من غير المعقول، كما أنه من غير المقبول أيضاً، أن يُصار إلى التصويب على المؤسسة العسكرية، ومعها المؤسسات الأمنية، والغمز من قناة العسكريين والأمنيين، ضباطاً ورتباء وأفراداً، كما يفعل البعض، أو كما يحلو له أن يفعل، وكأني به يحاول، عن قصد أو غير قصد، التشكيك في الخلفية الوطنية للجيش والقوى الأمنية، أو النيل من معنويات القوّات المسلحة، على اختلاف أسلاكها، بطريقة متكررة وملتوية. من واجب العسكري أن يدافع عن وطنه، وأن يذود عنه تجاه المخاطر والتهديدات. نعم، هذا صحيح. ولكنه حين يسقط شهيداً في سبيل الدفاع عن البلد، وعن أرضه وشعبه، وهو يدرك مسبقاً أبعاد ومخاطر هذا الخيار، من لحظة انتسابه أو انخراطه في السلك الذي ينتمي إليه ويتبع له، إنما هو يرتقي إلى مستوى الشهادة التي يتشرف بها كل اللبنانيين، على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم واتجاهاتهم، كما يتشرف بها أيضاً جميع الساسة اللبنانيين، وإن كان بعضهم فقد الحدّ الأدنى من الشعور بالعزة والكرامة، أو ربما الحسّ بالمسؤولية الوطنية والتاريخية والأخلاقية.
مما لا شك فيه أن تخفيض الرواتب ومختلف التقديمات الاجتماعية وسائر التعويضات المالية، كما بات معروفاً، من شأنه أن يؤدّي، بطريقة أو بأخرى، إلى ضرب أو تقويض الاستقرار الوظيفي والاجتماعي للعسكريين؛ وهو أمر في غاية السوء والخطورة، ذلك أن الإخلال بهذا الاستقرار، بدل الالتزام السياسي من جانب الحكومة بتأمين استمراره وديمومته، من شأنه أن يقلّص قدرة العسكريين على القيام بالمهام الموكلة إليهم والنهوض بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم ويعيقها، لانعدام أو غياب الاستقرار المُشار إليه آنفاً، الوظيفي والاجتماعي، كما النفسي والمعنوي أيضاً.
الإقرار بخصوصية الرجل العسكري كما خصوصية الأستاذ في الجامعة أو القاضي
يحيلنا الحسم من التقديمات أو الخدمات الاجتماعية، ومن بينها المنح التعليمية للمدارس والجامعات والطبابة والاستشفاء، بمعنى التأمين الصحي والضمان الاجتماعي، على مسؤولية العسكريين العائلية، أي مسؤولياتهم الإنسانية تجاه عائلاتهم، وهي المسؤولية الأخلاقية التي تطال الدولة أو الحكومة نفسها، ويفترض أن تتحملها من دون تقصير أو مراوغة. فهذه الأخيرة، أي الحكومة، أو بالأحرى الدولة، أيّاً تكن الحكومة، معنيّة بالتزام المحافظة على التقديمات الاجتماعية، وبالمستوى أو المقدار نفسه، تجاه أفراد عائلات العسكريين، وربما ذويهم ممن يمكنه أو من حقه أن يستفيد من تلك التقديمات أو الخدمات، وذلك مقابل ما يؤديه وما يقدمه هؤلاء العسكريون للبلد والناس، مع العلم بأن كلفة الطبابة العسكرية، وهو أمر يجهله الكثيرون ولا يعلمون به، بحيث تجدر الإشارة إليه عند هذا الموضع، هي أقل منها، أي كلفة الطبابة والاستشفاء، لسواهم من الموظفين المدنيين والأمنيين. فكيف لهؤلاء العسكريين أن يذهبوا لثكناتهم ومواقعهم العسكرية، وأن يقوموا بعملهم على أكمل وجه، وما يمليه عليهم ضميرهم المهني وواجبهم الوطني، وهم يعيشون حالة من عدم الاطمئنان أو انعدام الطمأنينة حيال أوضاع عائلاتهم وذويهم، ويشعرون بعدم الاستقرار أو الأمان العائلي أو الأسري؟
هنا، بالتحديد، لا بدّ من إعادة التأكيد، مرّة ولكل مرة، على أن الدور الذي يضطلع به الجيش في خدمة الوطن والشعب حاجة وطنية بامتياز، لا يمكن الاستغناء والاستعاضة عنها، ورسالة وطنية من الطراز الأول. وكلّنا يعلم أن البديل عن وجود الجيش واستمراره في دوره هو الدخول في غياهب الفوضى والانزلاق إلى أتون المنطق الهمجي والعبثي، غير المقبول وغير المبرّر، الذي شاع إبان الحرب الأهلية، والعودة إلى زمن الميليشيات الفئوية، الطائفية والمذهبية والمناطقية، أو ظهورها على أرض الواقع من جديد، والوقوع تحت براثنها، بديلاً عن الدولة ومؤسّساتها. وهذا ما يجب أن يتنبّه له الجميع، وعليه، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم السياسية والوطنية والتاريخية حيال الجيش والعسكريين.
لا أحد يمكنه أن يحلّ محلّ الجيش والقوى الأمنية، وأن ينهض بتلك المسؤوليات والمهام والأعباء التي يضطلعون بها. ولمن يظنّ أو يعتقد أننا نغمز من قناة المقاومة في هذا المجال، فقد أكدت قيادة هذه الأخيرة، أي المقاومة، مراراً وتكراراً، أنها لم تطرح نفسها يوماً بديلاً عن الجيش أو رديفاً له. فالجيش يبقى هو القاعدة، والمقاومة هي الاستثناء الذي فرضته ظروف المعركة أو المواجهة مع العدو الإسرائيلي. وهي، إن كانت باقية، فإنّها تنتهي أو تزول عندما تنتفي الحاجة الوطنية إليها، أو لنقل الأسباب الموضوعية التي أدت إلى ظهورها أو قيامها أو تشكّلها كحاجة وطنية ملحّة في مواجهة الاعتداءات أو التهديدات الإسرائيلية. وبالعودة إلى الجيش والقوى الأمنية، فإنّ التأكيد، كما ورد أعلاه، على مرجعية الدولة، وبالتالي الجيش والأجهزة الأمنية، بمعنى المؤسّسات الرسمية أو الحكومية المولجة بالدفاع والأمن، هو في غاية الأهمية، بالنظر إلى الدور الوطني، كما الوظيفة السياسية، بل الرسالة، للجيش ورجالاته من العسكريين.
يجب على الجميع أن يتفهّموا طبيعة عمل العسكريين، وبالتالي الإقرار أو الاعتراف بخصوصية الرجل العسكري، كما خصوصية الأستاذ في الجامعة أو القاضي، أو ربما سواهما، ولا أحد يمكنه إنكار هذه الحقيقة أو تجاهلها. هم يخضعون لقانون الدفاع الوطني، لا لأيّ قانون آخر؛ وهم أسياد أنفسهم، لا يتبعون ولا يدينون للسلطة السياسية أو الحكومة، أو حتى نظام الحكم السياسي؛ هم لا يتبعون أحداً، وإنما هم ينتمون للوطن، ويتبعون للدولة القائمة على ترابه. وبحسب قانون الدفاع الوطني، فإن الرجل العسكري لا يحقّ له أن يمارس أو يزاول أي عمل آخر؛ وفي ذلك تأكيد على خصوصية العسكريين، وعدم القبول أو السماح بارتباطهم أو خضوعهم لأيّ كان. من هنا التشديد على مسألة أحادية الولاء والتبعية، في ما يخصّ العسكريين، للمؤسسة العسكرية دون سواها، وللوطن وحده، بعيداً من الاعتبارات أو الحسابات المتعلّقة بالتوزيع أو المحاصصة الطائفيين والمذهبيين، ناهيك عن أن الرجل العسكري يعيش في حالة من الجهوزية والاستنفار المستمرّين والمتواصلين، شأنه بذلك شأن الطبيب الذي يتابع حالة مرضاه في الغداة والعشي.
إن كلّ ما يجري لا يلائم ظروف عمل العسكريين، ولا ينصفهم البتة؛ كما أنه لا يؤدّي إلى الإصلاح الحقيقي والمنشود. ومن بعض الإصلاحات أو الخطوات الإصلاحية التي يمكن، بل يجب، الأخذ بها، الإسراع في استحداث أو بناء مستشفى عسكري مركزي، أو على مستوى الفروع الإقليمية، حديث ومتطور، يكون مجهّزاً، ويفي بالغرض، أو ربما إنشاء الصندوق المستقلّ للمتقاعدين، جميع المتقاعدين، العسكريين والمدنيين، أو حتى تطوير وتحديث قطاع التعليم الرسمي أو الحكومي، بمختلف حلقاته ومستوياته، ابتداء من المدرسة وانتهاء بالجامعة، وأن يُصار إلى تحويل ما يُقتطع من رواتب العسكريين والمتقاعدين، فيما لو وجب ذلك، إلى تمويل وتنفيذ تلك الإصلاحات أو الخطوات الإصلاحية، ووقف مزاريب الهدر والفساد. وما أكثر الحديث والكلام عن ذلك في الصحافة المكتوبة والإعلام المرئي والمسموع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، كما في الصالونات السياسية، وعلى المنابر أو في المحافل الجماهيرية والشعبية وأمام الرأي العام، لكن من دون أيّة نتيجة أو جدوى تذكر أو يمكن أن نلحظها.
لا أحد ينكر أهمية الجامعة، وهي الأغلى بالنسبة لي؛ ولكن يبقى الجيش هو الأهم في بلد كلبنان، حيث السلم الأهلي فيه مهدّد باستمرار. ويبقى السؤال: ترى من أية خلفية ينطلق، أيّاً كان، من يفكر أو يجرؤ أن يمدّ يده على حقوق العسكريين ومكتسباتهم؟ والأنكى والأسوأ من كل ذلك أن تأتي بعدها السلطة السياسية، بعبقرية نادرة ولا نظير لها، وتقرّر وقف أو إقفال باب التسريح لسنوات! وكأنّي بها تريد أيضاً أن تحرمهم من حقهم، وهو ملاذهم الأخير، في الخروج من هذه الحلقة أو الدائرة المفرغة، والابتعاد عن كل هذا الضجيج، في استراحة محارب، لن يكون أمامه سوى التقاعد والخلود إلى الراحة، ومعهما استذكار أو استحضار ذكريات الشهداء المجيدة والتضحيات المقدّسة والبطولات الشريفة. عندما يئن العسكريون ويتألمون من الوجع، دون أن يكون لهم حقهم في التعبير عن رأيهم وألمهم، فعلى الجميع أن يصمت، ولا سيما أهل السياسة والحكم والقرار، وبعضهم طغمة من اللصوص والقتلة. فلا صوت يعلو على صوت العسكريين الصامتين، احتراماً لتضحياتهم ووفاء لشهدائهم، وهم شهداء الوطن وشهداؤنا جميعاً.
* أستاذ العلوم السياسية والإدارية والعلاقات الدولية والدبلوماسية في الجامعة اللبنانية