الأزمة المشتعلة في فنزويلا تكاد تلامس أجواء الحرب الباردة بالتصعيد على حافة التدخّل العسكري المباشر. لم تتورّع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن التلويح بمثل هذا الخيار باسم الدفاع عن الحرية دون أن يكون الكلام مصدقاً، فلم يُعهد عن هذه الإدارة أيّة عناية بقضايا الحريات وحقوق الإنسان في أميركا اللاتينية ولا غيرها. كالعادة هي المصالح الاستراتيجية لا المبادئ الإنسانية، استعادة مناطق النفوذ القديمة في «حديقتها الخلفية» لا وعود الديمقراطية وإرساء قواعد الدول الحديثة، وقبل كلّ شيء وضع اليد عنوة على ثروات النفط الهائلة في فنزويلا.في الأزمة اختبار حقيقي لنظام دولي لم تستقر قواعده الرئيسية ولا استبانت ملامحه الأخيرة رغم مضي عقود على نهاية الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفييتي السابق. ما هو سائل في العلاقات الدولية وموازين القوى يرجّح التصعيد في الأزمة الفنزويلية إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وبعض السيولة حولها براميل بارود تنذر بحروب أهلية، أو انقلابات عسكرية برعاية الاستخبارات الأميركية، كأنّها ردة كاملة عن التجربة الديمقراطية في العقدين الأخيرين.
هناك قيود لا يُستهان بها تجعل من التدخّل العسكري المباشر أمراً عصيّاً على التنفيذ، فالكلفة الاستراتيجية سوف تكون باهظة والمقاومة المتوقعة قد تجعل من فنزويلا مستنقعاً أميركياً يشبه ما جرى في فيتنام، كما لا يوجد غطاء سياسي أوروبي أو داخل القارة لمثل هذا التدخل رغم اعتراف تسع عشرة دولة أوروبية وعشر دول لاتينية بإعلان رئيس البرلمان خوان غوايدو نفسه رئيساً انتقالياً.
السيناريو الأرجح: الانقلاب العسكري.
يعترض هذا السيناريو واقع أن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يتمتّع بولاء قيادات المؤسسة العسكرية، لكن لا أحد يعرف ما قد يؤول إليه التصعيد بالضغوط الاقتصادية والسياسية لتفكيك النظام من داخله. هناك دعوات أميركية معلَنة للانقلاب على مادورو، وهو خيار تحبّذه دول الاتحاد الأوروبي. لم يتردّد غوايدو في تبنّي الخيار نفسه، أجرى اتصالات مع قيادات عسكرية وأمنية، ودعاها إلى التمرّد وإعلان ولائها له.
بالنظر إلى الانقسام الفادح في المجتمع الفنزويلي، بالمظاهرات والمظاهرات المضادة، والضغوط الدولية من أطراف متباينة، بما فيها الدول التي تدعم نظامه، التزم مادورو درجة لافتة من ضبط النفس خشية أن يسوء موقفه ساعياً بدوره إلى تعزيز مركزه داخل الجيش الفنزويلي. بعد وقت أو آخر سوف تنكسر المعادلة ويلوح شبح الحرب الأهلية في الشوارع المحتقِنة. بتلخيصٍ ما فإن طرفي الأزمة يعوّلان في الحسم على الموقف الأخير الذي يتّخذه الجيش.
هل يحتمل العالم تراجع القيم الديمقراطية والاجتماعية التي صاحبت صعود اليسار اللاتيني؟


مادورو يستند إلى إرث سلفه الزعيم الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز، وهو شخصية كاريزمية وضابط سابق قام بانقلاب عسكري فاشل، لكنه نجح في كسب الانتخابات الرئاسية وفق برنامج اجتماعي يساري يناهض السياسات الأميركية ويدعو لوحدة القارة مستلهماً تجربة جمال عبدالناصر في مصر – كما أعلن أكثر من مرة. مادورو ليس تشافيز وعيوب نظامه تساعد على التصعيد ضدّه ومحاولة التخلّص منه. وغوايدو مدعوماً من الإدارة الأميركية يراهن على أن الانقلاب المحتمل سوف يسلّمه السلطة ثم يذهب إلى حال سبيله، وهو سيناريو يصعب التسليم به.
عودة الجنرالات إلى السلطة العليا في دول أميركا اللاتينية كابوس حقيقي بقارّة دفعت أثماناً غير محتملة للتخلّص من هذا النوع من الحكم، الذي استنزف مواردها ونكّل بمواطنيها وأتبع قرارها لما تقرّره الولايات المتحدة دون النظر لمصالح بلدانها. لم تكن مصادفة أن اللاتينيين هم الذين أسسوا مدرسة «نقد التبعية» في الدراسات الاقتصادية ولا أنّ أدباءهم الكبار تولّوا كشف ما جرى لبلدانهم من تنكيل وإذلال وفساد ممنهج في قمة السلطة، التي بدت كدمى «الماريونيت» تحرّكها الاستخبارات الأميركية.
في مواجهة نظم التبعية المتوحشة نشأت حروب العصابات التي قاتلت في الأحراش وألهمت جيلاً كاملاً، وكان أرنستو تشي جيفارا أيقونتها، وبزغ من داخل الكنيسة الكاثوليكية «لاهوت التحرير»، الذي تأثّر به رأسها الحالي البابا فرنسيس.
كان التطور الأكثر جوهرية في قصة القارة المليئة بالمآسي الانتقال من حرب العصابات إلى الوسائل الديمقراطية، التي أفضت إلى قدر كبير من الاستقرار السياسي ومعدلات النمو وتوزيع أكثر عدلاً للثروات الوطنية. اجتاحت الدول اللاتينية على مدى عقدين موجة يسارية وُصفت بـ «الوردية»، غير أن قاعدة شعبيتها أخذت في التآكل تحت وطأة الفساد وسوء الإدارة في كثير من التجارب، وبينها التجربة الفنزويلية. لم يكن الحصار الاقتصادي، الذي فرضته الولايات المتحدة، السبب الوحيد للأزمة المتفاقمة في أغنى دولة لاتينية بمخزونها النفطي وأكثرها معاناة إنسانية بمعدلات الهجرة خارجها.
هناك مشاعر إحباط متزايدة بسبب ارتفاع معدلات التضخم والبطالة إلى حدود غير متصوَّرة، وانقسام اجتماعي وسياسي يستعصي على الترميم، وشروخ عميقة في القواعد الدستورية تمنع فرص أي توافق وطني. الدساتير ليست نصوصاً تُكتب بقدر ما هي قواعد تلزم. إحدى معضلات فنزويلا غياب أية قواعد دستورية يمكن التوافق عليها لإنهاء الأزمة بالوسائل السياسية على ما يدعو الأنصار الدوليون لمادورو بما يشبه الإجماع. هكذا جرى الاستثمار في بنية النظام لتقويضه بالكامل وتصفية الحسابات مع إرث تشافيز الاشتراكي والتحرري. وهكذا بدت الصورة عبثية تماماً في الأزمة الداخلية المتفاقمة – زعيم المعارضة يعلن نفسه رئيساً بغير أساس دستوري وديمقراطي، والولايات المتحدة ودول غربية أخرى تعترف به دون أيّ اعتبار للقانون الدولي، وكلام حول مساعدات إنسانية وأغذية وأدوية بقيمة عشرين مليون دولار شرط أن يتسلّمها غوايدو عبر المنافذ الحدودية ويوزّعها بمعرفته فيما يرفضها مادورو قائلاً: «لسنا شعباً من المتسوّلين ولن نكون»، والأخطر تحريض الجيش على الانقلاب وقد تجاوز أية تقاليد واعتبارات.
هناك شيء من الترتيب المسبق هُندس لتصعيد الأزمة والدفع بها للانفجار. بغضّ النظر عن أية تقويمات موضوعية، أو غير موضوعية، لنظام الرئيس مادورو فإنّ التدخل الأميركي يستفزّ قوى المقاومة في القارة اللاتينية. وفق قاعدة أن لكل فعل ردّ فعل يساويه في القوة ويضاده في الاتجاه، كان إعلان كوبا التعبئة العامة للدفاع عن فنزويلا ضد أي تدخل استعماري أميركي إشارة مبكرة لما قد يحدث إذا ما أفلتت الحوادث من عقالها. كما كان التحذير الروسي من محاولة شرعنة اغتصاب السلطة إشارة أخرى إلى التعقيدات الدولية المحتملة على مسرح سياسي مفعم بالمخاطر والمخاوف. ما قد يحدث في فنزويلا يتجاوز أثره حدودها إلى أسئلة كبرى لا يمكن تجنّبها: هل يحتمل العالم كلّ هذا التراجع في القيم الديمقراطية والاجتماعية، التي صاحبت صعود اليسار اللاتيني قبل انكساره، وزيادة النزعة اليمينية الشعوبية التي بدأت تتّسع بعد انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وعودة جنرالات أميركا اللاتينية للحكم بانقلابات تهندسها الاستخبارات الأميركية؟
* كاتب مصري