يختزن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان كلّ معاني التناقض المطلوبة للتغيير، إلّا أنه لا يحصل، بفعل تركيبة طائفية تحافظ عليها أطراف السياسة للحفاظ على مصالحها وبقائها. وليس من باب مصادرة النتائج القول إن حكومة هنا أو هناك لن تحقّق المعجزات بسبب عدم التصدّي للمشاكل الحقيقية لا بل عدم الاعتراف الحقيقي بها. فمثال الطبقة السياسية التي تدير شؤون الدولة والناس كمثال الخليفة العباسي المستعصم حين حاصره هولاكو المغولي. فقد اجتمع لدى الخليفة رجال السياسة وبينهم وزيره ابن العلقمي لتحذيره من خطورة الوضع فما كان منه إلا أن ردّ قائلاً: «لا تخافنّ تهديد المغول فإنهم لا يملكون سوى الهوس في رؤوسهم والريح في أكفّهم». وجلّ ما قام به بعدها إرسال الهدايا لهولاكو مرة ورسالة يحذّره فيها من شؤم ما حصل لمن أراد العباسيين بسوء وأخرى يطالبه بوقف زحفه عند حدود معيّنة، أما بقية القصة فتعرفونها. تجاهل أمراء الحرب اللبنانية بعد اتفاق الطائف المشاكل الفعلية للبنان من البنية القانونية إلى الاقتصاد والمجتمع. وناب عن التصدي لمعالجة هموم الناس بنظرة استراتيجية العمل على جعل الإدارات الرسمية مواقع تابعة لهم. وبدل التفرّغ لرسم سياسة الإنتاج الوطني استعاضوا عنها بسياسة الاقتراض المخيفة ضمن صفقة جمعتهم على تقاسم مغانم السلطة وعائدات الدولة.
ومن أبرز مصاديق الفساد في التسعينات الطريقة التي أُديرت بها السياسة المالية حيث سيطرت النزعة الرأسمالية فاستدرجت الدولة القروض من البنوك الخاصة بنسب فوائد مخيفة، ولم يُعنَ الساسة بأثر ذلك على بنية الاقتصاد والمجتمع فتضخّمت بفعل هذا طبقة الأغنياء الذي يعيشون على ريع الأموال، وتشابكت مصالحهم مع مصالح أهل السياسة بل كان أهل هذه الطبقة في أحوال كثيرة هم أنفسهم من يتوّلون الوزارات ومقاعد النواب. لم يعتنِ هؤلاء بخلق اقتصاد فعليّ وآليات منع الهدر والمحاسبة. وبرغم الذرائع المختلفة للواقع الذي ساد في لبنان من 1990 إلى عام 2005، فإن البلاد تقف على هوّة سحيقة قد تدفعها الديون غير القابلة للإيفاء إلى حدّ الارتهان لسنوات طويلة.
حجم الأموال التي ضخّت لإعادة الإعمار وتسيير مرافق الدولة كان أكبر من أن يواكبه تغيير اقتصادي واجتماعي سليم


لن يُسمح في لبنان بانهيار البنية المالية التي تشكّل البنوك عمادها، فذلك يمسّ مصالح الرأسماليين والسياسيين ويهدّد ثرواتهم، ولذلك فإن استمرار النظام المريض واقع لا مفرّ منه، اللهم إذا خرج الشارع العام على الطبقة العليا مطالباً بحقوقه وأمواله المهدورة.
إن أثر إساءة استخدام القروض المالية وانتهاج سياسة الاقتراض الدائم غير المرتبطة بجداول قابلة للتحقق وإنهاء النزف يخلق آثاراً جانبية غير ملحوظة بشكل كمّي ولكنّها حقيقية. منها ضغوط رجال الأعمال على الدولة، مطالبين بخفض الضرائب وتعديل القوانين وإبعاد الدولة عما تبقّى من قطاعات. هذه الضغوط تضع إدارات ومؤسسة الدولة في موقع المرتهن الدائم. يذكر المؤرخ أرنولد توينبي أن «الحكومة الرومانية أصبحت تحت رحمة الدائنين عام 215 ق.م فكان عليها منحهم شروطاً تتيح لهم فرصاً ذهبية للغش»، ويتابع «إن دفع الديون جرى بأفضل طريقة للدائنين فعرضت عليهم أراضي في روما كان يتوقع ارتفاع أسعارها». وهكذا وصلت روما إلى فرز طبقي كبير ازداد فيه الأغنياء غنى والفقراء فقراً.
إنها مشكلة بنيوية نتجت عن فساد ورؤية قاصرة للبنان ما بعد الحرب الأهلية. فحجم الأموال التي ضخّت في الاقتصاد لإعادة الإعمار وتسيير مرافق الدولة كان أكبر من أن يواكبه تغيير اقتصادي واجتماعي سليم، فسيطرت السمسرات والريوع والتوزيعات على عمل الدولة، ونشأ نظام زبائني أضحى الشعب شريكاً فيه بوقوفه على أبواب الزعماء هاتفاً بحياتهم، وهم من خلقوا مسبّبات حاجته إليهم.
ومع اختلاف رجال السياسة والرأسماليين فيما بينهم، تظهر المفارقة بتكتّل هؤلاء بوجه الشعب مرّة وخلف الشعب مراراً. فعندما تتهدد مصالحهم الاقتصادية (حتى ولو بشكل غير جدي بعد) يتكتلون فيما بينهم لتفريغ أيّ حراك شعبي مستعينين بالبعدين الطائفي والمذهبي المسيطرَين في لبنان. وعند استحقاق منافسة جدية يلجأ هؤلاء إلى التلطّي خلف الأورام الطائفية والمذهبية ببناها المختلفة لشدّ العصبية الدينية والمواجهة.
يذكر المؤرخ هاورد زن في كتابه «تاريخ شعب الولايات المتحدة الأميركية» أنه «في عام 1760م وخلال سني الثورة على بريطانيا تعلّمت النخبة التي تتحكم بالمستعمرات البريطانية كيفية السيطرة». ويروي زن كيف أدارت طبقة التجّار في بوسطن تحرّكات رافضة لضرائب بريطانية من خلال إشراك الطبقة الفقيرة في احتجاجاتهم. ولما أحرق المتظاهرون منزل متعهد الضرائب البريطاني ما كان من المنظّمين إلا أن أدانوا الفعل «انطلاقاً من مقارنة ما حصل بما قد يحصل لثرواتهم». وهكذا مزج هؤلاء الدعوات إلى التحركات الشعبية بشعارات «لا شغب، واحموا الممتلكات». وفي الذكرى السنوية الأولى لإزالة الضرائب البريطانية نظّمت الطبقة المخملية في بوسطن احتفالاً دُعي إليه من ينتمون إليها فقط فيما لم يدعَ الفقراء الذي تحرّكوا على الأرض.
وهكذا في لبنان فإن الطبقة السياسة الحاكمة بالتعاون مع رؤوس الأموال تعلّمت كيف تحمي مصالحها. فهي تستخدم القوانين والأمن والتهديد والترغيب والمال والوظائف العامة لإبقاء الشارع تحت السيطرة. فالمعركة الرئيسة لمعظم القوى المسيطرة في لبنان هي مع الشارع وليست فيما بينها. فإذن ومع إشاحة النظر عن المشكلة الأساسية المتمثّلة بالنظرة إلى الدولة ودورها في الاقتصاد وعلاج أمراضها المالية والإدارية والقانونية والاجتماعية، فإن الديون المتراكمة وعدم الإنتاجية الفعلية وتناسل علاقات الطبقة السياسية نفسها مع رجال الأعمال، ستُبقي لبنان في دوامة الخطر، فلا حكومة تنفع ولا حكومات.
*صحافي لبناني