توقّفنا في مقالة سابقة بعنوان «القدس هي أورشليم الكنعانية الفلسطينية» («الأخبار»، عدد 2 نيسان/ أبريل 2019) عند عدد من الأدلة الآثارية «الأركيولوجية» التي تؤكد كنعانية وفلسطينية أورشليم القدس، وتنقض الفرضيات اللغوية التأثيلية «الإتيمولوجية» التي طرحها باحثون عرب؛ منهم فاضل الربيعي حول يمنية الجغرافية التوراتية. وقبل أن نكمل ما بدأناه، نتوقف باختصار عند مقالة تعقيبية للصديق الباحث أحمد الدبش بعنوان «تاريخ القدس وأصل «أورشليم»: التوراة... ليست هنا!» («الأخبار»، عدد 12 نيسان / ابريل 2019).يتركز نقد الدبش على أمرين: الأول نقده للمصدر الذي أخذت عنه المقتبسين المتعلقين بـ«نصوص اللعن» الفرعونية، والثاني على تزمين نص نقش سلوان. نقد جوهر المقتبس ينبغي أن يوجه أساساً إلى صاحبَي النصّين وليس إليَّ أو إلى الباحث فراس السواح، وإنما يمكن أن يؤخذ علينا عدم ذكر ما أثير من اعتراضات أو تحفظات على المقتبسَين من قبل باحثين آخرين ومن قبلنا أيضاً، وهي اعتراضات وخلافات ذات طابع لغوي وليس آثارياً بخصوص ما أثاره المعقّب حول الفرق بين «أورشاليم» و«أوشاميم». ولكنني كنت في معرض استراتيجية أخرى لا علاقة لها بالخلافات الكثيرة بين القراءات اللغوية الإتيمولوجية للنصوص القديمة على أهميتها. استراتيجيتي كانت تنصب أساساً على نقض وتفنيد الجغرافية التوراتية اليمنية والعسيرية وفي وجود أورشليم القدس الكنعانية اليبوسية في فلسطين. وسواء كانت بركة حزقيال قد أنشئت في القرن السابع قبل الميلاد أو بعد ذلك ببضعة قرون، فإنها تؤكد فلسطينية الجغرافية التوراتية وليس يمنيتها أو عسيريتها.
أما قول المعقب إنه «لا وجود لمدينة القدس قبل القرن السابع قبل الميلاد أثرياً» فهو موضوع آخر، يقفز القائل به على الدليل الأركيولوجي الذي أكده عدد من العلماء، وآخرهم كاثلين كينون في رصدها لموقع ومخلفات أورشليم اليبوسية في العصر البرونزي كما بينت في المقالة ذاتها. أما القول بعدم العثور على أي أثر آثاري يربط العهد القديم بالقدس فهو يختلف تماماً عن القول بعدم العثور على أي أثر أركيولوجي يربط السردية اليهودية العبرانية بأرض فلسطين. فالعهد القديم «وتحديداً التلمود الأورشليمي»، لم يكتب إلا بعد قرون عديدة من أحداث تلك السردية وبعد القضاء على دويلتَي إسرائيل ويهوذا، أي بعد العودة من الأسر البابلي وتحول إقليم «اليهودية» إلى محمية فارسية صغيرة. ثم إن العهد القديم هو جزء متأخر تأريخياً من تلك السردية الكنعانية المدعمة بالأدلة الآثارية، وليست تلك السردية جزءاً من العهد القديم، كما يحاول التوراتيون أن يرسخوا في أذهان الناس، وقد نجحوا في ذلك لشديد الأسف. وما يقتبسه الدبش عن الآثارية الهولندية شتاينر صحيح بشكل عام لأنها تنكر وجود أورشليم القدس كمدينة (مقدسة وخاصة من وجهة نظر الله والناس قبل القرن السابع الهجري). فالمدينة كانت كنعانية يبوسية وثنية من حيث الديانة قبل تسلل العبرانيين وسيطرتهم عليها. أما إنكار شتاينر لوجود أي آثار أو بقايا أسوار في العصر الحديدي فيتناقض مع مكتشفات كاثلين كينون لأورشليم اليبوسية جنوبي القدس الحالية، وقد رسمت ــــ كينون ــــ مخططاً دقيقاً للمدينة على أساس ما عثرت عليه من مكتشفات! ويبقى تحري الأمر ومعرفة الحقيقة مطروحاً وضرورياً لحسم الخلاف بين الباحثتين بتفحص الأدلة.
إن تحويل أي خلاف في قراءة النصوص بين الباحثين إلى عملية جنائية واتهامية تتعلق بالتزوير والتحريف دائماً واعتبار ذلك القاعدة وليس الاستثناء، ودون تمييز بين ما يفيد روايتنا المؤكِّدة للسردية الكنعانية في فلسطين والقدس وينقض الرواية التوراتية الصهيونية التي تريد التهام تلك السردية وجعلها هامشاً لها، ليس مفيداً ولا هو من المنهجية العلمية في شيء. أقول هذا رغم أن من غير الممكن تبرئة جميع الباحثين ــــ وخصوصاً الصهاينة ــــ من محاولات التزوير والتحريف لأغراض سياسية ودينية، لكن هذه الاستثناءات تعالج بتقدم الدليل المقنع على حدوث التزوير والتحريف ووضعه في سياقه الحقيقي. إن قراءة جون ولسن لنصوص اللعن الفرعونية، مثلاً، لا تفيد التوراتيين الصهاينة في شيء، بل على العكس من ذلك تضرهم وتفيدنا، لأنها تؤكد كنعانية أورشليم القديمة وليس يهوديتها أو عبرانيتها، فحاكمها «يقرب أمو» المذكور في النص الفرعوني هو كنعاني وليس عبرياً كما يظهر من لفظ الاسم والفترة الزمنية المفترضة له أي القرن التاسع عشر قبل الميلاد إن صحت هذه القراءة.
إن الأمر يتعلق هنا بقراءات مختلفة لمخلفات آثارية، وليس بتأكيد أو نكران تأريخية التوراة، فقد حسمتُ رأيي في هذا الموضوع في مناسبات عديدة واعتبرت النص التوراتي وخصوصاً ما تعلق منه بأحداث ما قبل القرن الخامس ق.م، نصاً غير تأريخي، بل هو خرافي وأيديولوجي كتب لغرض دعائي لمصلحة السلطات الحاكمة في زمن يوشيا العائد من بابل. وهذا ما يؤكده الباحث الإركيولوجي «الإسرائيلي» فنكلشتاين حين يقول «إنَّ قسماً كبيراً من التوراة كان دعائياً وأسطورياً». أما القسم الذي كتب من التوراة في زمن يوشيا، فكان بهدف دعم مملكة هذا الأخير، ويضيف فنكلشتاين «إنَّ النص التوراتي اليوشاوي كان مبتدَعاً كلياً. ذلك أنَّ التاريخ ينفع في الأيديولوجيا، وكان على كاتب النص الإشارة إلى أساطير مبنية حول أبطال سابقين انتقلت أخبارهم من جيل إلى جيل». ويبقى الإخلاص للحقيقة هو الأهم!

الأدلّة الأركيولوجية
بالعودة الى عرض الأدلة الأركيولوجية الأخرى التي تنقض وتفنّد الجغرافية التوراتية اليمنية التي يقول بها الباحث فاضل الربيعي أدرج الأمثلة الآثارية التالية:
تصلح مدينة بيت آشان لتكون نموذجاً لمدن فلسطين الكنعانية التي لا علاقة لها بالسردية التوراتية. فقد تم التعرف إلى آثارها قرب بيسان الحالية، من قبل الآثاري روي خلال حملته التنقيبية في الثلاثينيات من القرن الماضي. وتبين أن هذا الموقع كان مسكوناً منذ الألف الرابع قبل الميلاد، وبلغ ازدهاره في مدينة مسورة في القرن الرابع عشر ق.م. وأبرز ما تم اكتشافه فيه هو سلسلة من طبقات المعابد الكنعانية في طبقات آثارية متراكمة بعضها فوق بعض. يرجع المعبد الأول إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، يليه معبد آخر يعود إلى القرن الثاني عشر ق. م، وعُثر في حرم المعبد على تماثيل مصرية وكنعانية. أما في الطبقة الثالثة فعثر على آثار تعود إلى الحقبة اليهودية القصيرة، تليها طبقة فيها آثار إغريقية وفوقها كنيسة بيزنطية. ويعلق الباحث فراس السواح الذي لخص هذه المكتشفات بقوله «وهكذا، تجتمع في بيت آشان كل البيِّنات المعاكسة لنظرية كمال الصليبي. فاسم الموقع قديم قدم سكناه. وقد وجد مكتوباً في الوثائق التي عثر عليها بين أنقاض المدينة ولا علاقة له باليهود النازحين إلى فلسطين بتسميته تيمناً بموقع قديم في عسير كما يرى الصليبي. واللُّقى المصرية التي وجدت في الموقع من نصب وتماثيل ونقوش وكتابات هيروغليفية تثبت أن مسرح السجلات المصرية الفرعونية هو بلاد الشام لا غرب الجزيرة العربية. ومع ذلك، ودون التوقف عند هذه الحقائق، ينقل كمال الصليبي بيت شان إلى منطقة الطائف فيجدها في قرية الشنية».
ومن المدن الكنعانية والفلسطينية الأخرى مدينة «شكيم» التي لم تكن لها علاقة بالعبرانيين أو بني إسرائيل طوال آلاف السنوات التي سبقت ظهورهم في فلسطين القديمة: تم التعرف الى آثار شكيم في تل بلاطة قرب نابلس بعد عمليات التنقيب التي قام بها د. سولن ود. والتر بين سنتَي 1913 و 1934، واستكملها د.رايت بين سنتَي 1956 و1964. وقد بيّنت نتائج التنقيبات أن الموقع كان مسكوناً منذ العصر الحجري الحديث، إلا أن المدينة المسورة لم تظهر إلا في عصر البرونز الوسيط مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، لكنها دمرت في أواسط القرن السادس عشر ق. م. وكانت شكيم الكنعانية ذات شأن في عهد تل العمارنة، وظهر اسم ملكها لابايو في مراسلات مع حكام فينيقيا من جهة، ومع حكام مصر الفرعونية من جهة أخرى. وقد دُمرت في أواخر القرن الثاني عشر ق. م، وأعيد بناؤها في القرن العاشر ق. م، وأصبحت جزءاً من مملكة إسرائيل الشمالية قصيرة العمر نسبياً حتى الاجتياح الآشوري، وإسقاط تلك المملكة. وتظهر آثار التدمير في هذه الطبقة الآثارية. أما الصليبي فاقترح أن تكون قرية سقامة في منطقة الزهران السعودية، أو بلدة القاسم قرب القنفذة، هي شكيم الكنعانية.
الأمر يتعلق بقراءات مختلفة لمخلّفات آثارية، وليس بتأكيد تأريخية التوراة أو نكرانها


يبدو من الطريف وجود طريقتين مختلفتين شكلاً، متشابهتين مضموناً ونتائجَ، لقراءة دليل أركيولوجي حاسم ومشهور عند الآثاريين يدعى نقش أو لوح شلمنصر الثالث. القراءة الأولى هي للباحث فاضل الربيعي، باعتماد طريقته في المقارنة اللغوية التأثيلية، والثانية لكاتب آخر هو جورين كيلو والذي يعتمد التحليل الأيديولوجي التاريخي السطحي للأثر الأركيولوجي حول هذا النقش نفسه، ولكن لهدف سياسي وأنثروبولجي آخر لا علاقة له بنطاق بحثنا ويتعلق بتفسير متهافت ينفي مشاركة العرب الواردة في اللوح بعبارة «أريبي جنديبو» أو «جندب العربي».
إنَّ الحدث الذي يستعرضه نقش شلمانصر بدقة شديدة هو معركة قرقرة أو كركرا في القرن التاسع ق. م، فماذا نعرف عن هذا النقش أو اللوح؟
ينبغي التفريق أولاً، بين ما يسمى «نقش شلمانصر» وهو لوح بوجه واحد، يتحدث عن معركة قرقر «كركرا» واسمه العلمي (Kurkh Stela)، ورد فيه ذكر أسماء اثني عشر ملكاً تحالفوا لصد جيوش شلمانصر الثالث الغازية لبلاد آرام وفينيقيا وفلسطين. أما الثاني فهو المعروف بمسلّة شلمانصر الثالث أو المسلة السوداء (Black Stela). وهي مسلة بأربعة أوجه، وفيها يرد ذكر حملة حربية أخرى، أو ربما هي نفسها إنما باختصار، ذكرت فيها أسماء خمسة ملوك فقط. الواضح أن الكاتبين يناقشان نقش أو لوح شلمانصر عن معركة قرقرة، لا مسلّة شلمانصر السوداء.
يؤرخ اللوح أو النقش لحملة الملك الآشوري الرافديني شلمانصر الثالث ضد دويلات المدن في ما نسميها اليوم بلاد الشام، ويعتقد باحثون أن اللوح كان نصباً تذكارياً تحذيريا نصب في شارع عريض للدعاية. يبدأ اللوح بسرد لحملة شلمانصر السادسة مع جيشه وقوامه مئة ألف رجل من نينوى، عبروا نهر تيكَريس «دجلة»، ونهر الفرات، فسقطت عدة مدن، بما في ذلك «حلبت» أي حلب تحت سيطرته، وأجبر حكامها على دفع الجزية. ثم تعرض الجيش الآشوري لهجوم من قوات ملك حماة، فراح ينهب العديد من المدن، إلى أن تصدت له قوات التحالف في موقع كركرا على نهر العاصي. وزعم كلا الطرفين أنه انتصر في الحرب.
نكتفي بأسماء بعض«دويلات المدن» الواردة في النقش والمعروفة لدينا اليوم وهي: حماة، حلب، أرواد، دمشق، جبيل، أسرائيل «المملكة الصغيرة المنقرضة» وبيت عمون، أما صيدا وصور فلم تشتركا في الحرب، بل دفعتا الجزية للآشوريين. فماذا يقول فاضل الربيعي عن نقش شلمانصر الثالث، وكيف يحلله ليضمه في النهاية إلى الجغرافية التوراتية اليمنية؟
إن ترجمة نص النقش كما أورده الربيعي في مقالة له على موقع قناة «الجزيرة» مختلفة تماماً عن الترجمة التي يقدمها كيلو. فثمة فرق كبير بين النصين، وبما أننا لا نملك ترجمة رسمية أو شخصية لنص النقش بلغته الأصلية، فسنكتفي بمناقشة تناول الربيعي للنص الذي قدمه، ونرجح صحة ترجمة النص التي يقدمها جورين كيلو لأنها قريبة جداً من ترجمات أخرى، منها الترجمة التي يعتمدها عبد العزيز صالح في كتابه «الشرق الأدنى القديم... مصر والعراق»، ص 777، ترجمة محمـد بيومي مهران في كتابه «تاريخ العراق القديم»، ص 376.
يشن الربيعي حملة ضارية على التزوير والتلاعب التوراتي بالنصوص والنقوش التاريخية، فيقول «لقد جرى تلاعب مفضوح وشامل في قراءة وفهم المضامين الحقيقية لكل النقوش ما يزيد على خمسة مجلدات ضخمة في المتحف البريطاني، وأكثر من ذلك، تمّ من خلال هذه القراءة التلاعب بتاريخ المنطقة وتلفيق تاريخ فلسطيني ليدعم أسطورة وجود مملكة إسرائيلية في فلسطين قبل ألفي عام». يزجّ الكاتب هنا بمعلومات لم ترد في نقش شلمانصر، ولا في قراءاته المعاصرة، فمملكة «اسرائيل» الأقرب إلى الوثنية الكنعانية منها إلى اليهودية، هي دويلة صغيرة لم تدم في جميع مراحلها أكثر من قرنين وستة أعوام، وقد أنهى وجودها الملك الآشوري تغلات بلاصر، أما الدويلة اليهودية الثانية «يهوذا»، فقد استمرت حتى سنة 588 ق. م. وأنهى الملك الكلداني نبوخذنصر وجودها، وهذا ما يعترف به التوراتيون أنفسهم.
ثم إن الربيعي لم يقدم أي أدلة على «التلاعب المفضوح» في نقوش المتحف البريطاني، بل هو لم يذكر حتى عناوين تلك النقوش والمجلدات الخمسة! وبعد أن يثير الربيعي بعض التشكيكات والفروق في الأرقام والتواريخ والأسماء، يكتب «أولاً ــــ إن الحملة التي قادها شلمانصر الثالث بنفسه نحو 850 ق. م. جرت في اليمن القديم ضد مملكة أوسان وليس في فلسطين. وكانت أوسان من أهم حلفاء سبأ». ويضيف الربيعي «ثانياً ــــ إن الملك الآشوري واجه تحالفاً قبلياً عريضاً ضم بني إسرائيل (ملك أخاب) والكاهن اليهودي بعشا ــــ بعشه، وأوسان وخولان وملك دمشق (!!) وبالطبع لا يمكن تخيّل وجود مثل هذا التحالف في أرض فلسطين»... «سنجد اسم المدينة التي وصلها شلمانصر (أرجانة ــــ عرجانة) في محافظة لحج، مديرية طور الباحة، قرية عرجان. كما نجد اسم قرقر في محافظة أبين، قرية قرقر. وسنجد اسم إسرائيل في محافظة أبين، قرية قرن آل إسرائيل».
ويخلص الربيعي إلى الحكم القاطع الآتي: «هذا النقش ومعه نص التوراة، يرويان قصة المعارك المبكرة ضد مملكة أوسان «اليمنية» 850 ق. م. يوم لم يكن هناك قطاع إداري في بلاد الشام يدعى فلسطين. لقد ولد اسم هذا القطاع بعد قرون طويلة مع الرومان».
لن نعلّق طويلاً على قوله «إن اسم فلسطين ولد مع الرومان» أي بعد سنة 63 ق. م. فقد تكلمنا طويلاً عن اسم فلسطين في مقالة أخرى نشرت في مجلة «الآداب» عدد نيسان 2019.
إن قراءة الربيعي هذه تعسفية، فهو يحاول «ترهيم» أسماء قرى وبلدات يمنية صغيرة ومجهولة، فيقصي ويحذف مدناً كبرى مشهورة تاريخياً مثل حلب وحماة وأرواد وعمون أو يذكرها دون موضعتها جغرافياً كدمشق التي ينقلها إلى اليمن. ويسكت عن الفقرة الخاصة بملك «إسرائيل» المنقرضة ياهو بن عمري في النقش والذي ذُكر فيها بالاسم مع مفردات الجزية التي قدمها من ذهب وفضة في منحوتة بارزة له وهو يسجد أرضاً أمام الملك شلمانصر. وهذا الملك واحد من سلالة آل عمري المغضوب عليها من التوراة ومملكة يهوذا لأنها متهمة بالخروج على اليهودية والارتداد إلى الوثنية الكنعانية والفينيقية. وهناك العديد من الأدلة الآثارية التي تؤكد وجوده وعرضها فنكلشتاين في «التوراة مكشوفة»، ص217.
ولكن، من أين جاء الربيعي بحكاية المملكة الأوسانية وشعب الأوسانيين، وهل ورد ذكرهم فعلاً في نقش شلمانصر؟ لقد ورد ــــ ضمن أسماء الممالك والمدن الإحدى عشرة ــــ اسم مدينة «أوسنو Usnu أو أوسانات Usanat»، وهي التي وجد الربيعي فيها ضالّته اليمنية، فتحولت إلى المملكة الأوسانية على سن ورمح! وهناك اسم لمملكة أخرى هو «سيانو Siano»، وتلفظ أيضاً شيانو، وملكها هو «أدونو بِعلي» وهو قريب من لفظ «أدونيس» وليس فقط من «عدينو» كما قرأها الربيعي، أما بعل فهو من الآلهة الكنعانية الفينيقية ولا علاقة له بالآلهة اليمنية عصر ذاك. ويذكر محمـد الخطيب في كتابه «الحضارة الفينيقية»، ص 56، أن الملكين أدونو بعلي وماتن بعلي هما ملكان فينيقيان شاركا في تلك الحرب.
ومن نقش شلمناصر نفسه نفهم، أن «أوسنو» لم تكن سوى بلدة صغيرة بدليل أنها شاركت في تلك الحرب بمئتي مقاتل فقط مقابل مملكة دمشق التي شاركت بألف ومئتي مقاتل، أما مدن الساحل الفينيقي الشمالي فشاركت بأكثر من عشرة آلاف مقاتل.
وأخيراً، فالربيعي يسكت سكوتاً مطبقاً على الجغرافية التي وجد فيها هذا اللوح منصوباً في مكانه التاريخي الأصلي، فأين عثر عليه؟ أفي اليمن، أم في إقليم قريب منها كالحجاز؟ والجواب: لقد عثر عليه في أقصى شمال المملكة الآشورية التي كان يحكمها صاحب النقش شلمانصر الثالث، وبالتحديد في ميدان الحدث التاريخي نفسه، وتحديداً في النقطة التي انطلقت منها جيوش شلمانصر، أي في مدينة كورخ الأثرية الواقعة في تركيا الحالية، ومنها أخذ اسمه العلمي والمتحفي (لوح كورخ Kurkh Stela).
إن طريقة الربيعي المتعسفة هذه في قراءة الآثار الأركيولوجية ليست جديدة، فقد سبق له أن اعتمدها في مناسبات أخرى؛ لعلّ من أهمها قراءته للنقش اليمني المعروف باسم (B-L Nashq Demirjian 1) الذي يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، وترجمه إلى العربية عن الكتابة المُسندية الباحث اليمني المتخصص في المُسنديات عمر الشرجبي. وقد كشف باحث يمني آخر هو فكري الهير في مقالة له بعنوان «نقش الحقيقة السبئية... التوراة ليست في اليمن» عن حقيقة القراءة المتعسفة وغير المنهجية تماماً التي قام بها الربيعي ودحضها تماماً.
*كاتب عراقي