تُعَدّ نتائج العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 نهاية المرحلة التاريخية التي كان فيها حزب الله مقيّداً بمساحة جغرافية محددة وبوضعية عسكرية محمولة حصراً على صورة المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. بعدها بسنوات، وتحديداً أواخر فبراير من عام 2010 حين التقى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بكلٍّ من الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في العاصمة السورية دمشق، وضع الحزب قدمه الجيوبوليتيكية الأولى على تراب المنطقة. سيولة الأحداث ونوعية التحدّيات دفعت الحزب بعد أشهر على هذا اللقاء إلى قلب التاريخ الحديث وإلى الأنساغ الجغرافية العميقة الي تربط برهانات الصعود، لا من باب التوسع والسيطرة أو عبر التوسل بذريعة المجال الحيوي الذي تقوم به عادة الدول القوية، بل من باب التذاوب مع المدى الجديد الذي يبدأ من طهران ويمرّ عبر العراق فسوريا باتجاه لبنان. الباعث المحرّك لهذا التحوّل، وإن كان له أصلٌ في حيّز الأشواق وصوتٌ في مكامن التراث الديني وأعماقه، وإحساس بالتضاريس القديمة الموَحَّدة، والبيئة المثيرة لتفاعل وانصهار القومي بالديني والماضي بالحاضر والسياسة بالسوسيولوجيا، لكن «الربيع العربي» والنشاط الاستعماري الأميركي ومطامعه في ثروات المنطقة كانت المنبّه الواقعي لحزب الله وسورية وإيران وقوى في العراق ليشكلوا حلفاً يجمع «جغرافيتهم المقدسة» أُطلق عليه لاحقاً «محور المقاومة». مع هذا المحور سيقفز حزب الله من مهماته المحلية إلى تطلّعاته وأدواره الإقليمية. وهذا استوجب منه تطوير تعريفه لنفسه وتحديث تصوراته الجيوبوليتيكية من ضمن الاستعدادات المطلوبة لإعادة صياغة الأرض والثقافة والمجتمعات بما يتفق مع مصالحه وشراكته مع حلفائه. وكانت الأزمة السورية واليمنية والعراقية هي التي أعطت توجّهاته الملامح والمراسيم التطبيقية، وهي التي فسّرت أيضاً توجّهات الآخرين الجيوبوليتيكية لتحقيق تكامل فريد يحتفظ بكل مقوّماته الثقافية والعرقية والدينية، ويقيم تشكّلاً استراتيجياً مستقلاً في مواجهة المصالح الجيوبوليتيكية الأميركية القائمة على تشبيك العلاقات بين البلدان العربية التابعة لها مع الكيان الإسرائيلي عبر خطوط اقتصادية وسياسية تذوب معها هوية العرب وثقافاتهم، وذلك في إطار رؤية تاريخية وجغرافية مفتعلة اسمها «الشرق الأوسط الجديد». تطوير حزب الله فهمه للمكان والأعماق الجغرافية بدأ من البوابة السورية، وعكس من جانب، حدسه الروحي الذي يربطه بالفكرة المهدوية الخلاصية ودوره الرسالي في إنضاجها، ومن جانب آخر غوصه الجذّاب في تيار الزمن وتحولاته التي تجعل تموضعاته على تماس مع توجهات جيوبوليتيكية معادية، وتفترض بطبيعة الحال تبديلاً في طبيعة المعاينات والتقديرات لقضايا المنطقة وأزماتها.
بناءً عليه، تشكّلت رؤية حزب الله وتصوراته في المعمارية الجديدة للمنطقة وفقاً للآتي:
1. تأمين طرق لتواصل الدول والقوى المناوئة للمشروع الأميركي الإسرائيلي في مدى جغرافي واحد يقع على النقيض مع فكرة «سايكس - بيكو» التي قسّمت وأبعدت شعوباً متجاورة بعضها عن بعض، وجعلُ هذه الشعوب تتقوى بالتفاعل السكاني، والنشاط التجاري، وبتعميق الصلات الثقافية والروحية، والأيديولوجيا الجاذبة من خلال الإحساس المستمر بالمدى الجغرافي الواحد.
نحن أمام تطورٍ مفاهيميّ يتصل بخيارات المستقبل وكيفية التعامل مع حجم هائل من التحديات والمهمات خارج الحدود


2. إنّ السباحة خارج الحدود المصطنعة وتخطيها جاء في سياق الرد ومواجهة الحاضر (مشروع التخريب والتقسيم الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها) وتصميم معطيات المستقبل على أساس العدل وتنوع الثقافات واحترام الأديان والحضارات والتحرر من الاستغلال والهيمنة. وعليه، فإنّ حزب الله يرى المنطقة، وخصوصاً بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين وصولاً إلى إيران مدى واسعاً يستطيع أن يستقل بذاته ويبني سياساته ومصالحه التي تربطه بالآماد الأخرى على أساس مبدأ التفاعل والتعاون والاحترام المتبادل.
3. إنّ حزب الله، وأمام ما جرى في سورية والمنطقة، وما زال، اعتبر أنّ لبنان لا يمكن أن  يكون «غير منحاز» إلى محور، والنأي بالنفس ولو على مستوى الفرض لا يمكن أن يكون ثمنه إلا إزاحته عن مجال الجيوبوليتيكا الإقليمية وحرمانه الاستفادة من الأحلاف والمسارات الناشئة عنها التي تحميه اقتصادياً وسياسياً.
4. حزب الله يعمل مع شركائه على أن تكون هذه المرحلة هي المرحلة التاريخية لنهاية «سايكس - بيكو» بمعناه الاستعماري واشتراطاته العنفية في تصديع الطرق الحضارية لبلدان المنطقة. وهو يرى أنّ كسر المشروع الأميركي وإزالة الكيان الإسرائيلي هو الدليل المخلّص لهذه الأمة من المآسي والويلات وتسلط المستكبرين على ثرواتها، ولن يكتمل تعبير هذه الأمة وحضورها إلا حين تصبح واقعاً جيوبوليتيكياً وحضارياً منسجماً في حلقاته وموحَّداً في تطلعاته، ولن يتجلى هذا التموضع إلا تحت تأثير طاقة إيديولوجية وسياسة وروحية جديدة تنطلق من أعماق هذه البلاد وأنساغ شعوبها. 
5. لم يطور حزب الله قدراته التكنولوجية ويعاظم من قوته ويكاثر من عديده فحسب، التي مكّنته خلال السنوات الماضية من الصمود والمواجهة وتحقيق الانتصارات، بل طور بشكل حثيث إدراكاته للتعامل مع أسئلة المستقبل وكيفية الإجابة عنها. فنحن أمام تطورٍ مفاهيميّ يتصل بخيارات المستقبل وكيفية التعامل مع حجم هائل من التحديات والمهمات خارج الحدود، ما يجعل الحزب أقرب إلى اعتباره (حزباً مَدَوِيّاً- يتمدد ويتحرك في الآماد) أكثر من كونه حزباً محليّاً يعيش ضمن نطاق جغرافي داخلي محدد ولمهمات ذات طبيعية لبنانية حصراً. وهذا يؤيد أنّ فكرة الجيوبوليتيك ليست رهناً على القوى التقليدية الفاعلة على المستوى الكوني الكبرى، بل يمكن القوى غير الدولتية أن تبني حلفاً متجانساً مع دول صديقة لها لتشكيل لوحة جيوبوليتيكية خاصة بها.
في ظل العقوبات المالية على حزب الله والعقوبات الاقتصادية القاسية على حلفائه السوريين والإيرانيين، ترتفع أهمية العامل الجيوسياسي، وترتفع معها الحاجة إلى أن تعرّف شعوب محور المقاومة عن ذاتها كجماعة متحدة تتصل مصالحها بالتحيّز والتموضع المشروع، في لحظة يتجه العالم إلى نشأة أخرى وينفسح المشهد الدولي عن حقيقة قوامها أنّ الجغرافيا والتنازع حولها وعليها هي الحقيقة المؤسسة للتاريخ الجديد!
* كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية