لم يعقد السوريون كثيراً من الآمال على «جنيف 2». لم يكونوا يرون فيه أكثر من مماحكات كلامية لا ترقى حتى إلى لغة التفاوض السياسي، في وقت كان فيه التصعيد الإعلامي وتمسك كلا الوفدين بثوابتهما المحددة سلفاً، هو الطاغي. وبقدر ما كان الطرفان يراهنان على التحولات والمتغيرات الميدانية، فإنهما كانا يعتمدان في مواقفهما على تحالفاتهما الدولية والإقليمية الداعمة. فالمفاوضات في جوهرها كانت تدور بين واشنطن وموسكو من طريق الوفدين المشاركين.
فموسكو تريد من المؤتمر تكريس بقاء النظام عبر مقولة مواجهة الإرهاب أولاً، فيكون بالتالي كل حديث عن الانتقال السياسي عبارة عن تشجيع الإرهاب. بينما مسألة الخلاف على طبيعة النظام السوري واختيار قياداته من وجهة نظر الروس، هي مسألة يحلها السوريون في ما بينهم ضمن «ظروف الواقع الراهن». بينما واشنطن تريد تغيير النظام عبر تشكيل هيئة انتقالية ذات صلاحيات كاملة تتوافر فيها مصالح «أصدقاء الشعب السوري» عبر السوريين الذين جرى توظيفهم أو فرضهم في هذا الجسم السياسي أو ذاك. بالتالي، إن أي كلام بالنسبة إلى هؤلاء عن محاربة الإرهاب يعني إطالة عمر النظام. ويشاطرهم ذات التوجه أمراء الحرب ومن يحكمون باسم محاربة النظام مناطق كاملة بقوّة السلاح ويجمعون ثروات طائلة من الدعم والمساعدات الدولية...، وكذلك من أثرى جرّاء العقوبات الاقتصادية على سوريا والمتاجرة غير المشروعة والتهريب.
لقد بات واضحاً أن اختراق الأفق المسدود للأزمة السورية يحتاج إلى جهود أطراف دولية ومحلية تدرك التبعات الكارثية للأزمة وتداعياتها على دول الجوار، وأن يكون لدى هذه الأطراف الدافع لإنهاء الأزمة لا إدارة الصراع. وإن كان من الصعوبة بمكان تغيّر مواقف الدول الضالعة في الأزمة، فإن على السوريين تقع مسؤولية تشكيل توافق سياسي من منظور المصالح الوطنية العليا، ويعمل على تحويل رأي الغالبية الساحقة من السوريين إلى ثقل سياسي يُسهم في تغيير موازين القوى القائمة. أما وإنّ المؤتمر انفضّ على لا شيء، وهذا ليس بمستغرب، فإن المستقبل يبقى مغلفاً بالمجهول. وبانتظار الوساطات الدبلوماسية الدولية والتدخلات التي من الممكن، كما يتوقع البعض، أن تحرز بعض الاختراقات في مواقف كلا الطرفين المتفاوضين في جولاتهم القادمة. إذ إن مواقف كلا الوفدان السوري والائتلافي لم يطرأ عليها أي تعديل. فالأول يرفض مناقشة البند الخاص بتشكيل الهيئة الانتقالية إلا في سياق مناقشة وثيقة «جنيف 1» بالترتيب، وأولها وقف العنف و«مكافحة الإرهاب»، فيما الثاني يريد القفز مباشرة إلى مناقشة البند الخاص بتأليف الهيئة الانتقالية، لكونها تمكنه من تسلم السلطة.
ومع تعذر بروز مؤشرات على إمكانية تحقيق أي اختراق سياسي جدي، يبدو أن لقاء ميونيخ معني في إدارة الصراع السوري، ويتجلى هذا عبر نقاشه لإمكانية توسيع وفد المعارضة في الجولة القادمة من مباحثات «جنيف 2»، وهذا ما ستظهر نتائجه بعد زيارة رئيس الائتلاف إلى موسكو في 4 شباط. في وقت لم يستبعد فيه نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف بحث مسألة تشكيل «هيئة حكم انتقالي» خلال الجولة الثانية من المفاوضات، لكنه شدد على أن «القرار يجب أن يؤخذ على أساس موافقة الطرفين». وحتى يحين الموعد الذي حُدِّد في العاشر من شباط الجاري، فإننا نرى أنّ من الضروري توضيح بعض النقاط التي نرى أنها من الممكن أن تُسهم في إخراج الأزمة السورية من عنق الزجاجة.
إنّ وفد «الائتلاف» لم ولن يكون الممثل «الوحيد والشرعي» للشعب السوري، ولا حتى للمعارضة، وادعاءاته بأنه يمثل الشعب السوري أكل الدهر عليها وشرب. فداخله لم يكن ولن يكون موحداً، وتكرار الانسحابات والانشقاقات يدلّ على تآكل بنيته الداخلية المهددة بالانهيار، وغياب الانسجام والتماسك بين مكوناته، ورفض الممارسة الديموقراطية. كذلك إن ارتهانه لقوى دولية واعتماده على القوة العسكرية وحتى على التدخل الخارجي إن اقتضت الظروف لتغيير النظام بغية استلام السلطة، جعل منه طرفاً سياسياً مرفوضاً من قِبل الغالبية المطلقة للشعب السوري. والدول الداعمة تعلم ذلك، وتدرك أن الحل العسكري بات شبه مستحيل. ورغم ذلك تلوّح بين فترة وأخرى بدعم بعض الأطراف المقاتلة «المعتدلة»، وما صرحت به الولايات المتحدة أثناء انعقاد المؤتمر بأنها ستعيد تسليح بعض الكتائب المقاتلة في الجنوب السوري تحديداً، كان هدفه إعطاء الوفد الائتلافي جرعة من القوة الافتراضية، وبذات الوقت محاولة لإجهاض المؤتمر في مهده، لكن البعض يرى في أنه يشكّل محاولة للضغط السياسي على الوفد الحكومي، وهذا ليس خطأً بالكامل.
فأعضاء الائتلاف يدركون أن معاناة الشعب السوري باتت لا تحتمل. أما الخروج منها، ليس كما يتوهمون بأولوية تشكيل هيئة حكم انتقالي. وهم يدركون قبل غيرهم، أنها لن تكون قادرة على ضبط إيقاع التحولات الميدانية، لأن المقاتلين من الفصائل والكتائب المسلحة لا يقيمون وزناً للمؤتمر، ولا يعترفون به ولا بنتائجه ولا بالمشاركين. ومما يزيد من إشكالية الهيئة الانتقالية، افتقادها القدرة التمثيلية، ورأي الغالبية الذي يميل إلى اعتبار أن هذه الهيئة فيما لو تشكلت على أساس المعطيات الراهنة، ستكون صنيعة دولية وأداة لتنفيذ مصالح سادتها الدوليين. وهذا يفقدها الدعم الشعبي والسياسي، ويجعلها فاقدة للفاعلية والصدقية بذات اللحظة.
من جهة ثانية، إن الوفد الائتلافي بالكاد يمثل ذاته، لذلك فهو لا يرقى لأن يكون ممثلاً للمعارضة، نتيجة مواقفه السياسية، وانقسام مكوناته على ذاتها. لكن لدعم القوى الدولية له، أسباب ومبررات ليس لها أية علاقة بمصالح السوريين. وتدرك القوى الداعمة للائتلاف أن غالبية السوريين، وكذلك المعارضة الداخلية، لا يعترفون بتمثيل الائتلاف لهم. وبالرغم من أن موسكو غير مقتنعة بوفد الائتلاف، لكنه بوضعه الحالي يتيح لها إمكانية الضغط لتوسيع هامش المعارضة اليسارية والليبرالية والعلمانية، بالتالي تقليص دور الائتلاف. ويبدو أن هذا طرح على جدول أعمال مؤتمر ميونخ. وهذا يدلّ على إمكانية توسيع الوفد السوري المعارض الذي من المتوقع أن يشمل أطرافاً كردية. وهذا ضروري؛ لأن الأكراد يشكلون أحد مكونات النسيج الاجتماعي والسياسي السوري، وتجاهل دورهم في رسم مستقبل سوريا الموحدة يعوق أي عملية سياسية.
وعلى هذا الأساس، بات من الضروري اعتراف كافة القوى السياسية المعارضة، سواء من شارك منها في المؤتمر أو من ينتظر دوره، بأن إيقاف العنف ومكافحة الإرهاب وإخراج المجاهدين الأجانب والتوصل إلى توافق أممي يمنع تمويل الفصائل الجهادية التكفيرية، يشكّل مدخلاً لحل أزمة الشعب السوري. وتجسيد هذا التحوّل يتعين واقعياً من خلال التنسيق والتعاون المشترك بين الأطراف السياسية المعارضة والحكومة السورية والمجموعات المقاتلة التي تعتبر نفسها وطنية وتدافع عن مشروع وطني وتتمسك بوحدة سوريا ومستقبلها الديموقراطي. وقد بات من المعلوم أنّ الأطراف الجهادية غير السورية، تشكّل اليد الضاربة للأطراف الدولية في العمق السوري. لذا فإن تجاوز هذا الواقع لا يقف عند حدود التسويات الجزئية، رغم أهميتها. بل يستدعي وضع خطط لكيفة إنهاء الصراع بشكل كامل وشامل، ذلك في إطار استراتيجي يعتمد التنسيق مع الأطراف الوطنية. وهذا يحتاج إلى تعهدات دولية تضمن تجفيف مصادر التمويل والدعم للمقاتلين، ووضع آليات لكيفية التعامل مع هذه المجموعات، بأشكال تحقن دماء السوريين، ومن الممكن أن يشكل مجلس الأمم والدعم الأممي غطاءً مقبولاً لذلك.
لكن من الضروري أن تتزامن هذه التحولات مع تشكيل هيئة حكم انتقالي، تعبّر عن المجتمع السوري وكامل الطيف السياسي المعارض، وتحديداً من هم في الداخل. وهذا يفترض من كافة الأطراف السورية الإقرار المتبادل بأن مصلحة السوريين تكمن في الحفاظ على وحدة الأرض ومحاربة الإرهاب وتشكيل حكومة وطنية تدير شؤون البلاد وتضع الأسس الأزمة لدستور جديد ينظم الحياة السياسية، ويضمن إطلاق الحرية السياسية ويوفر إمكانات التحول الديموقراطي والأطر الديموقراطية لقوانين انتخابية، ويكفل تحقيق العدالة الاجتماعية... لكن ما نفترض أنه يشكّل ضرورة ملحة لإنجاز أي حل سياسي، هو الحوامل السياسية والاجتماعية السورية للتحول الديموقراطي، وتحوّل رأي الأغلبية الشعبية الصامتة إلى قوة سياسية فاعلة. وهذا يستدعي تحوّل القوة الذاتية الكامنة إلى قوة فعل، توفّر العوامل والشروط الإقليمية والدولية المناسبة. ونظراً إلى تشتت المعارضة وانقسامها على ذاتها عمودياً وأفقياً، وكذلك ارتهان بعض أطرافها إلى قوى دولية وإقليمية ضالعة، وموقف النظام الرافض لأي تحوّل ديموقراطي حقيقي، فإن الأزمة السورية ذاهبة إلى مزيد من التصعيد. فالقوى الدولية تستسهل هدر الدم السوري، عبر قتل السوريين لذاتهم وبالوكالة، بغية تهديم كيانية الدولة وتقسيمها إلى كانتونات ذات أبعاد عشائرية وعرقية ومذهبية بغية تحقيق مصالحها المرسومة سلفاً. ورغم أهمية المواقف الدولية، إلا أنها في أغلب الأحيان تكون محمولة على مخاطر كبرى نتيجة تناقض المصالح. وهذا لا يعني تغييب أو تجاهل دور هذه الدول في علاج الأزمات الدولية. لكن ارتباط الأزمة السورية بأطراف دولية فاعلة، يستدعي في لحظة معينة الاستفادة من الدور الإيجابي لهذه الأطراف، لكن تحت مظلة أممية، وبعيداً عن فكرة إدارة الصراع. فمأساة السوريين تكمن في تحوّل الصراع الداخلي إلى صراع دولي وإقليمي.
ومن هنا نرى ضرورة تآلف الوطنيين من المعارضة والحكومة وبشكل أساس الشعب الذي أنهكه الصراع الدموي الأعمى والمجنون. والتوافق على ضرورة إيقاف العنف، ومحاربة الإرهاب وتمكين آليات التغيير السياسي ديموقراطياً، بحيث تتمثل مقدماته في معالجة الواقع الإنساني بكل أبعاده ومستوياته.
ما نود تأكيده قبل متابعة المفاوضات الماراثونية كما يريدها البعض، هو تحالف كافة الأطراف السورية على أهداف الشعب السوري، وليس فئة منهم أياً تكن هذه الفئة. وهذا يستدعي تصويب أهداف المعارضة وتنظيم آليات عملها وإعادة هيكلة ذاتها على أساس وطني وديموقراطي. أما بخصوص الوفد الحكومي، فيجب أن يدرك مسؤوليته الوطنية عن توفير الانتقال السياسي الديموقراطي، رغم أن هذا يشكّل إلى المتنفذين في السلطة خسارة كبرى. لكن هذا لا يعني شيئاً أمام إخراج السوريين من أزمتهم. فالجميع بات يدرك أن الانتقال إلى نظام ديموقراطي يحقق العدالة الاجتماعية، بات يشكّل مطلباً لجميع السوريين، وإن صمتوا عن ذلك إلى حين.
أخيراً، تتحمل كافة الأطراف السورية مسؤولية الارتقاء إلى درجة المسؤولية الأخلاقية التي تمكنهم من رسم مستقبل سوريا الديموقراطي، بغض النظر عن مصالحهم الذاتية. فلا محاربة الإرهاب وحدها تشكل مدخلاً لحل سياسي ديموقراطي كما يدّعي الوفد الحكومي، ولا انتزاع السلطة يمكن أن يشكّل مخرجاً من الأزمة ومدخلاً إلى نظام ديموقراطي كما يدّعي الوفد الائتلافي. لذا نحن بحاجة إلى مزامنة كلا الهدفين محاربة الإرهاب وتشكيل حكومة وطنية ديموقراطية تكون قادرة على اجتراح الحلول الكفيلة بوضع حد لمعاناة السوريين السياسية والاقتصادية والإنسانية. وهذا يحتاج إلى دعم أممي مسؤول ومحمول على قيم أخلاقية رفيعة. لكن هذا لا يعني شيئاً، في حال عجز السوريين عن التوافق على الهدف الذي يُجمعون عليه للخروج من الأزمة التي تطحنهم. فالمدخل إلى الحل يحتاج إلى تمكين جسور الثقة المتبادلة تمهيداً للبدء بحوار شامل بين السوريين داخل سوريا. وهذا لا يخالف ما يذهب إليه السيد الإبراهيمي «للوصول إلى تطبيق بيان جنيف عليهما التوصل إلى اتفاق دائم وواضح على وضع حد للنزاع، وعلى إقامة هيئة حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية، بالإضافة إلى خطوات أخرى أبرزها الحوار الوطني وإعادة النظر في الدستور والانتخابات».
* باحث وكاتب سوري