في عام 1985 كانت ولادة حزب الله الأولى. بدا في بيانه إلى المستضعفين تنظيماً جهادياً يقود ثورة من أجل جمهورية إسلامية غير آبه بالطوائف الأخرى، حاجته إلى المجتمع لا تتجاوز بيئة قوته العسكرية. وبعد ثلاثة عقود من الانتصارات العسكرية والسياسية، تمّ تجميد عضوية نائب من أبرز وجوه الحزب بسبب عبارة مسيئة لبشير الجميل. في تفسير تلك التحوّلات، هناك تصوّر مسيطر لدى دارسي حزب الله يربطها بالطبيعة البراغماتية للحزب باعتباره لاعباً عقلانياً يضبط طموحه السياسي بالحدود الطائفية. تبدو تلك الأراء سطحيّة، إذ تتعامل مع المظهر البراغماتي من دون البحث في أسباب العقل البراغماتي لدى حزب الله. ببساطة، لا تعبّر التحولات عن عقلية براغماتية تنطلق من الحدود الطائفية بقدر ما تعبّر عن ضرورات الصراع ونتائج الحروب المستمرة.
تساعدنا دراسة حسام مطر عن حرب القوة الناعمة بين الولايات المتحدة وحزب الله في كتابه «ما بعد القتال» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـــ 2018) على فهم تحولات حزب الله وربطها بضرورات الصراع. تظهر لنا الدراسة كيف تدفع الحرب الناعمة الأميركية حزب الله إلى إعادة بناء مشروعيّته بما يتجاوز المقاومة، ما يفتح الآفاق لفهم تحولات الحزب الداخلية ومقارباته لمختلف الملفات من الرؤية الدينية إلى محاربة الفساد الحكومي حفاظاً على مشروعيته.

إعادة تعريف معنى السيادة
يرصد مطر صراعاً مريراً بين الولايات المتحدة وحزب الله حول إعادة تعريف معنى السيادة. في مقابل سعي السياسات الأميركية إلى إعادة تشكيل مجمل الوقائع السياسية ـــــ الاجتماعية في لبنان، عمل الحزب على ضمان تفوّقه في إنتاج الحكايات وسردها بشكل مقنع مع ما يتطلبه ذلك من بناء تحالفات عابرة ومتجاوزة للخصوصية الثقافية.
بعد نجاحه في انتزاع حق الفيتو داخل السلطة التنفيذية في العام 2008، عمل الحزب على اكتساب مشروعيّته كحركة مقاومة من خلال إعادة تشكيل البيئة السياسية في لبنان وضبط خطوطها العامة من دون الغرق في وحول السلطة أو تبوّء السلطة التنفيذية. بدل أنْ يصبح حزب الله مشكلة داخلية في الإطار اللبناني، سعى إلى مشاركة الآخرين في إنشاء سرديّة وطنية، في سبيل هذه الغاية عمل على تحويل صراعه مع حركة «14 آذار» إلى مواجهة مع القوى الإمبريالية. نزع الحزب الشرعيّة عن الثورة الآذارية بالتوازي مع تعزيز هويّته اللبنانية بحيث انخرط في عملية «اللبْننة» لتأكيد ذاته كفاعل سياسيّ وطنيّ شرعيّ. عبر إعادة تعريف الأجنبي، جرّدَ «14 آذار» من شعاراتها المزيّفة في ما خصّ السيادة وأضْفى شرعيّة على علاقاته بسوريا وإيران.
ما يمكن ملاحظته من عملية احتواء القوة الناعمة الأميركية أنها تتجاوز إضعاف حركة «14 آذار» لصالح العمل على إعادة التعريف والبناء لمعنى معايير محدّدة كالسيادة والديموقراطية، وهو أمر مناقض لثقافة القناصل التي ميزت الحياة السياسية اللبنانية منذ عهد المتصرفية. صحيح أنها عملية بطيئة تتطلب سنوات عديدة من النضال اليومي وقد يطالها الفشل في محطات عديدة، لكن حين تجعل تدخّل السفراء (خاصة الأميركي) في الشؤون اللبنانية يبدو نافراً وتقيّد منظمات المجتمع المدني المموّلة أميركياً (في المناطق الشيعية) فإنّك تحدث تغييراً في البيئة السياسية بشكل لم يعهده لبنان سابقاً.
في مقابل سعي الحزب لإحداث تغييرات في الإطار السياسي الوطني، دفعتْ سياسات القوّة الناعمة الأميركية الحزب إلى تكييف مؤسساته وخطابه وسرديّاته وتطويرها بشأن هويته وثقافته وسياساته ليصبحَ أكثرَ تناسقاً مع السياق اللبناني، بل أكثرَ جاذبية في تصوّر الجمهور المحلي، وحتى يتمكّن من تحدّي رسائل القوّة الناعمة الأميركية وتقييدها ونزع المشروعية عنها وهي رسائل أرادتْ تشكيل المعايير الاجتماعية بشكل يحطّ من صورة حزب الله ويهمّش ثقافته لدى اللبنانيين: الشيعة والمسيحيين على وجه الخصوص.

إعادة إنتاج الحكاية
أعادَ حزب الله إنتاج معنى الهوية الشيعيّة بطريقة أصبحتْ فيها مقاومة إسرائيل جزءاً مندمجاً فيها. وباستخدام السرديّات والصور الشيعية الدينية المستقاة من مراجع ثقافية أساسية أسهمَ في توليد إحساسٍ قويّ بالانتماء والوحدة داخل المجتمع الشيعي. أصبحتْ تلك الهوية مرئية بقوة في الشوارع وعلى شرفات المنازل وعلى الأجساد وفي الأصوات واللغة، بفعل الجهود الثقافية للحزب. مع ذلك، لا يسعى الحزب عبر مقاربته الثقافية إلى بناء مجتمع ديني، بل إلى دمج المجتمع الشيعي ككلّ في هوية المقاومة.
تجنباً لفقدان الهوية والاغتراب الثقافي، يتسامح الحزب مع انتشار بعض المفاهيم الغربيّة ويستوعبها بهدف إعادة إنتاج معانيها وفقاً لمعتقدات الحزب واحتياجاته، خاصة أنّه يدرك أنّ هدف السياسات الأميركية ليسَ إضعاف الدين والتديّن، بل إيديولوجيته، فالمطلوب أميركياً خلق معنى غير ثوري لإيديولوجيّة الحزب بصرف النظر عن شكل التديّن.
بالرغم من رفضه للثقافة الغربية بشكل عام، لا يرتبط العداء بالثقافة، بل بالسياسات الأميركية وما تنتجه من دمار لمجتمعاتنا، لذلك يحاول احتواء جاذبية الثقافة الأميركية عبر تحويل اهتمام الجمهور إلى السياسات الأميركية داخل الشرق الأوسط، هكذا يستطيع استيعاب التحولات وتقديم صورة المقاومة لمناصريه غير المتديّنين على أنها حركة وطنية مناهضة للإمبريالية وليستْ حركة دينية معادية للغرب أو للأمْركة.
يلاحظ مطر نجاحاً كبيراً لقوة أميركا الناعمة في الرواج الواسع لأنماط الاستهلاك الغربيّة بين الشباب الشيعة، الأمر الذي يدفع الحزب إلى أن يكون أقلّ حدّة في فرض قيمه ومعاييره داخل مجال نفوذه الاجتماعي. نحن أمام ملاحظة بالغة الأهمية، إذ يمكن الاستنتاج بتراجع تيار ديني متشدّد أكسبته مشاركة الحزب في الحرب الأهلية السورية زخماً وحضوراً بين الشباب الشيعة لصالح رؤية دينية معتدلة ومتكيّفة ثقافياً، مع ما يعنيه ذلك من أثر سياسي مستقبلياً.

إعادة تعريف الصراع الاجتماعي
في الوقت الذي يتناسى فيه بعض اليساريين أدبيّات الصراع الاجتماعي ويلتحق أغلبهم بالرأسمال الخليجي، يستخدم حزب الله الكثير من أدبيات مناهضة الاستعمار للتعبير عن المطالب الاجتماعية للطبقات الفقيرة والوسطى بطريقة واقعية. لا وجود للأوهام الاقتصادية، بل يدرك العوائق البنيوية والسياسية لأيّ محاولةٍ إصلاحية. في خطاباته الانتخابية لم يطلق نصر الله وعوداً لا طاقة للحزب على تنفيذها.
يساعد الخطاب الاجتماعي، خصوصاً طرح الدولة القوية ـــ العادلة، حزب الله على تحدّي سردية الميليشيا، ويمكّنه من إعادة تقديم نفسه بطريقة تجعله قادراً على مدّ الجسور مع مختلف التشكيلات الاجتماعية ـــ الثقافية اللبنانية. لكن الخطاب الاجتماعي لا يعبّر فقط عن طموحات الحزب المستقبلية، بل أيضاً عن تحولات الطبقة الوسطى عند الشيعة، ومدى تأثيرها وتأثّرها بسياسات الحزب. يأتي مؤيّدو الحزب غالباً من الطبقات الوسطى ومن المتعلّمين تعليماً عالياً. ترى هذه الفئة في بعض المنتجات الغربية قيماً مقبولة دينياً، حتّى المتدينون منهم يظهرون أسلوباً حديثاً من التديّن من خلال إعادة تعريف بعض القيم الإسلامية بشكل أقلّ محافظة. وهذا ما يظهره الكثير من الطلاب الجامعيين الشيعة الذين أصبحوا ينتجون نمطاً جديداً من التديّن يتضمن قبولاً لقيم وسلوكيات جديدة.
يعمل الحزب على احتواء هذه الظاهرة من خلال سياسات واقعية تجمع ما بين القبول والتأثير والاحتواء لجوانب مختلفة من هذا التحوّل. في الجانب الثقافي، يسعى ليكون أكثر انفتاحاً وتسامحاً بغية اجتذاب غير الملتزمين والحدّ من عملية التديّن الحديث. في الجانب الاجتماعي لم يعد بإمكان الحزب ربط مشروعيته بمقاومته، لقد تجاوز الواقع تلك المرحلة وأصبح الحزب أمام «طبقة وسطى شيعية» تؤيد المقاومة، لكن مصالحها مرتبطة بفاعلية الحزب في القضايا الداخلية، أهمها محاربة الفساد ومعالجة الوضع البيئي. باختصار، تُعيد الطبقة الوسطى الشيعية تعريف القيم والممارسات الدينية، دافعةً حزب الله إلى تحرير العمل الاجتماعي من الإطار الخيري إلى الانخراط الفاعل في الدولة وفي رسم السياسات العامة مستقبلاً.

خاتمة
في البداية كانت الانطلاقة استجابة لمنطق الحرب. انتصر حزب الله في الحروب، لكن منطق الصراع أجبره على قبول أنماط جديدة من التديّن، كما أعاد تشكيل بعض أوجه بيئته الاجتماعية. يسأل مطر في ختام دراسته الأكاديمية إلى أيّ مدى سيتمكن الحزب من الاستمرار في تحديث أدواته وحفظ قيمه الأصيلة في آنٍ واحد؟ تاركاً لنا الاستنتاج: بقدر ما تُغيّر الحرب من حزب الله تُسهم في ولادةٍ جديدة للحزب ملامحها الاعتدال الديني والانفتاح الثقافي والانخراط الفاعل في السلطة التنفيذية، وهو ما يزيد من تعقيدات الصراع الطائفي ويسرّع في انهيار اتفاق الطائف.
*باحث لبناني