لا تزال الصحافة العربيّة تتعاطى بكثير من التبجيل والانبهار مع الصحافة الغربيّة. هناك الكثير من المغالطات المُتصلة بالصحافة الغربيّة في الوعي الإعلامي العربي. يخلط الرأي العام العربي _ حتى على مستوى ما يُسمّى بـ«النخبة» _ بين الإعلام الرصين، وهو نادر، وبين الإعلام السطحي الذي يسعى نحو التسلية والدعاية (السياسيّة).
وعليه، هناك في الإعلام العربي من يتعاطى مع بربارة والترز على أنها صحافيّة رصينة، مع أن عملها أقرب إلى العمل «الصحافي» لإعلاميّي الإثارة والفن. مجلّة «تايم» لم تعد تمتّ بصلة إلى الصحافة الرصينة، وهي مكتوبة بلغة أقرب إلى لغة من هم في سن المدرسة الإعداديّة، فيما تُكتب مجلّة الـ«إيكونوميست» الرصينة للغة تلاميذ الجامعة. وصحافة الإنترنت فيها الغثّ وفيها السمين، وهي أيضاً عرضة لمعايير الإثارة والتسلية والسطحيّة نفسها. ما عاد الإعلام الغربي يتمتّع بالرصانة التي تمتّعت بها بعض الصحف _ على علّاتها الاستعماريّة والعنصريّة البغيضة _ في الستينيات مثلاً. لم يعد هناك خبراء عليمون وقديرون في الشرق الأوسط بين المراسلين والمراسلات إلا في ما ندر. لم يعد المراسلون هناك من صنف الدارسين بعمق للثقافة العربيّة والإسلاميّة مثل إريك رولو الفرنسي أو أرنولد هوتنغر السويسري أو بيتر مانسفيلد البريطاني (أميركا لأسباب لا مجال لذكرها هنا، لم تنتج في تاريخها نماذج عن هؤلاء، مع أن الراحل طوني شديد كان الأقرب في السنوات الأخيرة).
يتناقل العرب مقالات لروبرت فيسك، مثلاً، مع أنّ مقالات الرجل يُشكّك في صحتها وحتى في نزاهتها. يعتمد الرجل على أحاديث على وجبات طعام يحضرها في منزل صديقه وليد جنبلاط، كما أنه لا ينفكّ عن الاستشهاد بسائقه «عبد» الذي أمدّه جنبلاط به للتجوال. كذلك فإنّ رفيق الحريري _ لا ينفكّ فيسك عن تذكيرنا _ عرض أن يرسل إليه طائرته الخاصّة كي تقلّه إلى بيروت عندما تعرّض لاعتداء ذات مرّة في باكستان. وفيسك ليس من طراز الصحافيّين المتخصّصين في شؤون العالم العربي، وهو يعرّض نفسه دوريّاً للسخرية في وسائل التواصل الاجتماعي عندما يحاول بشقّ النفس أن يستشهد بكلمة عربيّة سمعها على الأرجح من سائقه «عبد». وفيسك ينتمي إلى صحافة يحشر فيها الصحافي نفسه (استعراضياً كما راعي البقر في الأفلام أو كما المُخلّص «لورانس العرب») في كل حدث.
ومستوى الصحافة الغربيّة في التغطية العالميّة ينحدر باستمرار لعدد من الأسباب:
1) الشح المالي لا يسمح بفتح الكثير من المكاتب حول العالم، ما يولّد ظاهرة الصحافي الجوّال، الذي يغطّي الهند في يوم والصين في يوم وهلمّ جرّا، من دون أن يتخصّص في بلد أو منطقة ما.
2) إن السيطرة المالية من قبل الشركات الكبرى على وسائل الإعلام أدّت وتؤدّي باستمرار إلى التضحية بنفقات التغطية العالميّة ذات المردود التجاري المحدود. والناس مشغولون بتغطية الرياضة والطقس والكوارث وحَبَل المشاهير وقرانهم.
3) لا ترى الدول الغربيّة أن هناك حاجة إلى فتح مكاتب دائمة في العواصم الأجنبيّة. ومكتب بغداد لـ«نيويورك تايمز» (بعد انسحاب القوات الأميركيّة المحتلّة) تقلّص إلى حدّ الهزال. تنتظر وسائل الإعلام نشوب الحرب أو إعلان بدء الغزو كي تنهمك في وضع اللمسات على فتح مكاتب جديدة في مدن النزاع الجديد.
4) لا تحاول الصحف الكبرى أن تدرّب متخصّصين، بل هي تفضّل إرسال مراسلين من صفوف من تدرّج في الجريدة في صفوف التغطية الداخليّة (كان مدير مكتب القاهرة الحالي لـ«نيويورك تايمز»، ديفيد كرباتريك، يغطّي اليمين المسيحي المحافظ في أميركا).
خذوا مثلاً مديرة مكتب «نيويورك تايمز» في بيروت. لم تدرس آن برنارد الشرق الأوسط في الجامعة. هي قالت لي إنها درست بعضاً من الروسية في الجامعة وكانت تغطّي شؤوناً لا علاقة لها بالشرق الأوسط (روسيا والزلزال في هاييتي ووقع تفجيرات 11 أيلول في نيويورك). لكن الكفاءة والجدارة والترقّي في تلك الصحف الصهيونيّة الكبرى مثل «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«تايمز» التي تغطّي أحداث منطقتنا، تحرص أكثر ما تحرص على عدم الحيد عن الخطوط الدقيقة للسياسة الصهيونيّة للجريدة. ومن المُجحف تحميل المسؤوليّة فقط لبرنارد، لأن زملاءها وزميلاتها في الصحافة الغربيّة لا يتمتّعن أو يتمتّعون مثلها بعمق دراسة لمنطقتنا. إن معظم هؤلاء غير قادر على إجراء مقابلة صحافيّة باللغة العربيّة (قال لي الصحافي في «نيويورك تايمز» نيل ماكفاركهار إنه يستطيع أن يجري مقابلة بالعربيّة)، وعندما اعترضت لمحرّر في الشؤون الخارجيّة لـ«نيويورك تايمز» (الذي كان يراسلني سرّاً كما معظم المراسلين الغربيّين في الشرق الأوسط الذين يصرّون على أن تبقى مراسلاتهم لي سرّاً، ربما لأن كشف مراسلتهم لـ«العربي الغاضب» يعرّضهم لمشاكل جمّة مع مديريهم الصهاينة في التلفزيون أو الإعلام _ مع استثناءات مثل مراسل «وول ستريت جورنال» جو لوريا، أو مراسل «رويترز» في الشرق الأوسط «أندرو هامند»، الذي يتحدث العربيّة بطلاقة والقليل غيرهم _ حتى الراحل طوني شديد كان يخاف من افتضاح أمر مراسلته لي) إزاء ندرة المراسلين والمراسلات الذين يتحدّثون العربيّة أشار إلى إن المراسل روبرت ورث سيغيب سنة لدراسة العربيّة. احتجت أن أشرح له أن العربيّة تتطلّب أكثر بكثير من سنة تفرّغ للدراسة.
لكن الصراع في سوريا فضح الصحافة الغربيّة التي لم تعد تحاول أن تزعم الموضوعيّة في تغطيتها. كمّ هائل من الأكاذيب يملأ الإعلام الغربي في حديثه عن سوريا. ليس من المبالغة القول إن الصحافة الغربيّة في تغطيتها للموضوع السوري لا تختلف أو تتميّز أو ترتقي عن تغطية صحافة آل سعود وآل ثاني. إن انحياز الصحافة الغربيّة في الموضوع السوري لا يقلّ عن انحياز صحافة البعث في سوريا. وهناك عدد من السمات لتلك التغطية المنحازة.
أولاً: الأكاذيب. تملأ الأكاذيب الصفيقة صفحات الغرب عن سوريا. مراسلة «نيويورك تايمز» في بيروت لم تتوقّف عن الزعم، على امتداد السنتين الماضيتين، أن بشّار الأسد لا يشير إلى المعارضة المسلحة وغير المسلّحة إلا بـ«السنّة المتطرّفين الإرهابيّين» وأن لغته الطائفيّة في الحديث عن «السنّة المتطرّفين» هي التي أدخلت العامل الطائفي إلى الصراع في سوريا. وبصرف النظر عن موقف المرء من النزاع في سوريا، لكن من الضروري تبيان مغالطات وأكاذيب الإعلامي الغربي المُتشدّق بالدقّة والموضوعيّة للتستّر على انحياز (وتصحيح الخطأ لا علاقة له بالدفاع عن نظام الأسد الاستبدادي الذي يحتوي إعلامه على الكثير من الأخطاء والأكاذيب)، فإن التزوير والافتراء والاختلاق ليست من سمات الصحافة الرصينة. وطلبت من مُحرّر للشؤون الخارجيّة في «نيويورك تايمز» أن يسأل المراسلة عن نموذج من الخطاب لبشّار الذي تحدّث فيه عن «السنّة». وبعد أيام من البحث والتنقيب، أرسل إلي أن هناك تصريحاً لبثينة شعبان (وكان ذلك في السنة الماضية) أشارت فيه إلى الوهابيّة. سألته: وما علاقة هذا بذاك؟ (اضطرّت الصحيفة إلى نشر تصحيح، لكنها أصرّت على حشر تصريح شعبان، وكأن ذلك يسوّغ الخطأ الذي وقعت فيه). وتفعل الجريدة ذلك في ما يتعلّق بخطب حسن نصرالله، عبر الزعم أنه يشنّ حملات على «السنّة التكفيريّين». أوضحت لأكثر من مراسل ومراسلة أنه يحرص على القول دوماً إن خطر التكفيريّين هو وبال على السنّة والشيعة والمسيحيّين، وأنه لا يستعمل الخطاب الطائفي على طريقة فريق 14 آذار السوري واللبناني، وأنظمة الخليج. عبثاً تحاول وتحاولين.
ثانياً: فتّش عن 14 آذار. تُفتح المكاتب الإعلاميّة في لبنان لتغطية سوريا، ويعتمد المراسلون والمراسلات الجاهلون للعربيّة على عاملين وعاملات محليّين للمساعدة في المسير في حقل ألغام عربي وللترجمة (الانتقائيّة) عن الإعلام المحلّي. وفريق 14 آذار (اللبناني والسوري على حدّ سواء) موجود بقوّة في مكاتب الإعلام الغربي في بيروت، كما هو موجود في مكاتب المنظمات الغربيّة (ألـ«إن. جي. أو.») العاملة. والإعلام الحريري _ السعودي جاهز دوماً لمدّ مكاتب الإعلام الغربي بما يحتاج إليه من «عون» في العناصر والمصادر (أما حزب الله فهو لا يتعامل مع تلك المكاتب، ما يسمح لعدد من المراسلين والمراسلات باختلاق مقابلات وهميّة مع «قادة» في الحزب). لم تظهر مراسلة «نيويورك تايمز» على شاشة لبنانيّة إلا مرّة واحدة على شاشة «المستقبل» المحايدة. ويجهل الكثير من قرّاء إعلام الغرب أن معظم المراسلين لا يلمّون باللغة العربيّة، ما يزيد من اعتماده على مراسلين ومترجمين ومستشارين محليّين، وهؤلاء يؤثّرون بدورهم في التغطية، لكن التوارد في الخواطر هو الذي يحدّد التعاون في البداية. لهذا، فإن حسابات المراسلين والمراسلات الغربيّين على وسائل التواصل الاجتماعي ما هي إلا نسخة عن حسابات قادة وكتّاب 14 آذار. كذلك فإن الصحف الغربيّة لا تنقل إلا عن صحف أمراء آل سعود من دون تعريف تلك الصفة (أصرّ مراسل «رويترز» النشيط والعليم، أندرو هاموند، على أن يصف جريدة «الشرق الأوسط» بأنها جريدة ناطقة باسم الأمير سلمان وأولاده، ما استدعى يومها احتجاجاً من قبل رئيس التحرير آنذاك، طارق الحميد، إلى مدير «رويترز» نفسه، على ما أخبرني أندرو).
ثالثاً: مصادر «الناشطين». يلجأ الإعلام الغربي في تغطيته للوضع السوري إلى الاعتماد على شبكة من «المصادر» في داخل سوريا، ويتواصل المراسلون والمراسلات مع هؤلاء من دون أن يتحقّقوا من هويّاتهم ومن دون أن يشرحوا لنا كيف عثروا عليهم (في دليل الهاتف في القامشلي، مثلاً؟). وهؤلاء يُعتمد عليهم في التغطية ويُشار إليهم بـ«الناشطين»، من دون تحديد هويّة النشاط. عندما كانت التظاهرات مشتعلة في سوريا، كان لوصف «الناشط» أو «الناشطة» معنى ومغزى، لكن من هو الناشط اليوم؟ هل هو المُسلّح؟ أم هو القابع في السجن أم في المنفى؟ وتقوم مكاتب الصحف الأميركيّة بإجراء مقابلات عبر «سكايب» مع هؤلاء، من دون إعلام القراء بكيفيّة حصول المراسلين على عناوين هؤلاء الناشطين وأسمائهم؟ هنا يدخل عمل فريق 14 آذار اللبناني والسوري، المتداخل مع المكاتب الإعلاميّة لمعارضة الخارج السوريّة، كي يمدّ مكاتب الإعلام الغربيّة في بيروت بما تحتاج إليه من أسماء (مفيدة طبعاً وملائمة).
رابعاً: عن «المرصد السوري». ما إن اشتعل الصراع في سوريا، حتى برز اسم «المرصد السوري لحقوق الإنسان» واسم مؤسّسه «رامي عبد الرحمن» (الذي اعترف أخيراً أن تمويله لا يأتي حصراً من «رجال أعمال سوريّين» _ نذكر أن كل عناصر المعارضة السوريّة الخارجيّة كانوا يختبئون وراء شعار تمويل «رجال الأعمال السوريّين» قبل افتضاح أمر التمويل القطري والسعودي العلني _ وأنه يتلقّى تمويلاً أوروبيّاً بعيداً عن الهوى). وتعتمد الصحافة الغربيّة (حتى اللبنانيّة وحتى تلك المتحالفة مع المقاومة مثل محطة «الجديد») على ما يرد في تقارير «المرصد» من دون التدقيق فيها، مع أنه ثبت أن الكثير من مزاعم التقارير لم تكن دقيقة. وقد أجرى الرفيق البريطاني أسا وسنسلي تحقيقاً استقصائيّاً عن المركز، وكشف أن اسم «رامي عبد الرحمن» هو اسم مُختلق. لكن الإعلام الغربي (والعربي) لم يهتم بأمر التدقيق في صدقيّة تقارير المرصد، لأنه يخدم (بنسبة كبيرة) مصلحة دعاية المعارضة.
خامساً: عن حزب الله. يجترّ الإعلام الغربي بأكثره خطاب 14 آذار ومقولاته عن هذا الحزب (الذي يزعج الغرب في مقاومته للعدوّ وليس في مطالبته بالثلث المُعطّل أو حتى في تدخّله في سوريا). فحزب الله هو الذي أشعل الفتنة الطائفيّة بحسب هؤلاء، ويتغاضى إعلام الغرب عن جرائم الجناح الجهادي في 14 آذار وأعماله وفتنه. على العكس، لا يزال إعلام الغرب يصرّ على تعريف 14 آذار (بكل مكوّناته) بأنه «موالٍ للغرب»، وذلك بغية تقريبه من القارئ الغربي. لكن هل هذا يعني أن هوى محمد كبّارة وخالد الضاهر والجماعة الإسلاميّة وقادة المحاور وأنصار القاعدة غربيّ أوروبيّ؟ وتخضع تصريحات نصرالله لتشويه وتزوير حقيقي في تقاير هؤلاء المراسلين، فيصبح خطاب نصرالله الذي يحذّر فيه الجميع من خطر التكفيريّين خطاباً يندّد بـ«السنّة التكفيريّين». ولا يجرؤ أحد هنا على تصحيح ما يرد في تلك المقالات كي لا يُتّهم بخدمة المصلحة الدعائيّة لحزب الله (وعقوبة تلك الخدمة هي السجن ودفع غرامة باهظة في أميركا).
ودرج عدد من المراسلين _ خصوصاً مراسل الـ«تايم» و«كريستشان ساينس مونتر»، نيكولاس بلانفورد، وتبعه أيضاً المراسل ميتشيل برثرو _ على إجراء مقابلات وهميّة مع «قادة ميدانيّين في الحزب». وفي الوقت الذي تمنّع فيه قادة حزب الله عن إجراء مقابلات صحافيّة، فإن عدداً من المراسلين (وهم دوماً من غير المُتعاطفين مع المقاومة لا بل من المهووسين بخطر صواريخ حزب الله على أمن الكيان الصهيوني الغاصب) قام بإجراء مقابلات مع من سمّاهم «قادة» في الحزب، ويقوم هؤلاء القادة المزعومون بفضح «أسرار» للحزب وبتصويره بأبشع الصور. (وهذا الأسلوب متّبع في موقع «ناو حريري» الذي ينسب أسوأ الكلام عن حزب الله إلى «مصدر» في الحزب). لكن من التجنّي اتهام المراسلين بالتزوير، لأن هناك منافقين ومحتالين ممن يُقدّمون أنفسهم إلى المراسلين على أنهم «قياديون ميدانيون» في الحزب، ويهرع هؤلاء إلى إجراء مقابلات مستفيضة معهم لتحقيق سبق صحافي. لكن هذا الأسلوب بلغ حداً مضحكاً عندما زعم مراسل لمجلّة «تايم» (لم يُكشف عن اسمه) أنه قابل في مكان واحد المتهمين الأربعة في اغتيال الحريري، لا بل إن هؤلاء أخرجوا وثائقهم الشخصيّة لإثبات الهويّة (نُشرت المقالة باسم المراسل المجهول ونيكولاس بلانفورد، لكن الأخير _ الذي كتب سيرة هاغيوغرافيّة مضحكة عن رفيق الحريري، وكان ذلك قبل أن تقرّر العائلة أنّ حزب الله هو الذي اغتال الحريري، لا النظام السوري _ عاد واعترف بأنه لم يكن موجوداً في تلك المقابلة، لكنه عبّر عن ثقته بزميله المجهول.
سادساً: الدعاية الصفيقة. ضربت الصحافة الغربيّة (الأميركيّة والبريطانيّة والفرنسيّة والألمانيّة) بمعايير المهنيّة والموضوعيّة (المزعومة) عرض الحائط. لا تتورّع كل تلك الصحافة عن نشر دعوات لتسليح المعارضة في مقالاتهم. وحسابات بعض هؤلاء على «تويتر» تشبه حسابات كتّاب في صحف أمراء آل سعود. باتت الكتابة عن سوريا مثل الكتابة عن العدوّ الإسرائيلي، حيث لا صوت يعلو على صوت الدعاية الصفيقة.
سابعاً: المطابقة في التغطية وفي لغة التغطية. تجول بين الصحف وبين شاشات الإعلام الغربي، وبالكاد تجد فروقات في التغطية (وحده المراسل، باتريك كوبرن، في الـ«إندبندنت» غرّد خارج السرب وكان حرّاً في التغطية وكانت مقالاته أكثر دقّة وحرصاً على الحقيقة من غيرها). الأسلوب والكليشيهات نفسها: الطائفيّة في سوريا لم تدخل إلى البلد إلا بعد أن شن بشّار الأسد «حملة على السنّة» في خطاباته، أو إن لبنان كان يعيش في هناء إلى أن تدخّل حزب الله في سوريا، أو إن الصراع في سوريا كان تظاهرات سلميّة لكن قمع النظام خلق _ بطريقة لم نفهمها بعد _ عصابات مسلّحة انطلقت فجأة، أو إن إسرائيل لا تتدخّل في شؤون لبنان وسوريا، أو إن معارضة الخارج هي ديمقراطيّة أو إن الجيش السوري الحر هو علماني نسوي ومعتدل، وفولتير يقوده إلى جانب الجنرال الدكتور المهندس الموسيقار سليم إدريس. شعارات وكليشيهات تتكرّر يوميّاً.
ثامناً: التستّر على جرائم العصابات المُسلّحة في سوريا. لا ترد أخبار جرائم العصابات المسلّحة، مهما كبرت، إلا لماماً وعرضاً، في تقارير تكون عناوينها محصورة في جرائم السلطة. لكن إذا كانت منظمات حقوق الإنسان تتستّر على جرائم العصابات المسلّحة، فليس من المستغرب أن تتستّر عليها الصحافة الغربيّة. وبعد أن كبر الخلاف بين «داعش» و«النصرة»، تبعت الصحافة الغربيّة مسار الإعلام العربي (ومسار الليبراليّين العرب) في التمييز (الخيالي) بين «داعش» المتطرّفة وبين «النصرة» المعتدلة والتنويريّة. لكن الراعي تنويري، فلماذا لا تكون الأداة تنويريّة؟ ومراسلة الـ«واشنطن بوست» في بيروت، لز سلاي، التي بلغت مناصرتها للجيش السوري الحرّ حدّ حماسة عقاب صقر أو أكثر بقليل، كتبت قبل أيّام أن «السوريّين» يرون في جبهة النصرة حركة «معتدلة».
تاسعاً: في الملمّات الدوليّة في منطقة الشرق الأوسط، تعكس الصحافة الغربيّة مسار وتوجّهات الحكومات الغربيّة. لكن الصحافة تعكس أحياناً اختلافات في الرأي في صفوف النخب الحاكمة (لكن ليس خارجها). وعليه، فإن صحيفة «واشنطن بوست» كانت تعكس توجّهات المتطرّفين في الكونغرس الذين كانوا يدعون إلى مزيد من التسليح لمصلحة العصابات المُسلّحة. لم تختلف «نيويورك تايمز» إلا في درجة الحماسة (الأقلّ) فقط.
عاشراً: يعتمد الإعلام الغربي على عدد محدود جداً من الخبراء، وكل هؤلاء صهاينة في المراكز الصهيونيّة المرتبطة بـ«اللوبي الإسرائيلي»، مثل «مؤسّسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» أو «منتدى الشرق الأوسط»، أو متحالفون معهم. ولقد أرسل لي مرّة الراحل طوني شديد معترضاً على حصر الخبراء في الشأن السوري بالصهاينة (وأشار لي بأنه قابل الصديق بسام حدّاد في مقالته عن سوريا ذلك اليوم). لكنّ الباقين، يعتمدون آراء وخزعبلات وإعلانات صهاينة الـ«لوبي» ومن لفّ لفّه.
يسود بين العرب الكثير من المفاهيم المغلوطة والأوهام حول الإعلام الغربي. كذلك فإن الكثير من العوامل التي تشوب الإعلام العربي _ من حيث سيطرة رأس المال ونفوذ السلطات الحاكمة _ تشوب أيضاً الإعلام الغربي الحرّ (نظريّاً فقط). والفارق بين الإعلام المملوك من الدولة والإعلام المملوك من رأس المال (أصحاب المليارات) فارق ضئيل جدّاً، والمثال المصري خير دليل على ذلك. لقد سقط الإعلام الغربي سقطة كبيرة في حقبة الانتفاضات العربيّة، ولم يتميّز، خصوصاً في تغطية الحدث السوري، حيث سخّر موارده ومساحاته لخدمة من تعوّل عليه حكومات الغرب. لكن نقد تغطية الإعلام الغربي لا يعني أبداً أن الإعلام العربي (بشقّيْه النفطي ــ الغازي، والمُمانع) كان أفضل. لكن هذا موضوع آخر.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)