كان دخول الجيوش العربية حرب فلسطين بالطريقة التي جرت بها مقدّمة هزيمة محقّقة. لم يكن رئيس الحكومة المصرية محمود فهمي النقراشي موافقاً على التدخل العسكري مثل أغلب النخب الحاكمة. كان رأي الحاج أمين الحسيني ـ مفتي فلسطين والمتحدث الأول باسم شعبها ـ أن تُسند مهمة المواجهة العسكرية إلى جماعات المتطوعين ودعمها بالسلاح والمال، على أن تبقى الجيوش رابضة على الحدود متأهّبة ومستعدّة. في المشهد العسكري نُسبت إلى رجلين، أكثر من غيرهما، مسؤولية النكبة.الأول هو اللواء المصري أحمد المواوي، قائد حملة فلسطين، وقد نالته انتقادات حادّة من الضابط الشاب جمال عبدالناصر في دفتر يومياته الشخصية، التي كان يكتبها على مكتب فوقه لمبة غاز في مقر قيادة الكتيبة السادسة. بعد الحرب حاول المواوي أن يبرّئ ساحته، كاشفاً عن مخاطبات كتبها لقياداته يحتجّ فيها على إرسال القوات من دون تدريب كافٍ، أو أسلحة لازمة.
الرجل الثاني هو الجنرال الإنكليزي جون باجوت جالوب، الذي أُسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وكانت إدارته للحرب من عَمّان، التزاماً كاملاً بالاستراتيجية البريطانية، لم يتجاوز خطوط التقسيم المنصوص عليها في قرار الأمم المتحدة، حين كان متاحاً التقدّم وكسب الأرض، فيما كانت الدولة العبرية الوليدة تتوغّل فيما تستطيع أن تصل إليه من دون اعتبار لأيّ قرارات دولية. كان وجوده على رأس القوات العربية نذير هزيمة مؤكدة. وقد طُرد من منصبه باحتجاجات شعبية في الأردن عند ذروة صعود التيار القومي عام 1956 بقيادة جمال عبدالناصر.
في حرب فلسطين تبدّت بطولات وتضحيات وإرادات قتال بين المقاتلين، لم تتوافر لها الحدود الدنيا من التسليح أو أية كفاءة عسكرية عليا تخطّط وتقود. كانت المفاوضات التي دخلتها القوات المصرية المحاصرة مع القوات اليهودية ـ كما كان يُطلق عليها في أدبيات ذلك الوقت ـ من أهمّ المحطات التي تعرّض لها الضابط الشاب في يومياته وعكست طبيعة نظرته إلى العدو الذي يقاتله.
كتب بخطّ يده يوم الأحد 31 تشرين الأول/ أوكتوبر 1948:
«القائد اليهودي يحضر في عربة عليها علم أبيض..
ذهبت لمقابلته.. يطلب منا التسليم.. نرفض.. يطلب أخذ جثث قتلاه..».
في اليوم التالي كتب: «جمع جثث قتلى اليهود حسب الاتفاق». «العدو ينقض اتفاقية إيقاف القتال بعد استلام جثث القتلى بساعة..».
يوم الأربعاء في 03 تشرين الثاني/ نوفمبر كتب بالحرف: «نقاتل.. ولا نستسلم».
بعد ثماني سنوات استعاد نصّ هذه الجملة بحروفها ومشاعرها من فوق منبر الأزهر الشريف حين أعلن مقاومة العدوان الثلاثي عام 1956.
الأربعاء التالي في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر كتب: «حضرت الساعة 15:00 مصفحة يهودية من الشرق، عليها علم أبيض.. طلب الضابط الموجود في العربة أن يحدّد ميعاداً ليتقابل فيه قائد الفرقة اليهودية مع قائد قواتنا» ـ الأميرالاي السيد طه، الذي اشتهر بـ«الضبع الأسود».
بعد يوم واحد:
«تقابلت مع الضابط اليهودي الساعة 10:00.. وبلغته أن القائد وافق على مقابلة القائد الصهيوني بين الساعة 15:00 والساعة 16:00.. فقال إنه يأسف لعدم اتفاقنا على المكان.. وإن هذا المكان بين الخطوط.. في الشمس غير مناسب.. إذ إن قائده يرغب في أن نتناول فنجاناً من الشاي سوياً.. وهو يخيّرنا بين جات وبيت جبرين.. اتفقنا على الاجتماع في جات.. وسيقابلنا منتصف الطريق الساعة 15:15.. توجهنا السيد علي طه، ورزق الله الفسخاني، وجمال عبدالناصر، وإبراهيم بغدادي، وخليل إبراهيم إلى الجات. قوبلنا مقابلة حسنة.. وكان الفرق شاسعاً بين جات وعراق المنشية فإن الشخص يشعر بأنه بين قوم متمدنين.. الآلات الزراعية الميكانيكية والنظافة والنساء في ملابس زاهية يلبسن الشورت.. واجتمعنا مع اليهود.. تكلّم القائد اليهودي وقال: إنه يرغب أن يمنع سفك الدماء وأن موقفنا ميؤوس منه وطلب أن نسلم.. فاعترض القائد المصري وطلب الانسحاب إلى غزة أو رفح، فمانع اليهود وقالوا إنهم يوافقون على شرط أن يخرج الجيش المصري من كلّ فلسطين وطلبنا إجلاء الجرحى إلى غزة لكنهم رفضوا ذلك.. قالوا إنهم مستعدون أن يعطونا ما نرغب من أدوية.. وأخيراً خرجنا.. وقد قدموا لنا عصير برتقال، وبرتقالاً، وساندوتشا، وشيكولاتة، وملبساً وبيتي فور وبسكويتا.. أبلغتنا الرياسة أن قافلة ستحضر.. كلمة السر حسان.. وأن جلالة الملك أرسل تلغرافاً يشكر فيه الجميع، ويشجعهم.. وقد رُقي السيد طه إلى أميرالاي مع رتبة البكوية».
هكذا سجل وقائع التفاوض التي جرت فى مستعمرة «جات» تحت إشراف هيئة مراقبي الأمم المتحدة، وكان الطرف اليهودي يقوده البريجادير «ييجال أللون» قائد الجبهة الجنوبية، رئيس الأركان الإسرائيلي ونائب رئيس الوزراء فيما بعد.
لم تمنع الحرب وأجواء التحدّي حتى الموت الضابطَ الغاضب من أن ينظر فيما يتمتع به عدوه من عوامل قوّة والتحاق بالعصر في أسلوب حياته. في اليوم التالي 12 تشرين الثاني/ نوفمبر اشتدّ الضرب على القوات المصرية المحاصرة.
«عرضت القيادة الانسحاب ولو بتكسير السلاح.. كان الرأي أن ذلك مستحيل فإنّ العدو من جهة الشرق يتحكّم في كل الطرق».
بعد يوم واحد ـ السبت 13 تشرين الثاني/ نوفمبر:
«كان من المنتظر وصول الصليب الأحمر، لكنّه لم يصل.. علمنا في المساء أن اليهود منعوه من المرور عند التقاطعات وضربوا أعضاءه».
بعد يوم آخر:
«وصلت الساعة 11:00 عربة عليها بيرق أبيض.. وبلّغنا الضابط اليهودي أنه مستعد لإعطائنا أدوية.. وأخذ الجرحى إلى مستشفياتهم على أن يكونوا أسرى حرب، وافق القائد على أخذ الأدوية ولكنه قال: إنه مصمم على إخلاء الجرحى بواسطة الصليب الأحمر إلى خطوطنا.. واتفقنا على أن نتصل الساعة 19:00 باللاسلكي مع اليهود لأخذ الردّ بعد أن استلموا كشف الأدوية.. المطر مستمر.. وقد تقابلت مع القائد اليهودى تحت المطر وتكلمنا في مواضيع عامة.. فقال إنه يرجو أن لا نكون متعبين في المطر.. سأل.. هل بمصر الآن مطر بهذا الشكل؟ وقال: إنه يرجو أن يسود السلام.. وأن نرجع آمنين سالمين. وتكلم، فقال: إن بريطانيا هي التي زجت بنا لتحقيق أغراضها وإنهم قد تمكنوا من طرد الإنكليز من فلسطين ويرجون أن نطردهم كذلك وأن نتعاون سوياً.. ما زال الضرب كالعادة عدو لا يحفظ العهد».
في رواية نشرها الكاتب الصحافي محمد عودة نقلاً عن شهادات إسرائيلية، فإن الضابط اليهودي يورهان كوهين قال للصاغ جمال عبدالناصر: «أريد الحديث معك كرجل عسكري. هذا موقعكم وهذه قواتنا وقوة نيراننا، فهل ترى أن لكم مخرجاً غير التسليم وسوف تخرجون بأسلحتكم وكرامتكم مكفولة» رد الصاغ الشاب: كعسكري أوافقك ولكن كمصري ليس التسليم على أجندتنا».

كاتب مصري