تظهر بين الحين والآخر وبشكل نشط اتهامات لمؤسَسي الاشتراكية الشيوعية، كارل ماركس وفريدريتش إنجلز، بالسقوط في مستنقع الاستشراق الأوروبي، وبالتالي وصمهما بسقطات ميتافيزيقية جامدة، وبالعنصرية الأوروبية. والاستشراق الأوروبي المتهم هنا هو فكر بعض المستشرقين من خدمة الاستعمار الرأسمالي الأوروبي الذي يتبنّى بشكل كامل أسطورة الطبائع الثابتة للأمم والشعوب، حيث تتمايز الشعوب حسب وجهة نظر هذا الاستشراق ــــ بدرجة تفوقها وكمالها ورقيّها و«مدنيتها»، ويظهر لدينا حسب هذا الفكر العنصري شعوب قابلة للاستبداد وهي شعوب الشرق في آىسيا، وأخرى ديموقراطية هي شعوب غرب أوروبا. والطريف أن تهمة الشرق «المطبوع بالعبودية» امتدت لتشمل شرق أوروبا وروسيا. أي شملت جميع الشعوب الفلاحية. هكذا يظهر لدينا شعوب غربية أوروبية مطبوعة على التقدم، وأخرى شرقية مطبوعة على التأخّر والتخلّف: «بإمكاننا أن نسمي هذه القناعة (العنصرية) بميتافيزيقيا الاستشراق لأنها تفسر الفوارق بين ثقافة وأخرى، وبين شعب وآخر بردّها إلى طبائع ثابتة، وليس إلى سيرورة تاريخية متبدّلة» (1).ومعروف عن ماركس وإنجلز نفورهما الثقافي من الميتافيزيقيا الجامدة الأبدية التقسيم، وخاصة أنهما قادة الفكر الديالكتيكي والتاريخي الذي يقوّض كل فكرة عن الطبائع والطبيعة الثابتة، وعن الفوارق المطلقة الأبدية. يلاحظ ذلك من خلال تعليقهما على البيان الشيوعي بعد مرور ربع قرن بالقول: «لقد شاخ هذا البرنامج اليوم في بعض نقاطه بتأثير التقدّم الضخم الذي أنجزته الصناعة الكبرى خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة، والتقدّم الذي أنجزته الطبقة العاملة من حيث تنظيمها في حزب، وأيضاً بتأثير التجارب العملية لثورة نوفمبر... ثورة البروليتاريا الباريسية 1848 التي أطاحت الملكية الدستورية عملياً وسلطة البورجوازية فكرياً فقط. ثم التجارب العملية الأكثر أهمية التي تركتها «كمونة باريس» حيث أمسكت البروليتاريا بين يديها لأول مرة ولمدة شهرين بالسلطة السياسية» (2). لكن ما الدافع وراء هكذا افتراءات من وقت لآخر من قبل كتبة ومرتزقة الدوائر الثقافية الإمبريالية لتشويه سمعة مؤسسَي الاشتراكية الشيوعية؟
لاشك أن الأمر مرتبط بشكل جوهري في محاولة من دوائر الثقافة الإمبريالية ومن أصيب بعدواها من الكتبة ومرتزقة الفكر من العرب الذين يعيشون في أوروبا، وخاصة فرنسا، لطرد ماركس وإنجلز من العالم العربي خصوصاً، ومن ثقافة البلدان المتخلفة عموماً، وخاصة بعد مطاردة أوروبا لشبح الشيوعية في القرن التاسع عشر، حيث كتب ماركس في مقدمة البيان معلقاً على ذلك: «إن شبحاً يسكن أوروبا ــــ هو شبح الشيوعية. كلّ قوى أوروبا القديمة دخلت في تحالف مقدس لرُقْية هذا الشبح؛ بوب وسيزار ومترنيخ وغيزو، والراديكاليون الفرنسيون وجواسيس ــــ البوليس الجرمان (3). وها هم الكتبة ومرتزقة الفكر الإمبريالي أتباع دوائر الثقافة الإمبريالية الأميركية يكملون مطاردة شبح الشيوعية في بلدان العالم الثالث والعالم العربي.
اتهام ماركس وإنجلز بالهرطقة العنصرية لتشويه صورتهما أمام الشعوب الفقيرة والمهمشة، ومسحهما من ثقافة بلدان العالم الثالث التي تكافح من أجل التحرر الاجتماعي والسياسي


بعد طرد ماركس من أوروبا ومسحه عن خريطة الأنفس الأوروبية، انتقلت عملية المسح إلى العالم الثالث أو البلدان المتخلفة، في محاولة لتنفير مثقفي هذه البلدان من مؤسسَي الاشتراكية الشيوعية بتهمة الاستشراق والعنصرية تجاه شعوب الشرق ومنه العربي. لقد مُسح رأس ماركس من النفوس الأوروبية بحجة بطلان نبوءته المزعومة بأن الثورة الاشتراكية سوف تنتصر أولاً في البلدان المتقدّمة في أوروبا الغربية. وهذه النبوءة المزعومة يبطلها ماركس نفسه في كتابه «الصراعات الطبقية في فرنسا 1848». وجاء الدور لاتهام ماركس وإنجلز بالهرطقة العنصرية لتشويه صورتهما أمام الشعوب الفقيرة والمهمشة، ومسحهما من ثقافة بلدان العالم الثالث التي تكافح من أجل التحرر الاجتماعي والسياسي.
نقرأ في «أطياف ماركس»: «لقد عرّف فاليري في (كتابه) «سياسة النفس» الإنسان والسياسة. فالإنسان هو محاولة لإبداع ما أجرؤ أن أسميه نفس النفس (نسخ النفس)، وأما السياسة فهي دائماً تستلزم فكرة ما عن الإنسان» وأن فاليري ليستشهد بنفسه في هذه اللحظة. وإذ ذاك يعيد الصفحة عن «هاملت الأوروبي»، أي تلك التي جئنا على ذكرها. وأننا لنجد بشكل يدعو إلى الفضول أنه حذف مع اليقين التائه لمن يسير في نومه ولكنه لا يخطئ ، جملة؛ جملة واحدة من غير أن يشير إلى ما حذف بأي نقطة من نقاط الوقوف: إنها الجملة التي كانت تُسمّي ماركس، والتي مفادها (لقد كان هذا الذي ابتدع كانط الذي ابتدع هيغل الذي ابتدع ماركس الذي ابتدع...) لقد اختفى اسم ماركس. فأين مضى؟ إذاً يجب أن يكون اسم المختفي قد كُتِب في مكان آخر» (4).
لقد غاب اسم ماركس من سياسة النفس الأوروبية وظهر في مكان آخر. وما من شك في أن هذا المكان هو العالم الآخر للرأسمالية، عالم أطراف النظام الرأسمالي الإمبريالي، أو ما يسمى بالبلدان المتخلفة. إن الفقر والتهميش والظلم القومي تجتذب «رأس ماركس» كما تجتذب الزهور رأس عاملات النحل.
إن من يأخذ على إنجلز سقطاته الاستشراقية في رسالته إلى برنشتاين حول «ثورة عرابي» هو واهم. ولكي نجلي الأمر، نأخذ مقدمة الرسالة نموذجاً، يقول إنجلز: «يلوح لي أنك في القضية المصرية تبالغ في أهمية ما يسمى الحزب الوطني. إننا نعرف الشيء القليل عن عرابي. لكني مستعد الآن أن أراهن بعشرة ضد واحد على أنه باشا عادي لا يريد أن يقبل بجمع الضرائب لحساب المتموّلين، لأنه يفضّل أن يضع الضرائب في كيس نقوده الخاص على الطريقة الشرقية القديمة. تلك هي من جديد القصة الأبدية للبلدان الفلاحية. فمن إيرلندا حتى روسيا، ومن آسيا الوسطى حتى مصر، لا يوجد الفلاح في البلد الفلاحي إلا كي يُستثمر فقط» (5).
إنجلز يتحدث عن القصة الأبدية للبلدان الفلاحية، وليس عن قصة الشرق الأبدية، وهذه القصة؛ قصة استغلال عرق الفلاحين شملت عنده روسيا وآسيا الوسطى ومصر وإيرلندا في أوروبا. ومغزى كلامه أن عرابي من صغار الأعيان وهو باشا، وبالتالي لا يعوّل عليه في تحرير الفلاحين المصريين وتوزيع الأرض عليهم، وخاصة أن التمردات الفلاحية في مصر بدأت منذ سنة 1820 بفعل أعمال السخرة وقسوة الضرائب الخراجية من إقطاعات الالتزام. «فـفي أواخر حكم إسماعيل تبلورت حركة الأعيان المطالبة بالمشاركة بالسلطة في شكل حركة سياسية ذات جناحين: أحدهما مدني، وهؤلاء عبّروا عن أنفسهم داخل مجلس شورى النواب الذي أنشأه إسماعيل سنة 1866 في محاولة منه للاستعانة بالأعيان في مواجهة الضغط السياسي من جانب إنكلترا وفرنسا.. ومن ناحية أخرى يبدو أن إسماعيل كان يريد الاعتماد على هذه الطبقة ليوازن بها نفوذ الأتراك والشراكسة.. أما الجناح الآخر لحركة الأعيان فتمثله مجموعة الضباط المصريين الذين قادوا التحرك في الجيش ضد كبار الضباط الأتراك والشراكسة. وهؤلاء ينحدرون من أصول فلاحية بوجه عام (كولاك) تنتمي إلى الشريحة الصغرى من الأعيان من أمثال أحمد عرابي ابن أحد مشايخ قرية هرية رزنة بالشرقية... وهم مجموعة الضباط التي أتيحت لهم الفرصة لدخول الجيش في عهد سعيد، الذي جنّد أبناء عُمد ومشايخ القرى والأعيان في الجيش وسمح لهم بالترقي حتى وصل بعضهم إلى رتبة قائم مقام الذي كان أول مصري يصل إليها هو أحمد عرابي» (6) ويضيف: «لقد كان تنظيم كبار الملّاكين لأنفسهم بالتضامن مع عناصر البورجوازية التجارية التي أصبح بعض أفرادها من كبار الملّاكين هو قطاع يمثّله حسن موسى العقاد في حزب سياسي هو الحزب الوطني الذي اتخذ من حلوان مركزاً له» (7) وهذا الحزب الوطني هو الذي أثار ريبة وشك إنجلز في قدرته على تحرير الفلاحين أو تجذير حركتهم الاحتجاجية.
* كاتب وباحث سوري

المراجع
(1) د. صادق جلال العظم، «الاستشراق والاستشراق معكوساً» ــــ دار الحداثة
(2) بيان الحزب الشيوعي، ترجمه عن الألمانية: العفيف الأخضر، دار ابن خلدون
راجع أيضاً: مقالتنا تحت عنوان: «حواشي بيان الحزب الشيوعي»، الحوار المتمدن
(3) بيان الحزب الشيوعي، ص 33 عن مختارات ماركس ــــ إنجلز بالإنكليزية في مجلدَين
(4) جاك ديريدا، «أطياف ماركس» ص 27، ترجمة منذر عياشي
(5) رسالة من إنجلز إلى إدوارد برنشتاين، لندن 9 آب 1882 من كتاب ماركس ــــ إنجلز «في الاستعمار»، ص 358
(6) د. علي بركات، «تطور الملكية الزراعية في مصر 1813 ــــ 1914 وأثره على الحركة السياسية»، ص 382
(7) د. علي بركات، مرجع سابق، ص 400