* كاتب عراقي