فجأة ظهر وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة، في 16 يناير (كانون الثاني) 2013، في جنيف، في صورة مع نافي بيلاي، المفوضية السامية لحقوق الإنسان.بعد أيام عدة من ذلك، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، دعوة البحرين، ضمن عشر دول أخرى، إلى حضور مؤتمر «جنيف 2»، المعني بالحالة السورية.
الصورة مع بيلاي، وإعلان بان، أتيا بعيد ساعات فقط من تمكّن ولي العهد من التقاط صورة لافتة مع زعيم المعارضة الشيخ علي سلمان، عكست رؤية خدّاعة للحالة البحرينية، التي لا يصح القول إن حواراً جدياً بدأ فيها، كما توحي الصورة المتقنة، التي أنجزت على طريقة هوليوود الصاخبة، لتحقق أغراضاً شتى، ليس من بينها التحول الديمقراطي.

إذاً، ظهر ولي العهد، الإصلاحي المفترض، مرة أخرى، ليكسر مجدداً حالة التوتر الشديد، والوجوم والتشاؤم، التي دخلتها البلاد، منذ إطلاق الملك حمد حملة مسعورة ضد المعارضين، بدعم من الجيش السعودي، في منتصف مارس (آذار) 2011، فيما ظل الملك يستثمر ولي العهد للإيحاء بوجود فعل تحاوري، كلما دعت الحاجة. (لمعرفة تموضع ولي العهد وأدواره، أنظر: فرص التحالف الشيعي الخليفي، والصراع الكتوم: مستقبل ولاية العهد في البحرين).
وتعزز الوجوم في الأشهر الأخيرة، وخصوصاً بعد ربط الملك حمد، للمرة الأولى في الخطاب الرسمي، «العيد الوطني» للبحرين بذكرى اجتياح قبائل العتوب للجزر الصغيرة في 1783، وذلك في الخطاب الذي ألقاه صبيحة 16 ديسمبر (كانون الأول)، والذي يصادف أيضاً العيد الرسمي لجلوسه على «العرش»، لا كرسي الحكم، إنه عرش بكل ما في ذلك من دلالات الاستئثار بالسلطة، وأذكّر بأن الملك حمد كان قد أطلق على نفسه صاحب العظمة في فبراير (شباط) 2012، حين غيّر الدستور، وأحال نفسه حاكماً مطلقاً، ثم تراجع عن ذلك اللقب، إثر استهجان العالم، بيد أن الملك البحريني، ما زال يتحدث كأنه صاحب عظمة. (أنظر مقال: «الملك البحريني في أكثر أوقاته وضوحا.. وتعنتا»).
بعد نحو عشرة أيام من ذلك (28 ديسمبر 2013)، استدعي زعيم المعارضة الشيخ علي سلمان للتحقيق، بسبب خطبة للجمعة (http://www.youtube.com/watch?v=N-B0dwUMJl4)، بدت رداً على خطاب الملك، الذي يعد البحرين صارت عربية ومسلمة في 1873! فيما تحدث زعيم الوفاق عن عروبة البحرين وإسلامها قبل دخول آل خليفة عنوة للبلاد، وبطبيعة الحال رأت السلطات أنّ ذلك الخطاب قد تضمن «عبارات طائفية تمثل تحريضاً على فئة من المجتمع، واتهاماً لمؤسسات الدولة بالقيام بممارسات غير قانونية»، كما صرحت النيابة العامة الملحقة، هي الأخرى بالديوان الملكي.
وفي الواقع، لم يكن أحد أسباب زيادة نبرة التشاؤم في البلاد، إعلان السلطات في يناير 2013 انتهاء النسخة الثالثة مما يسمي حوار التوافق الوطني، وهو الحوار الذي انطلق قبل نحو عام تقريباً (فبراير 2013)، ذلك أن «الوفاق» كانت قد علقت مشاركتها في الحوار منذ سبتمبر (أيلول) 2013، على خلفية اعتقال السلطات خليل المرزوق المعاون للسياسي للشيح علي سلمان. وفي كل الأحوال، لم يكن ذلك الحوار يبتغي التحول إلى الديمقراطية، بل كسب نحو عام من الوقت، هي المدة بين إطلاق الحوار ووفاته الرسمية. (أنظر مقال: الطقس الحواري ومحاولات إعادة تأهيل شرعية الملك حمد).
وكانت النسخة الثانية من الحوار، قد انطلقت في صيف 2011، وهدفت من بين أمور عدة أخرى، إلى التغطية على الانتهاكات المروعة التي مارسها الجيش وقوى الأمن ضد المحتشدين في دوار اللؤلؤة، وإبراز قوى النظام والفئات الداعمة له، لكن الأهم هو إبراز الرؤية الرسمية للإصلاح، التي لا تتضمن أي إصلاح في الواقع، والتي في ضوئها أنجزت تعديلات دستورية لم تغير من تركيبة المؤسسة الحاكمة. (أنظر: البحرين.. تعديلات دستورية هشة.. لا تلقى صدى محليا ودوليا).
أهمية ذاك السقف المنخفض، تأتي بعدما عدّت السلطة نفسها قد ارتكبت جرماً بيّناً في النسخة الأولى من الحوار، بعرض ولي العهد، في مارس 2011، مبادرة من سبع نقاط، تضمنت الحديث عن مجلس نواب كامل الصلاحيات، حكومة تعبّر عن الإرادة الشعبية، دوائر عادلة، قضاء نزيه، وإصلاح المؤسسة العسكرية، إضافة إلى قضايا التمييز والتجنيس.
وتُبذل محاولات مضنية ومحمومة من قبل المعارضة أكثر من السلطة، لربط محاور 2011 بجدول أعمال الحوار الذي من المفترض أن يكون قد دشنه ولي العهد في لقائه الأخير مع زعيم الوفاق (15 يناير 2014).
بيد أنني أظن أن الحوار المرتقب هو نسخة رديئة التحسين من النسخ السابقة له، التي ما رمت إلا إلى المزيد من قمع كل الجبهات التي دعمت جبهة الاصلاح، بما في ذلك، بل خصوصاً، التيارات الموصوفة بالتشدد، وهي عبارة كذوبة، إذا كان القصد منها ربط أعضائها بالعنف المنبوذ من كل الأطياف المعارضة في البحرين.
في الواقع، فإن توقيت المقابلة بين ولي العهد والوفاق، هو أكثر الدلائل الفاقعة على عدم جدية الحوار. فقد اعتاد النظام، منذ 2004، أن يدعو المعارضة إلى الحوار قبيل الفورمولا واحد، على أمل أن يخفف ذلك من الأجواء السلبية إبّان الأيام الثلاثة، التي هي عمر السباق السنوي، وقد تمكن النظام، حتى في أشد الأوقات توترا (2011 مثلا)، من الحصول على تعهد وفاقي ـ ساري المفعول حتى الآن ـ بأن لا تنخرط كبرى الجمعيات في العمل على التشويش على هذا الحدث، الذي يمثل أكبر تجمع جماهيري من الخارج تشهده البحرين، وتستثمره السلطة على نحو جلي للتأكيد على أن الجزر، الواقعة في القبضة السعودية، تنعم بالاستقرار، وعلى أن الانتفاضة باتت تحت السيطرة. (أنظر مقال: حان الوقت لاتخاذ إجراءات عقابية ضد البحرين).
لذلك يبدو مفهوماً أن يجري التقاط الصورة الهوليوودية بين رموز السلطة والمعارضة قبل يوم واحد من افتتاح معرض البحرين الدولي للطيران (16 ـ 18 يناير 2013)، وتزامناً مع تفقد قائد الجيش الاستعدادات لانطلاق هذه الفعالية السنوية.
وهناك بطبيعة الحال الذكرى الثالثة لانطلاقة 14 فبراير (شباط) المجيدة، التي يراد لها أن تمر دون صخب، لذا أيضاً كانت السلطة قد أعلنت في 13 فبراير من العام الماضي انطلاق نسخة جديدة من الحوار، الذي أعلن موته مطلع هذا العام، بعدما استثمرته السلطة على مدار عام تقريياً، للقول إن المعارضة قابلة للتدجين في البحرين، ولن تخرج عن الخط المحدد لها، وأن التوتر لن يكون خارج السيطرة.
وعلى الأرجح، فإن على المعارضة التي ما زالت تجادل بأن لقاءها مع ولي العهد كان خطوة إيجابية ولا بديل لها، عليها أن تراجع ذلك، وخصوصاً حين تعلم أن السلطة تمكنت من خلال تلك الصورة الهوليوودية المتقنة، أن تحدثت صدى محلياً ودولياً مهماً، عكس صورة نموذجية لما يريد النظام أن يدعيه، فقد أظهرته الصورة نظاماً تسووياً، ومحاوراً. وقد تلقفت أميركا وبريطانيا وفرنسا والأمم المتحدة الصورة المخطط لها، وأصدرت بيانات ترحب بحرارة بحوار يعلم الجميع ان معالمه غير واضحة. وبينما كانت السلطة تدفع ملايين الدنانير لتحسين صورتها، فإن دعوة إلى شرب الشاي وتبادل الأحاديث، كانت كفيلة بقلب مزاج العالم، الذي لا يبتغي إلا بقاء حالة التوتر ضمن المدى القابل للاحتواء.
إلى ذلك، وبدل أن تكون السلطة مساءلة عن الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها فعل الحوار، تبرعت بعض الجهات المعارضة لقمع الأصوات المشككة في الحوار، كأن الحوار القائم من صنع يديها. وهكذا، فإن المعارضة بدت مثقلة بأعباء متعددة، فالحوار ليس واعداً كما سيتضح، فيما وعيد الموالين يتنامي، بعدما شككوا في الحوار، وحذروا من نتائجه، فيما مضت بعض المعارضة تهلل بالنصر المقبل! وتؤكد أن قبول جلسة فضفاضة مع ولي العهد مطلب غربي لا يمكن رفضه، فيما كان ممكنا الترحيب بالدعوة، واقتراح جملة من الخطوات الإيجابية التي تسبق اللقاء، أو على الأقل طلب الإعداد الجيد للصورة، التي أعد لها من قبل طرف واحد.
وتبدو السلطة سعيدة ببعض خطاب المعارضة المنظّر لحدوث لقاءات صورية من هذا النوع، وهي سعيدة إذ تجد خطاباً معارضاً يبرئ السلطة من استخدام الحوار للتغطية على العنف، على اعتبار أن هذا القمع موجود بالحوار وبدونه! وأنه لا يجوز طلب جدول أعمال للصورة الهوليوودية، على اعتبار أن ذلك سيُعد، من قبل الغرب، شرطاً مسبقاً. ومع أنني أشك في نجاعة تفسير المعارضة غير القادرة على مساعدة الغرب على طلب شيء من السلطة، حين توافق إجمالاً على أمور لا يصح الموافقة عليها، مثل التقاط صورة خداعة، فإني أتساءل: إذا كانت السلطة غير قادرة على وضع جدول أعمال واضح المعالم لاجتماع واحد، فكيف لها أن تقود حواراً جدياً، وإذا كان الغرب غير قادر على تفهم موقف مطالب بتحسين شروط التفاوض، فكيف له أن يدعم صفقة تسووية معقولة.
الاجتماع الهوليوودي، الصاخب شكلاً، والفارغ مضموناً، كان يمكن أن يمثل فرصة لزيادة اقتناع الجمهور بفكرة الحوار والاعتدال، بدل الإساءة إلى منطق التسويات، حين تظهر أصحابها كأنهم يستجيبون لاستدعاء سياسي فضفاض.
وعودة إلى جنيف، حيث وزير الخارجية يسرح، حاملاً معه صورة تعكس «الحب المتبادل بين السلطة والمعارضة»، فإنه مطمئن إلى أنه لا جنيف بحرينياً، ما دامت المعارضة تظن أنه بالفعل لا حاجة إلى ذلك، كما تقول علناً! مع أن البديهي أن تطالب بحوار دولي في جنيف، لعلك تحصل على حوار محلي معقول!
* صحافي وكاتب بحريني ـ لندن