لم يكن محض مصادفة استدعاء الرموز في «وثيقة الجولان»، التي وقّعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض عشيّة مرور أربعين عاماً على توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية بيوم واحد في المكان نفسه في 26 آذار/ مارس 1979. الرموز لا تعني أية قيمة يعتدّ بها بالنسبة إلى شخصية بمواصفات ترامب، لكنها تدخل في صلب العقيدة الصهيونية أكثر من أية عقيدة سياسية أخرى. فكرة إنشاء الدولة نفسها بالتوسّع والضمّ على حساب حقوق الآخرين والتنكيل بهم استندت على بناء الرموز في الذاكرة وتزكيتها جيلاً صهيونياً بعد آخر.هناك - ربما - من اختار التوقيت بقصد إيصال رسالته إلى جمهوره، أن إسرائيل قادرة على إضعاف الموقف العربي بأكثر مما هو عليه باسم ضمان الأمن الإسرائيلي في مواجهة «الخطر الإيراني» وصواريخه المنصوبة بالأراضي السورية.
وهناك - ربما - من تصوّر أن الصور يمكن أن تستدعي الأجواء التي صاحبت توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية تحت الأضواء الباهرة والرسائل التي انطوت عليها، وكان أخطرها خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي بحلّ منفرد وضَع العالم العربي في حالة انكشاف استراتيجي أفضت تداعياته إلى ما وصل إليه من تدهور جعل الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتلّ أمراً ممكناً. في الصور الجديدة شيء من الاستنساخ للصور القديمة، بطريقة أقل ما توصف به أنها فجّة وتفتقر إلى أية قدرة على الإقناع بأننا أمام حدث تاريخي.
لا يوجد أحد في العالم مستعدّ أن يصدّق، ولو بخداع النفس، أن توقيع ترامب على «وثيقة الجولان» بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبعض كبار معاونيهما يؤسّس لأي سلام، أو شبه سلام. قبل أربعين سنة بدت الابتسامات المتبادلة والأيادي المتشابكة للرئيس الأميركي جيمي كارتر والرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغين كأنها إيذان بإغلاق ما كان يطلق عليها أزمة الشرق الأوسط والدخول في مرحلة سلام بين العرب والإسرائيليين، وهو ما لم يحدث أبداً رغم توقيع معاهدتين مماثلتين وهما «وادي عربة» مع الأردن و«أوسلو» مع «منظمة التحرير الفلسطينية» وهرولة دول عربية عديدة للتطبيع المجاني مع إسرائيل. حسب القول الشهير فإن التاريخ لا يكرر نفسه إلا بصورة هزلية. وقد كان مشهد التوقيع على «وثيقة الجولان» عملاً مسرحياً هزلياً بأجوائه، لكنه خطير برسائله. الاستخفاف بالعرب وقضاياهم دون خشية عواقب رسالة أولى، وهذه مسألة مهينة بذاتها. تكريس الهزيمة والشعور بالدونية والعجز في العالم العربي رسالة ثانية، وهذه مسألة مستقبل، فلا أمل يرتجى لأمّة تفقد ثقتها في نفسها. تمزيق سوريا والحيلولة بكل الطرق دون أن تستعيد عافيتها ووحدتها وسيادتها على كامل أراضيها رسالة ثالثة، وهذه مسألة مصير، فإذا ما قسمت ضاع الأمن القومي العربي كلّياً وتهدد المصير نفسه دول عربية أخرى وتضرب مصر في صميم أمنها ووجودها.
استخدام الفزّاعة الإيرانية لتسويغ المضي قدماً في سحق ما تبقّى من حقوق عربية رسالة رابعة، فطالما أن إسرائيل لم تعد عدواً وإيران هي العدو المشترك، فإنه يمكن غض الطرف عن جرائم الصديق الجديد لمواجهة العدو الافتراضي، وهذه مسألة خلل في النظر السياسي للحقائق الرئيسية في الإقليم. بتلخيص ما فإن إسرائيل تستثمر في أوضاع العالم العربي، كأنها لا تراه إلا كمفعول به، أو نظماً استهلكت شرعيتها ولم يبق أمامها سوى الرهان على الحماية الأميركية بتزكية من حكومتها.

«وديعة رابين»
قبل منتصف تسعينيات القرن الماضي شاع استخدام تعبير «وديعة رابين» في الأروقة التفاوضية العربية، وكانت تلتزم الانسحاب الكامل من الأراضي السورية إلى حدود الرابع من حزيران/ يونيو (١٩٦٧) مقابل التطبيع والأمن. وُضع ذلك الالتزام الذي وضعه رئيس وزراء إسرائيل وقتها إسحاق رابين في عهدة الرئيس الأميركي بيل كلينتون ليستخدمه وقت ما يشاء. حسب روايات دبلوماسية أميركية متواترة نقل كلينتون فحوى «الوديعة» إلى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، لكنها لم تنفّذ أبداً.
الأحوال الآن اختلفت بقدر ما لحق العالم العربي من تدهور اتسع مداه من حقبة لأخرى حتى وصلنا إلى بيانات تبرئة الذمة من مسؤولية ضياع الجولان إلى الأبد، كأقصى ما يمكن اتخاذه من مواقف، وهذا وضع يطمئن إسرائيل ولا يسبب صداعاً لها بأي درجة فالبيانات لا تتجاوز الكلام الدبلوماسي الفاتر، ولا تلوح بأية إجراءات مضادة. وقد أدان بيان الجامعة العربية «وثيقة الجولان» بما أسماه «أقوى العبارات» دون أن يقول ما هي ولا المواقف التي سوف تتخذ للتصدي له.
كان ذلك انعكاساً فاضحاً لعجز النظام الإقليمي العربي كله ومدى هوانه على قضاياه ومبرر وجوده.
أدان بيان الجامعة العربية «وثيقة الجولان» بما أسماه «أقوى العبارات» دون أن يقول ما هي ولا المواقف التي سوف تتخذ للتصدي له


بقدر القلق الواسع حول العالم من الخطوة الأميركية الخطيرة من «شرعنة الاحتلال» والاستخفاف بالقانون الدولي على نحو لا سابق له تبدّت مخاوف من صراعات وصدامات جديدة في الإقليم المشتعل بالنيران. غير أن أحداً، مهما بلغت مستويات قلقه، ليس مستعداً أن يحارب بالنيابة عن قضايا لا يدافع عنها أصحابها. الفارق بين «وديعة رابين» و«وثيقة الجولان» هو نفسه الفارق بين الأحوال التي كان عليها العالم العربي وما بات عليها الآن. الأولى، تعهدت بانسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجولان وحاولت أن تحصد ثمناً في المقابل.. فيما الثانية، تعمل على تكريسه ونفي صفة الاحتلال باسم حماية الأمن الإسرائيلي من الخطر الإيراني. الأسوأ إسباغ صفة العدل على جريمة متكاملة الأركان وفق القوانين والقرارات الدولية. بحسب نتنياهو فإن الرئيس الأميركي «أقرّ العدل لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها». التصريح بنصّه انتهاك مفرط للألفاظ والمعاني وأية قيمة قانونية وإنسانية. لم يكن ذلك ممكناً لولا التنازلات الفادحة التي انطوت عليها المعاهدة المصرية الإسرائيلية. بحسب وثائق وشهادات فقد جرى التسريع بتوقيعها، والقفز على تحفظات أبداها المفاوضون المصريون في مسألتي التطبيع وتصدير النفط لإسرائيل، عقب الثورة الإيرانية التي أطاحت الشاه محمد رضا بهلوي رجل الولايات المتحدة في الإقليم خشية تداعياتها على فرص جيمي كارتر في الانتخابات الأميركية، لكنه خسرها. المثير أن شريكه الإسرائيلي في عملية السلام بيجين لم يكن متحمساً لحصوله على ولاية ثانية. اللعبة نفسها تحدث الآن بوجوه جديدة وحسابات مختلفة.
بالتوقيت فإن إعلان «وثيقة الجولان» يستبق الانتخابات الإسرائيلية في شهر نيسان / إبريل المقبل، وهذا دعم سياسي مباشر لنتنياهو، الذي اهتزّ نسبياً مركزه الانتخابي بأثر اتهامات الفساد التي تلاحقه. وبالتوقيت فإن الخطوة الأميركية تزامنت مع إعلان فحوى تقرير المحقق الخاص روبرت مولر فيما هو منسوب للرئيس الأميركي من اتهام بالتواطؤ مع روسيا في حملته الانتخابية، دون أن ينشر نص التقرير حتى الآن. تبرئة ترامب من هذه التهمة تحيطها تساؤلات حقيقية وحولها اتهامات أخرى تضعف مركزه عند ترشحه لولاية ثانية، لكنها دعته لشيء من الانتشاء في حفل التوقيع على «وثيقة الجولان»، كأنه أراد أن يقول إنه قوي بما يكفي لاتخاذ قرارات لم يجرؤ عليها رئيس أميركي قبله، وفي الخلفية رهان على دعم انتخابي يتوقعه من «اللوبي اليهودي» في الولايات المتحدة. هكذا تسوّى المصالح على حساب رجل الإقليم الضعيف، الذي كان يطلق عليه ذات يوم «الوطن العربي الكبير».

*كاتب مصري