ليس هذا الكونغرس الجديد كما غيره. تغييرات كبيرة تحدث في رحم الحزب الديموقراطي والجمهوري. فكما أن اليمين المتطرّف يجذب الحزب الجمهوري نحوه ويقضي على المعاقل التقليديّة للحزب، فإن القوى الليبراليّة (لا اليساريّة) تجذب الحزب الديموقراطي بعيداً عن خط الوسط الذي مثّله بيل كلينتون وزوجته. كانت وصفة كلينتون تكمن في نظريّة التقاطع المثلّث: أي تقديم مشاريع تكون في خط الوسط بين مشاريع اليمين ومشاريع الحزب الديموقراطي الليبراليّة. ونجحت وصفة كلينتون في سيطرة الديموقراطيّين على البيت الأبيض في ولايتيْن متتاليتيْن للمرّة الأولى منذ عهد ليندن جونسون. لكن تفاقم الأزمة الاقتصاديّة بعد ٢٠٠٨ وتنامي الغضبة السوداء - وغضبة محدودي الدخل من كل الأعراق - ضدّ عنصريّة قوانين عهد كلينتون (بالنسبة إلى تطبيق فيدرالي صارم لعقوبات الجريمة وبالنسبة إلى تقليص برامج المساعدة الاجتماعيّة) بخَّرَ ما بقي عالقاً في أذهان البعض عن «أسطورة كلينتون». تتغيّر الدوائر الانتخابيّة في أميركا - تزيد أو تنقص - وفق نتائج «مكتب الإحصاء» الفيدرالي مرّة في كل عشر سنوات (حسب أوامر الدستور المُنزل من «الآباء المؤسّسين») وحسب النتائج، حيث يتناقص السكّان في ولاية ويتزايدون في ولايات أخرى، فإن المجالس الاشتراعيّة المحليّة تتكيّف مع زيادة عدد النوّاب في الولاية أو نقصانهم. وبناء عليه، ترسم المجالس الاشتراعيّة في الولايات حدود الدوائر الانتخابيّة بما يفيد الحزب الذي يتمتّع بأكثريّة في المجلس. وهذا زاد الانقسام بين الحزبيْن عمقاً في السنوات الأخيرة لأنّ رسم الولايات بات يضمن استمراريّة تمثيل الحزب لهذا المقعد أو ذاك. وهذا التلاعب الصارخ بالدوائر (أخبرني مرّة الخبير، بروس كين، الأستاذ في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، كيف أن الحزب الديموقراطي في الولاية عيّنه مستشاراً كي يرسم دوائر انتخابيّة على الكومبيوتر بطريقة تفيد ضمان استمرار تمثيل الحزب. فأخبرني أنه على سبيل المثال قام بإضافة منطقة شمال القضاء الذي أقطن فيه في ستانسلاس كي يزيد من نسبة ذوي الأصول اللاتينيّة مما يرجّح الاقتراع لصالح الحزب الديموقراطي) هو الذي رسّخ الانقسام الحاد في التمثيل السياسي: لأن ضمان نجاح أيّ من الحزبيْن يعني أن الفائز لا يمكن - في دائرة محسوم الفوز فيها لهذا الحزب أو ذاك - إلا أن يمثّل أو تمثّل قاعدة الحزب: إما اليمين المتطرّف للحزب الجمهوري أو الخط الليبرالي للحزب الديموقراطي. لكن صعود ترامب، وخسارة هيلاري المدوّية أمامه، رسّخَ جذب الليبراليّة في الحزب الديموقراطي وقوّضَ دعائم الوسطيّة في الحزب الديموقراطي. وترامب، بما يمثّل من فوز لأقصى اليمين في الحزب الجمهوري (طبعاً، لم ينتمِ ترامب يوماً لهذا الخط لكنّه يفتقر للمبادئ - كما الكثير من السياسيّين) تعزيزاً لمنطق أن الردّ على ترامب يكون بتعبئة قاعدة الحزب الديموقراطي وليس بتقديم مرشحين وسطيّين غير قادرين على التعامل القوي والمبدئي ضد خطاب ومشاريع ترامب.
الانتخابات النصفيّة الأخيرة أتت بعدد لا سابق له من النساء (معظمهن من الحزب الديموقراطي)، وإن كانت نسبة النساء لا تزال في حدود الربع، وهي من أدنى النسب في الدول الديموقراطيّة. كما أن الحزب الديموقراطي اكتشف وصفة جديدة للنجاح: ترشيح عدد كبير من النساء لأن النساء - البيض بصورة خاصة - هنّ اللواتي يرجّحن الفوز للحزب الديموقراطي. كما أن الحزب اعتمد ترشيح محاربين سابقين أو جواسيس سابقين لأن ذلك يجذب أصوات الذكور البيض وبعض النساء البيض أيضاً. لكن ما يعنينا هنا فوز عربيّتيْن مسلمتيْن، رشيدة طليب وإلهان عمر. وهذه ليست المرّة الأولى التي يتمثّل فيها عرب أو مسلمون في الكونغرس. وكان التمثيل العربي في أكثره للبنانيّين أميركيّين معظمهم من الصهاينة أو من الوسطيّين (مثل نيك رحّال من ولاية وست فرجينيا الذي كان يناصر القضايا العربيّة بأكثر ما يمكن تجميعه من جبن سياسي). وحتى السناتور العربي، جيمس أبو رزق، لم يكن في ولايته الوحيدة في السبعينيّات عن ولاية سوث داكوتا مجاهراً بمناصرة قضيّة فلسطين. هو أصبح مجاهراً وشجاعاً بعد تركه الكونغرس وإنشائه للمنظمة العربيّة ــ الأميركيّة لمكافحة التمييز. أما النائبان من أصل عربي، داريل عيسى وراي لحود فقد كانا من ضمن حصّة اللوبي الإسرائيلي («إيباك»). قلّة من غير العرب ناصرت القضيّة الفلسطينيّة أو عادَت إسرائيل لأسباب مختلفة، وكان ذلك قبل سنوات عديدة، مثل السناتور فولبرايت أو السناتور تشك برسي أو النائب بول فندلي (الذي كتب كتاباً مفيداً عن سطوة اللوبي بعنوان «هؤلاء تجرّأوا على الكلام»)، أو آخرهم النائب عن ولاية أوهايو، دنيس كوسنيتش، الذي هاتفني مرّة ليؤكّد لي أنه يذكر فلسطين مرّة في كل أسبوع في سجلّ الكونغرس.
كلام عمر لم يكن معادياً لليهوديّة أبداً لكن اعتذارها كرّسه في خانة معاداة اليهوديّة


لكن رشيدة طليب وإلهان عمر تعتمدان على عنصر جديد في القاعدة الديموقراطيّة. القاعدة الديموقراطيّة خرجت عن ثوابت اللوبي الإسرائيلي والتي —منذ الثمانينيّات— شكّلت إجماعاً في قيادة الحزبيْن في الكونغرس. لكن الحروب الإسرائيليّة الأخيرة في عصر التواصل الاجتماعي: لبنان في ٢٠٠٦ وسلسلة حروب غزّة بعدها كسرت سطوة الإعلام المرئي والمطبوع المُهيمِن: لم يكن صعباً، قبل ذلك الزمن، على اللوبي الإسرائيلي أن يكسب تأييداً ونفوذاً عند أقطاب الإعلام (لم يخرج عن هذا الإجماع إلا أفراد قلائل، مثل بيتر جننغ في «إي.بي.سي» أو ماري مغروري في «واشنطن بوست» أو أنتوني لويس في «نيويورك تايمز»). حروب إسرائيل في عصر التواصل الاجتماعي وصلت إلى أنظار وأسماع الناس بطريقة مختلفة كليّاً عن صورة حروب إسرائيل في الماضي، حيث كانت كلّ كلمة وكل عنوان وكل صورة وكل شريط فيديو عن حروب إسرائيل يمرّ عبر مجهر رقيب صهيوني صارم. كان رؤساء تحرير الصحف ومدراء وأصحاب المحطات التلفزيونية والإذاعيّة على علاقة رسميّة ووثيقة مع اللوبي الإسرائيلي ومع سفارة العدوّ في واشنطن. لكن التغطية فلتت من أيدي اللوبي مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي - والتي يعتمد عليها الشباب حصراً للحصول على الأخبار. والعدوّ على بيّنة من هذا العنصر ولهذا هو يحاول جاهداً في علاقاته مع مدراء شركات التواصل أن يفرض معايير سياسيّة من أجل فرض رقابة شبه عسكريّة على مضمون التغريدات والتعليقات. لكن هناك حدود لهذا الفرض، وتطبيقه ليس سهلاً مثل فرض رقابة صارمة من قبل الناشر على كل جملة عن إسرائيل وحروبها في تغطية «نيويورك تايمز» مثلاً.
هناك جيلٌ جديد انفصل عن معايير وقيم اللوبي الإسرائيلي. وهذا جيل لم يشهد الحرب العالميّة الثانيّة ولم يربط بين هول المحرقة وبين حجج وذرائع إسرائيل. وهذا الجيل لم يشاهد أفلاماً دعائيّة مثل «الهجرة» عن نشوء الكيان الغاصب. هذا الجيل شاهد بأم العين مشاهد حيّة عن جرائم إسرائيل في لبنان وفلسطين، وصور وسائل التواصل لا ترحم العيْن أحياناً. وهذا الجيل ينمو في داخل الحزب الديموقراطي. واستطلاعات الرأي هناك تعكس ذلك بوضوح على مرّ العقد الحالي، وقبل بضع سنوات أيضاً. الليبراليّون باتوا أقلّ فئة بين الناس تأييداً لإسرائيل، وهذا يسري على البيض كما يسري على الملوّنين والنساء وهم أقلّ تأييداً لإسرائيل من الذكور البيض. ولأوّل مرّة باتت نسبة الذين يتعاطفون مع دولة العدوّ في الحزب الديموقراطي أقل من النصف (نحو ٤٧٪ كي نكون دقيقين ودقيقات)، فيما النسبة بين أنصار الحزب الجمهوري تقارب السبعين في المئة (كانت النسبة في أوساط الحزبيْن تتراوح بين الـ٦٠ و٦٥ ٪).
رشيدة طليب وإلهان عمر تعتمدان على هذا العنصر، لكن الخصائص الديموغرافيّة لدائرتيهما الانتخابيّة تحرّرهما من القيود التي تلجم أعضاء آخرين في الكونغرس. عمر تنتمي إلى الجالية الصومالية في ولاية مينيسوتا لكن ناخبيها هم في معظمهم من الليبراليّين البيض الذين قطعوا مع ثوابت «إيباك» قبل سنوات. أما طليب، فمع أنها نائب عن ولاية ميتشغان وهي تحتوي على أكبر جالية عربيّة في البلاد، فإن دائرتها هي في ٨٠٪ (حسب تقدير عميد الجالية العربيّة في ميتشغان، أسامة سبلاني) من الفقراء السود. وخلافاً لانطباع عند العرب والأميركيّين على حد سواء، فإن نسبة العرب بين ناخبيها هي بالكاد ٥٪ والباقي من أصول لاتينيّة. أي إن النائبيْن متحرّرتان في دائرتيْهما من شروط الالتزام بالثوابت. على العكس، إن انتهاج مواقف سياسيّة غير متصالحة مع اللوبي تساعد ولا تضرّ، كما حدث في حالة برني ساندرز في الانتخابات الرئاسيّة الماضية مع أن انتقاداته لدولة العدوّ كانت جدّ متحفّظة ومحدودة لكنها كانت ترسم فروقاً بين مرشحة تقليديّة مرتهنة للوبي ومرشح لا يلتزم بالكامل بنص اللوبي (مع أن تصويل سندرز في مجلس الشيوخ لم يحد عن أوامر «إيباك» إلا لماماً).

«معاداة السامية»
تواصلت طليب وإلهان مع «جي ستريت» (وهي البديل الليبرالي للوبي الإسرائيلي الرسمي) والذي يتخذ مواقف صهيونيّة «أقلّ تصلّباً» - من منظور الصهاينة وليس من منظورنا - أي إنهم يختلفون مع نتنياهو لكن يرفضون حركة المقاطعة ويصرّون على (لا) حل الدولتيْن. وقد التزمت طليب ببرنامج «جي ستريت» لكنها عادت ونبذته بعد فوزها إذ أعلنت في مقابلة جريئة أنها تؤيّد الدولة الواحدة على أرض فلسطين، وهي دائمة الاستشهاد بجدّتها التي تعيش في الضفة الغربيّة. لكن «جي ستريت» ترفض أي مرشّح أو فائز بالنيابة ممن يوافق على المقاطعة ويرفض الدولتيْن. وكان موقف طليب فريداً وجديداً للغاية: أي أن تناصر حلّ الدولة الواحدة (كانت طليب قد حجبتني عن صفحتها على فايسبوك بعد أن انتقدتُ تحالفها مع «جي ستريت» قبل الانتخابات).
أما إلهان عمر فقد نجحت في وقت قليل في لفت الأنظار لما تتمتّع به من كاريزما مميّزة ولأنها تعبّر عن آرائها بلغة لم يألفها الشعب الأميركي. تنبّه اللوبي بسرعة إلى ظاهرة عمر فوصمها على الفور بمعاداة السامية. لم تذكر عمر اليهود في أي من تغريداتها «المثيرة للجدل»، كما تقول العبارة. هي انتقدت دور المال من قبل اللوبي في الإمساك بأعضاء الكونغرس وهي وصفت إسرائيل بأنها نوّمت العالم مغناطيسيّاً كي يتغاضى عن جرائمها. ثم تحدّثت عن الولاء الخارجي لبعض مؤيّدي إسرائيل. حكم إعلام الصهيونيّة عليها على الفور بمعاداة السامية. والإعلام العربي الموالي للنظام السعودي أو المدعوم أوروبيّاً أو أميركيّاً، ماشى العداء الصهيوني للمرشحتيْن. الإعلام السعودي جعل من النائبيْن عضوَين في حركة الإخوان المسلمين ومتحالفتيْن مع قطر وتركيا. وموقع «درج» نشر مقالة لياسمين إبراهيم قطعت فيها أن عمر «ردّت على العنصريّة بعنصريّة مضادة». لم توضح الكاتبة مكامن العنصريّة في خطاب عمر، ولم تعطِ دليلاً على كلامها. من المشكوك أن تكون قد قرأته في الأصل الإنكليزي - أو ربما قرأته ولم تفهمْه - أو هي نقلت معايير وعناوين الإعلام الصهيوني كما هو، لا سيما أن بعض الإعلام العربي، خصوصاً اليميني منه، يرى أن استبطان معايير الغرب الصهيونيّة في الإعلام هو ذروة المهنيّة والطريق إلى نيل جوائز الرجل الأبيض (كما في الفن).
لم تذكر عمر مرّة واحدة في كلامها أو تغريداتها كلمة يهودي، ولم تتحدّث عن اليهوديّة. لكن القلق الصهيوني من تغيّر أهواء الرأي العام بات يحتّم عليه أن يساوي بالقوّة بين معاداة إسرائيل، أو حتى نقد إسرائيل، وبين معاداة السامية. وجهل الكاتبة ياسمين إبراهيم عميق إلى درجة أنها افترضت - هكذا افترضت - أن عمر لا يمكن إلا أن تكون تعني اليهود في كلامها عن مؤيّدي إسرائيل. لكن تأييد إسرائيل المتطرّف خرج منذ الثمانينيّات على الأقلّ من النطاق اليهودي الحصري وهبط في حضن المسيحيّين الإيفانجيليّين («التبشيريّين»، كما يفضّل العزيز جوزيف مسعد). إن تأييد إسرائيل في وسط هذه الفئة يفوق بكثير نسبته بين اليهود الأميركيّين حيث تتنوّع الآراء وتختلف عمّا كان عليه الرأي العام اليهودي بعد المحرقة مباشرة. ونقل السفارة الأميركيّة من يافا المحتلّة إلى القدس المحتلّة كان خدمةً للمسيحيّين الإيفانجيليّين وليس لليهود. لكن هذه تفاصيل عن الوضع السياسي الأميركي خارج نطاق معرفة الكاتبة في «درج»، والتي قرّرت بناء على عناوين صحف أميركيّة أن عمر معادية لليهود. لكن يمكن مجادلة عمر في تحليلها: مثلاً، ليس صحيحاً أن المال وحده هو الذي يجعل من أعضاء الكونغرس موالين لإسرائيل، أو أن إسرائيل نوّمت العالم مغناطيسيّاً. إن العالم بات يدرك (حسب استطلاعات الرأي حول العالم) عدوانيّة إسرائيل، لكن عمر افترضت أن الرأي العام الأميركي موازٍ للرأي العام العالمي.
وثارث ثائرة قيادة الكونغرس ضد عمر واجتمعت وقرّرت إصدار قرار بنبذ معاداة اليهوديّة، ورضخت عمر - عن خطأ شنيع - للضغوط الصهيونيّة في قيادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس وأصدرت اعتذاراً عن كلامها. أي إن كلام عمر لم يكن معادياً لليهوديّة أبداً لكن اعتذارها كرّسه في خانة معاداة اليهوديّة. ثم إن الدعاية الصهيونيّة كاذبة في أنّ وصف تنويم إسرائيل المغناطيسي للعالم هو تشنيع تقليدي لمعادي السامية. لم يرِد في أي من المراجع عن معاداة اليهودية (في مكتبتي التي تضم ٢٠ ألف كتاب ومجلّد) هذا التوصيف في سجل الأدب اللاسامي الكريه. والصهيونيّة تستطيع أن تحوّل أي كلام إلى معادٍ لليهوديّة، وهي فعلت ذلك عبر العقود. وعندما لا تجد كلاماً معادياً لليهودية فإنها تختلقه. لم تصدر مثلاً عن جورج حبش كلمة معادية لليهوديّة في حياته قطّ (بعد تأسيس «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين») لكن الصحافيّة الإيطاليّة (الفضائحيّة الصفراء)، أوريانا فالاتشي اختلقت أقوالاً ونسبتها لحبش في مقابلة في مجلّة «لايف» في ٢٢ حزيران ١٩٧٠. مَن يعرف حبش عن كثب، أو مَن يعرفه فقط من خطبه، يدرك عندما يقرأ المقابلة أن فالاتشي زوّرت فيها كي تَصمه بمعاداة اليهوديّة. هل ياسمين إبراهيم ستعتبر كلام حبش المنحول هو صحيح أيضاً؟

إذا كان الرئيس الأميركي يجد صعوبة في تحقيق ما يرتأيه في السياسة الخارجيّة فما بالك بامرأتيْن في الكونغرس من أصول عربيّة؟


وقبل أسبوعيْن، اجتمع مجلس النوّاب مرّة أخرى لإدانة عمر بسبب كلامها عن الولاء الخارجي لمؤيّدي اللوبي الإسرائيلي. لكن ما حدث في ذلك الاجتماع المغلق بالغ الدلالات. في المرّة الثانية، تمرّد أعضاء الكتلة الديموقراطيّة على قيادة الحزب. والنائب الأسود، جيمس كليبورن (وهو ثالث زعيم ديموقراطي في الكونغرس في المرتبة، وله سجلّ في مناصرة إسرائيل ودعمها بالسلاح والمال) قال لزملائه إنه سئمَ من سماع هؤلاء (يقصد اليهود بينهم) الذين يتحدّثون عن آباء وأمهات لهم عانوا في مخيّمات الاعتقال النازيّة. قال إن معاناة عمر في مخيّمات اللاجئين الصوماليّين هي أشدّ تأثيراً من شهادات درجة ثانية (ويُشتمّ في كلامه استخفاف بمعاناة اليهود في المعتقلات النازيّة، وهذا لا يجوز). لكن اللوبي الصهيوني لم يجرؤ على إدانة كليبورن بسبب موقعه وبسبب بشرته لأن اللوبي يخشى أن يستفز الأميركيّين السود الذين في الغالب يكونون أقل تعاطفاً مع إسرائيل. وبعد أن كانت نيّة القيادة الديموقراطيّة إصدار تنديد ثانٍ بمعاداة الساميّة وبإدانة بالاسم لعمر، ثارت ثائرة النوّاب الجدد في الكونغرس (من بيض وملوّنين) وتم الاتفاق على عدم تسمية عمر وعلى إصدار بيان يندّد بمعاداة السامية وبكل أنواع الكراهية والبغضاء، بما فيها الإسلاموفوبيا - وهذا أوّل تنديد يصدر عن الكونغرس ضد الإسلاموفوبيا. والكثير من أعضاء الكونغرس مصابون ومصابات بداء الإسلاموفوبيا، وإن كان هذا الداء لا يحتلّ نفس مرتبة داء معاداة اليهوديّة. على العكس، تتعامل الثقافة السياسية والشعبيّة هناك مع تصنيف كراهية الإسلاموفوبيا على أنها مزحة، أو اعتراض غير مبرّر من قبل المسلمين.
والإسلاموفوبيا باتت تتعرّض للاستغلال السياسي من قبل مسلمين، كما أن معاداة السامية تتعرّض لاستغلال سياسي من قبل الصهاينة. فكما أن الصهاينة يساوون بين معارضة أو رفض إسرائيل وبين معاداة الساميّة، فإن البعض في إعلام النظام القطري بات يساوي بين نقد الحركات الإسلاميّة وبين الإسلاموفوبيا. هو نفس نمط الصهاينة في الحرب الدعائيّة. لكن نفس إعلام النظام القطري لا يجد - ولا يجب أن يجد - إسلاموفوبيا في معاداة النظام الإيراني، خصوصاً أن بعض الإعلام القطري، مثل «القدس العربي» لا تجد غضاضة في ذم الشيعة والعلويّين على صفحاتها.
لا يجب أن نبالغ فيما تستطيع امرأتان أن تحقّقاه في الكونغرس الأميركي. إن شروط العمل السياسي الأميركي في مجال السياسة الخارجيّة محدودة ومقيّدة للغاية. وإذا كان الرئيس الأميركي يجد صعوبة في تحقيق ما يرتأيه في السياسة الخارجيّة بسبب معارضة صارمة من إدارة الحرب الأميركيّة ونخبة السياسة الخارجيّة، فما بالك بامرأتيْن في الكونغرس من أصول عربيّة؟ لقد بدأ اللوبي عمله بالتهديد (من على صفحات الــ «نيويورك تايمز») بمحاربة النائبيْن وألكسندرا أوكاسيو-كورتيز معهما (أوكاسيو-كورتيز كانت قد كتبت كلاماً حازماً ضد احتلال إسرائيل لكنها تعاملت مع الحملة ضدّها بجبن شديد، ولم تعد كلمة فلسطين تمرّ على لسانها. لكنها تتعاطف ضمناً مع طليب وعمر).
عمر أطلّت هذا الأسبوع من على صفحات «واشنطن بوست» كي تشرح آراءها في السياسة الخارجيّة (هي تحتل معقداً في لجنة الشؤون الخارجيّة في مجلس النوّاب، وهذا ما يثير قلق اللوبي الذي يطالب بإقصائها عنه). وفي مقالة عمر، تربط بين سياسة أميركا الخارجيّة وحقوق الإنسان وتذكر دولاً مثل السعوديّة ودولة العدوّ. لكنها نادت رسميّاً بدولتيْن، فلسطينيّة وإسرائيليّة، تتمتّعان بالأمن. ها قد بدأ بالتراجع. هذه حدود النضال في الكنيست الإسرائيلي أو الكونغرس الأميركي، هي تجري وفق شروط معادية للحق الفلسطيني أو حق التحرّر. مَن يعلِّق آمالاً على تغيير عربي أو أجنبي من داخل الكونغرس الأميركي سيحصد الخيبة. وهل نحتاج إلى مزيد من الخيبات وبلادنا تعجّ بها؟

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)