«تأتي الثورة حين تريد هي، لا حين نريدها نحن»فلاديمير إيليتش لينين

من أصعب الأمور أن تُسبغ عنواناً سياسياً ونيّات واضحة على حركات شعبية عفوية، وبخاصّةٍ إن لم تتحوّل إلى «نظام» وتحكم، ولم يكن خلفها حزبٌ وتنظيم يتبنّاها. ما هو المعنى السياسي للانتفاضات العربية، وماذا أراد المنتفضون؟ هنا، من البداية، تجد تفسيرات متباينة إلى حدٍّ غريب. البعض يعود إلى السبب المباشر للتمرّد الشعبي: في تونس خرجت المظاهرات احتجاجاً على الفقر وتباطؤ التنمية وتهميش الأطراف. في مصر، كانت الشرارة هي الاحتجاج ضدّ تجاوزات الدولة وبخاصّةٍ جهاز الشّرطة، إلخ. البعض الآخر يتجاوز المطالب المباشرة ويركّز على الجانب البنيوي. علي القادري مثلاً يرى أن الانفجارات الشعبية عام 2011 لم تكن إلا نتيجةً لعملية تاريخية طويلة: ثلاثة عقود من اللبرلة الاقتصادية وتآكل السيادة والحروب والهزائم أدّت الى إفقار الفئات الوسطى بنحو تدريجيٍّ ومستمرّ، حتّى خرجت هذه النّاس إلى الشوارع مع أوّل فرصة، كأنها تصرخ من الألم، وإن لم يكن لديها تنظيمٌ وخطّةٌ ومطالب واضحة. البعض يضع «نظرية المؤامرة» في قلب الموضوع وأساسه، والبعض الآخر يحاول أن «يستقرئ» المظاهرات ويعطيها عناويناً من عنده ومعاني أخلاقية: كان هناك هتافٌ يقول كذا فهي إذاً «ثورات كرامة»، وكانت هناك شعارات تقول كيت فهي إذاً مطالبات بدولة المواطنة (ونمط «استقراء» المظاهرات هذا، منهجياً على الأقل، هو سيّئ ومضلّل، ولكنه يسمح لك بأن ترى فيها ما تريد أن تراه).
بمعنى آخر، فإنّ أيّ توصيفٍ سياسيٍّ لمضمون هذه الانتفاضات الشعبية ينطوي، ضرورةً، على مصادرة ما. إمّا أنك تسحب تجربتك على باقي النّاس، أو تقوّلهم ما في رأسك، أو تضع كلامهم في نسقٍ محدّد مسبقاً... إلخ. من هنا، أذكر أنّ مقالاً كتبته في الأسابيع الأولى لهذه الأحداث كان عن هذه المعضلة تحديداً، وكان بعنوان «قبل أن تُسرق الثورة» («الأخبار» في 8 شباط 2011)، (وهذا لم يكن تنجيماً؛ الكثير من الأمور التي تُقال اليوم على أنّها «مراجعات»، أو عصارة الحكمة والتجربة والتاريخ، كانت واضحة وبديهية، وقالها الكثيرون في وقتها). غير أنّ المصادرة الأهمّ هنا، والتفسير الذي ساد وغطّى على غيره، كانت «المصادرة الليبرالية»، وهي أيضاً ابتدأت مع أوّل خروجٍ للناس إلى الشارع، وتعميد «المجتمع الدولي» لانتفاضات العرب على أنها «ربيع» ديمقراطي (وهي تسمية انطلقت من الخارج، لا من مصدرٍ محلي). «المصادرة الليبرالية»، باختصار، هي فكرة أنّ الهدف الوحيد والحصري لأي «ثورة» هو في إقامة نظام انتخابي تعددي على النمط الليبرالي. بتعابير أخرى، إنّ كلّ ثورة في التاريخ هي، بالضرورة، استنساخٌ لثورات شرق أوروبا عام 1990. هذا قد يكون مفهوماً بالنظر إلى سياقنا التاريخي والهيمنة الليبرالية المطلقة في ربع القرن الأخير، ولكن أي قراءةٍ لأدبيات «الثورة» ومفهومها ستريك سريعاً أنّ هذا التعريف حديثٌ وليس عليه إجماع، بل إنّ الليبراليين - تاريخياً - قلّما قادوا الثورات (حتى الثورات الأميركية والفرنسية، كما يكتب بيري أندرسون، لم تكن تملك مفهوماً قصدياً ومسبقاً عن نظامٍ بديل و«عالمِ جديد» - كما مع ثورات البلاشفة وماو، مثلاً - بل كانت «فورات غضبٍ شعبي» أدى مسارها، في نهاية الأمر، إلى «خلق مؤسسات سياسية وقانونية جديدة»).
السياق العالمي يفرض لغته وأجندته. الليبرالية هي لغة الدبلوماسية العالمية و«عملتها» السياسية، هي لغة مراكز الأبحاث و«مراكز الناشطين»، وهي الخطاب المقبول في العواصم والمنابر الدولية. حتى الناشط العربي وجد نفسه، بسرعة، يتأقلم مع هذا الخطاب المهيمن ويصوغ مطالبه من خلاله (سواء كان يسارياً أو إسلامياً أو غير ذلك، حتى السلفيون أصبحوا يتكلمون بالديمقراطية)، ويخاطب العالم كما يتوقّع منه أن يخاطبه (هذا حتى لا نتكلّم على حالة ابن القبيلة الذي يحمل بندقية ويقول إنه يحارب ضد الاستبداد ومن أجل الديمقراطية، أو المقاتل الطائفي الذي يقول إنه يبغي «الحريّة»؛ وهذا «الاستخدام» للخطاب الرائج مفهومٌ وطبيعي بالمناسبة، الغريب أن يقوم «ليبراليون» عرب بتأييد هؤلاء تحت هذا المسمّى). هناك، بالطبع، جوانب أخرى للموضوع. ظاهرة الإعلامي والكاتب والمثقف العربي «الليبرالي»، ولكنه يعمل لدى أنظمة الخليج، ليست مفارقةً غريبة كما يبدو للوهلة الأولى بل خلفه منطق ما. لأن خطاب الليبرالية هو خطاب يقتصر على موضوع الحقوق السياسية، فهو يسمح لك بأن تتجنّب كل «المضمون»، أي القضايا «الفعليّة» والخلافيّة التي قد تخلق تناقضاً حقيقياً مع النظام الرّاعي (توزيع الثروة، السياسة الخارجية، الموقف من الوجود الأميركي، إلخ). هكذا تحصل على إرادة شعبية «من غير دسم»، وبخاصّة حين تحرص على أن تستثني النظام الخليجي من هذه الدعوة «الديمقراطية».
المسألة ذاتها تنطبق على «الناشط الديمقراطي» في الغرب - تخيّل أن تقول للحكومات الغربيّة إنّك تريد تحقيق «الإرادة الشعبية» في العالم العربي، ثم تخبرهم بالرأي الحقيقي للشعب العربي في أمورٍ مثل أميركا وفلسطين واستخدام الثروة الوطنية، سيضعونك في السّجن بدلاً من رفدك بمنحة. في الأشهر الأولى للانتفاضات العربية، اعترف لي أحد الأصدقاء بأنه يتّفق معي بأنّ «لبرلة» المطالب الشعبية هي «مصادرة» لما يريده النّاس، ولكنه مقتنع بأنّ هذا بمثابة «وهمٍ مفيد» لأنّ نظاماً ليبرالياً - في الظروف القائمة - هو «أفضل ما يمكن أن نخرج به». أحاول في هذا المقال أن أثبت أن كل هذه التبريرات ليست صحيحة.

معضلة كارل شميت
علينا، هنا أن نأخذ خطوةً إلى الوراء ونستعين بالمنظّر الألماني الشهير كارل شميت. أذكر أنني، في المرة الأولى التي قرأت فيها شميت، حذّرنا المحاضر (وكان الفيلسوفة الأميركية ويندي براون)، وبحزم، من أن نعود باستمرار إلى علاقة شميت مع النازيين وخدمته لهم (اللطخة التي تخيّم أبداً على ذكراه). في ذلك الوقت لم أفهم جيّداً معنى هذا التحذير، وهو أنّ شميت الذي تقرأه، من ناحية، كان يكتب وهو لا يعرف أن النازيين سيصلون إلى السلطة وأنّه سينضم إلى الحزب النازي عام 1933. فقراءة نصوصه السابقة من منظور ما جرى في المستقبل لن تساعدك على فهمه. أكثر من ذلك، كان شميت يكتب، أساساً، للدفاع عن الديمقراطية الألمانية، وهو يرى نظام فايمار يتهاوى، ويحذّر تحديداً ممّا جرى: أن «ينتحر الدستور» وأن تقتل الديمقراطية نفسها (العديد من المفسرين يعتبرون أن دخول شميت إلى النظام النازي كان بمثابة «استسلام» لإرادة الشعب: «لم أكن أريد لهذا أن يجري، ولكن ما دام قد حصل، فهو التعبير عن إرادة الشعب الألماني وواجبي هو الانضمام إليها»).
يطرح شميت أكثر من تحدٍّ على النظام الليبرالي في العصر الحديث. علينا بدايةً أن نفرّق بين الديمقراطية والليبرالية، كما يفعل شميت، وهذا تفريقٌ أساسيّ، فهما ليسا الأمر ذاته: الديمقراطية تعني أن يكون لكلّ فردٍ في الشعب صوتٌ مساوٍ لغيره في تقرير السياسة، والليبرالية هي منظومة حقوقٍ فردية وسياسية واقتصادية (ولا يمكن فصل الجوانب السياسية والفلسفية والاقتصادية في الليبرالية بعضها عن بعض، بل هي ــ كما يكتب شميت ــ «كلٌّ شاملٌ، متّسق، ميتافيزيقي»). وهنا تبدأ المشكلة، اذ يجزم شميت بأن الليبرالية، بنت القرن التاسع عشر، لا يمكن أن تتعايش مع «الديمقراطية الجماعية» في المجتمع الحديث. الفكر الليبرالي، يقول شميت، هو نتاج سياقه: أناس مدينيون في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في أوروبا، هم جزء من برجوازية صاعدة وهمّهم نظامٌ يضمن حقوقهم الفردية ويزيل العوائق التي أقامها الإقطاع والكنيسة والنظام القديم في وجه «التنافس الحرّ» بين الأفراد والتساوي في الفرص وحجم السوق والملكيّة. هذا المثال عن «مواطنين أحرار»، متساوين، يتنافسون في السوق تنافساً حميداً يصلح لمجتمعٍ سياسي نخبوي من القرن التاسع عشر، في رأي شميت، يكون «المواطنون» فيه متشابهين ومنسجمين وذوي مصالح متقاربة. ولكنّه لا يصلح لمجتمعٍ تعدّديّ حديث، فيه طبقات وتناقضات ومصالح متضاربة ومستغِلّ ومستغَلّ، وكثيرون لا يؤمنون أصلاً بهذه الليبرالية. بمعنى آخر، عليك أن تختار، إمّا أن «تكبح» الديمقراطية وتبقي السياسة حكراً على أقليّة (وهذا ما كانت تفعله الأنظمة الليبرالية لأكثر من قرن، بحكمةٍ في رأي شميت، فتقصر التصويت على المتعلّمين أو ذوي الدخل المرتفع، أو تضمن تمثيلاً ساحقاً للنبلاء والبرجوازية على حساب العمّال)، أو تخاطر بأن تقضي الديمقراطية على النظام الليبرالي (في ما يشبه المعضلة التي يقع فيها الكثير من الليبراليين العرب: هم يقولون إنهم يريدون ديمقراطية، ولكنهم لا يريدون حكم الإسلاميين، أو لا يريدون أسلمة المجتمع والدولة، وهذه ببساطة من الإمكانات التي تسمح بها الديمقراطية ولا يمكنك أن تقصيها كاحتمال).
المشكلة الثانية هي في أنّ مجتمعاً حديثاً، فيه تناقضات حقيقية وخلافات وتضارب في المصالح والرؤى، فإنّ النظام الليبرالي لن يسمح بحلّ أيٍّ من هذه المشاكل وحسمها. فلنعد إلى الواقع العربي: لديك مشاكل في توزيع الثروة، وتراكم للظلم الاجتماعي، ومشكلة طائفية، وتهميش لفئات واسعة، وأناس يعتاشون على نهب البلد، وسياسة خارجية تابعة، الخ. كلّ هذه المشاكل، يقول شميت، لا يمكن أن تواجهها فعلاً في ظلّ نظامٍ ليبرالي. النموذج الليبرالي هو نموذج تنافسٍ مستمرٍِّ لا ينتهي بنصرٍ أو بإلغاءٍ لأحد، يقول شميت، والنظام الليبرالي السياسي (أي البرلمان) وظيفته ليست في أن يحسم ويقرّر؛ البرلمان هو مكانٌ للنقاش المستمرّ، يمكنك أن تجادل فيه وأن تنافس، ولكن يستحيل أن تحسم فيه أو أن تطلق تغييراً حقيقياً. والمنظومة الليبرالية، في الوقت ذاته، تحوي على حقوقٍ مقدّسة للأفراد والملكية تمنع أيّ تدخّلٍ جذري في الاقتصاد وتوزيع الثروة.
المشكلة، إذاً، هي ليست أن الانتفاضات لم تنجح في بناء أنظمةٍ برلمانية ليبرالية، بل أنّ الهدف نفسه كان مضلّلاً وهو ليس الطريق إلى حلّ تناقضات المجتمع والقضايا «الحقيقية» التي خرج من أجلها الناس (ولكم في لبنان مثال). كذلك فإن «الحزمة الليبرالية» في سياقنا الحالي تحوي مبادئ (في النظرة إلى الاقتصاد والسوق ودور الدولة والوصاية الغربية) تضمن استمرارية أسوأ ما في الوضع الحالي وتجذيره. على سبيل المثال، قرأت لناشطٍ جزائريّ يعبّر عن أنّ «نهاية الاستبداد» تعني عنده رفع يد الدولة عن المجتمع والاقتصاد، والتقليل من المؤسسات العامة، وترك السوق يفجّر طاقات الناس، وإعطاء كيانات فيدرالية لمختلف الهويات الجهوية والإثنية في الجزائر حتى تعبّر عن نفسها بحريّة. حسنٌ، من وجهة نظر معيّنة هذا موقفٌ يدعو للديمقراطية، ولكن من جهةٍ ثانية فأنا، لو كنت جزائرياً، لسعيت لوضع صاحبه في السّجن أو منعه من العمل في السياسة، فهذه الاقتراحات (تفكيك شبكة الرعاية الاجتماعية، تحرير السوق في الجزائر، إعطاء الهويات كيانات سياسية) وصفة مؤكّدة لتدمير البلد. والمرّة الأخيرة التي جرّبت الجزائر فيها درب الخصخصة واقتصاد السوق وانسحاب الدولة، في الثمانينيات، نتج من ذلك ضربٌ لشرعية الدولة وانهيار اجتماعي وحرب أهلية. المسألة أنّ هذه المشاكل والتناقضات، إن لم يجرِ «حسمها» في المجال السياسي، فهي لا تختفي ولا تؤجّل الى الأبد، بل تنفجر في المجتمع (ولكم في لبنان، مجدّداً، مثال). هذا الواقع، في رأيي، من الأسباب التي أدّت الى رواج «النموذج العسكري» مجدّداً في بلاد العرب: نموذجٌ يزعم أن في وسعه إقصاء هذه المشاكل والتناقضات والحروب الأهلية من المجال السياسي وأن يقمعها، في الآن ذاته، من أن تنفجر في المجتمع. على الهامش، وعلى ذكر شميت: لديّ نظرية عن استمرارية الطائفية في مجتمعاتنا المشرقية مستوحاة من ثنائية الصديق/العدو عند شميت. وهي لديه المحدّد الأساس في المجال السياسي. الفكرة هي أنّ «الطّائفية» ليست مسألة «جوهريّة» ولا هي وهم، بل وجودها في المجال السياسي مستمرٌّ ما دامت (ولو بالمعنى النظري الاحتمالي) محدّداً لمكانك في ثنائية العدو/الصديق، بغضّ النظر عن شكل النظام السياسي والاقتصادي وما تقوله الثقافة الوطنية والإعلام. بتعابير مختصرة: ما دام هناك احتمال ماثل في رأسك بأنه، لو تغيّرت الأحوال فجأة، فأنت قد تُقتل بسبب هويتك الطائفية أو، بالعكس، تسمح لك طائفتك بالمرور على الحاجز بسلام، فإنّ الطائفية حاضرة ومسيّسة؛ وحتّى يُسحَق هذا الاحتمال بالكامل وجذريّاً، فإنّ كل كلامٍ عن «ترويض الطائفية» وهمٌ ونفاق.

أعداء الثورة
العنصر الثالث هنا هو النظام القديم، فأنت لست وحدك في الحلبة السياسية. و«الثورة الليبرالية» لا يمكنها، بنيوياً، أن تقتلع النظام القديم. تذكّروا أن كل ثورة هي في جانب منها حرب أهليّة، و«النظام القديم» ليس رأس الدولة والوزراء، بل هو أساساً طبقة، وعدد كبير من الموظفين الرفيعين، ورجال أعمال كبار، والأمن والجيش والشرطة. يمكنك عبر «ثورة ليبرالية» أن تُسقط وجوه النظام القديم، أن تضعفه، أن تزيحه من الحكم، ولكن من المستحيل أن تقصيه وتقضي عليه؛ وأنت هنا في «حربٍ أهلية»، إن لعبت فيها بقواعد الليبرالية السّمحاء فلا ضمانة بأن خصمك سيكون ساذجاً ويفعل المثل. لن أنظّر في مفهوم الثورة والنظام القديم، ولكن بتبسيطٍ شديد، أنت ستجد في كلّ بلدٍ من بلادنا - من لبنان إلى السودان - طبقة أقليّة مستحكمة. النّاس الذين لعبوا اللعبة و«دبّروا أنفسهم» وبنوا منازل جميلة ولبثوا مطمئنين إلى نجاحهم. من الموظف الفاسد إلى الشريك التجاري إلى الجنرال إلى رئيس الجامعة. في اعتقادي أنّه إن حصلت «ثورة» وظلّت ثروات هؤلاء ومناصبهم آمنة، فأنت لم تفعل شيئاً. فلنتذكّر أنّه في إيران، والثّورة لم تكن عنيفة ودمويّة بالمعنى المقارن، كان هناك على الأقل 10 بالمئة من الشعب («بطانة الشّاه») تعرّضوا فوراً للإقصاء والعزل والاعتقال، وفرّ الكثير منهم إلى خارج البلاد. في العراق، بعد 1958، يقول حنّا بطاطو إن شرعية نظام قاسم تعرّضت للتشكيك، وواجهته غضبة شعبية لأنه أبقى على جهاز الشرطة القديم ولم يحلّه. الشرطة عند الناس الثائرة كانت رمز النظام ومخلبه ويده في الشارع، فما معنى الثورة إنْ ظلّ هو وعناصره؟ (وهذا أثر ثورةٍ شهدت قتل رموز العائلة المالكة، وتهميش طبقة سياسية كاملة، ومصادرات وإدانات ومحاكم المهداوي).
الكثير من الناشطين يشتكي من «التخويف» بنماذج مثل سورية وليبيا واليمن من أجل قمع المشاركة الشعبية. في الحقيقة، إنّ الدروس لا تقبع فقط في حالات «الخراب الكامل»، بل أيضاً في المثالين المخالفين، أي مصر وتونس. في البلدين غُيِّر رأس النّظام مع الإبقاء على بنية «النظام القديم» - من الجيش والشرطة والاقتصاد، وصولاً إلى البيروقراطية والإعلام والمعاهدات الدولية. النتيجة في مصر كانت أنّ النظام القديم تمكّن، بسهولةٍ وسرعةٍ ودعمٍ شعبيّ، من إسقاط النظام المنتخب (وذلك بعد سنتين انتخابات وجدالات وانقسامات واضطرابٍ ضمنت أنّ حراك الثورة الأصلي قد خبا ولم يعد موجوداً). أمّا في تونس، فالسبب الحقيقي لعدم حصول صدامٍ على الطريقة المصرية، أنّ «النظام القديم»، ببساطة، لم يحتج إلى ذلك، فالأمور ظلّت - من وجهة نظره - "تحت السيطرة": شبكات السلطة والأعمال لم تتغير جذرياً، والنظام القديم يملك موقعاً قوياً في النظام "البرلماني" ويملك وضع "فيتو" على أي تغييرٍ لا يناسبه.
أكثر من ذلك، حتّى لو سرنا مع منطق «لوائح الطلبات» في التنظير للثّورة ومن يحترف أن يعدّد لنا ما كان يجب أن يكون («كان يجب أن يتوحّد الثوّار في تحالف سياسي، وأن يفاوضوا ككتلة، وأن يخرج منهم قادة لهم صفات كذا" إلخ). حتّى لو تحقّقت هذه «الطلبات»، ووجدنا نخبةً واعية تعرف أن تستغلّ الموقف، وكفوءة تقدر أن تفاوض النظام القديم، ومثالية لا تنقسم على مكاسب ومطامح، حتّى ولو جرى هذا كلّه، فإنّ «الثورة» لا يمكن أن تتحوّل إلى تغييرٍ اجتماعيّ حقيقي ضمن قواعد ليبرالية. هذا لمن يقول إن الديمقراطية الليبرالية لا تحلّ مشاكلنا، ولكنها الطريق إلى حلّها. لو طرح «تحالف الثورة» هذا أهدافاً جذرية، تعيد النظر في التوزيع والاقتصاد وبنية المجتمع (أي كما يفترض بالثورات أن تفعل)، ودخل الانتخابات، فما الذي سيجري؟ إن حصل هذا التحالف الافتراضي، وأجندته التي سيعاديها الكثيرون من غير ريب، على أكبر كتلة في البرلمان، 45% منه مثلاً، فهو لن يتمكّن من تنفيذ شيء. وحتّى لو نال أغلبية مطلقة، فلنقل 60% من كل المقاعد، فحظّاً سعيداً لك - في تنفيذ مهمّتك التحررية - مع ضوابط الدستور ودهاليز المحاكم وتفسير القوانين وجدالات البرلمان.

عن الثّورة و«الوكالة» (agency)
في كتابه «النظريّ» (جدالات مع الماركسية الإنكليزية) يفرد بيري أندرسون فصلاً مثيراً عن مفهوم «الوكالة» بمعنى قدرة الفرد على الفعل والتأثير في مجرى التاريخ. الكتاب، أساساً، عبارة عن حوارٍ منهجي وفلسفي بين نقيضين: المؤرّخ البريطاني اي بي تومبسون الذي يُعلي من شأن وكالة الفرد ودوره في التاريخ، والفرنسي التوسير، صاحب المفهوم المتطرّف عن البنيوية، الذي يترك بالكاد أيّ مساحةٍ لإرادة الفرد. خيبة السنوات الماضية لدى الناشطين العرب أدّت إلى تحوّلات متطرّفة بعضهم ودفعت البعض الآخر إلى النظر في الأمكنة الخطأ بحثاً عن الخلل. البعض انتقل من مفهومٍ قصووي و«ساذج» عن «الوكالة» ودور النّاس وإرادتهم و«الشعب يريد» إلى تفسيرات ثقافوية وبنيويّة لما جرى في السنوات الماضية (بمعنى أنّ ما حصل كان مقدّراً، وهو نتاج طبيعي لشعبنا و«مستواه الحضاري»، ولم يكن بالإمكان أفضل مما كان، وسنرى - كما حدث سابقاً في حالات مشابهة - إنتاجاً غزيراً للفكر اليميني والمحافظ).
يكتب أندرسون أن هناك ثلاثة مستويات لـ «وكالة» والفاعلية البشرية حين تكون جزءاً من مشروعٍ جماعيّ. هناك أعمال بسيطة يقوم بها الناس في مجالهم الخاصّ، وهي الجزء الأكبر من الفعل البشري على مرّ التاريخ (أن تبني منزلاً، أن تعلّم في مدرسة). هناك، ثانياً، أعمال جماعية لها صفة «عامّة»، يقول أندرسون، ولكنها تقوم على نسخ نظامٍ ما وزرعه في مكانٍ آخر: التبشير الديني، رحلات الاستكشاف، الغزو. ثالثاً، يضيف أندرسون، هناك نمطٌ خاص من الفعل البشري الجماعي، هو حين يقرّر بشرٌ، بشكلٍ واعٍ، أن يغيّروا طبيعة العمران البشري من حولهم، عبر نموذجٍ جرى تخيّله مسبقاً، وهو ينطوي على منهجية تفهم عبرها الحاضر والماضي وتشرّع للمستقبل - ويخرج منها نظامٌ جديد للحياة والمجتمع. هذا هو مفهوم "الثورة" في العصر الحديث وهو، بحسب أندرسون، لم يتحقّق إلا في حالة الحركة العمالية الاشتراكية. أنا أضيف أنّ النموذج النيوليبرالي، في ربع القرن الأخير، قد شكّل أيضاً مشروعاً متكاملاً من هذا النمط، ولكن «نجاحه» في أوروبا الشرقية قد جرى في ظروفٍ استثنائية، ويجري التحكّم بها بصرامة، ومن الصعب استنساخها.
ولكن، إن كان النموذج الاشتراكي قد هُزم ولم يعد مطروحاً، والنموذج الليبرالي - وإن تحقق - لا يجيب على المشاكل التي تواجهنا، فما العمل؟ في انتظار تشكّل «مشروعٍ ثوري» لديك إجمالاً خياران: إمّا أن تواجه القضايا «الفعلية»، «السياسية»، التي تقسم النّاس وتؤثّر في حياتهم (الإفقار، العلاقة بين طوائف المجتمع، التبعية للخارج) وتحاول حسمها ضمن المجال السياسي وتبني الاستقطاب حولها وحول والمواجهات التي تفرضها، أو - كما قال شميت - ستنحو صوب حلولٍ محافظة ورجعية حين تكتشف حدود الليبرالية: تدعو، مثلاً، إلى كبح الديمقراطية حتى تروّض شعبك و«تدرّبه» على الحداثة، أو تطمح إلى «الإصلاح» والتدريج بعد أن كنت تنظّر للثّورة. حسنٌ، هذه نظريات مفهومة وليست جديدة، ولكننا، هكذا، نكون قد عدنا ببساطةٍ إلى التسعينيات، فما كان معنى كلّ هذا الخراب والدم؟