منذ قيام المملكة العربية السعودية على أيدي آل سعود، والعائلة المالكة السعودية تحتفظ بعلاقات وديّة وجيّدة مع الولايات المتحدة الأميركيّة، تكرّست هذه العلاقات باتفاقيّة كوينسي Quincy. ففي عام 1945 استقبل الرئيس الأميركي روزفلت الملك عبد العزيز آل سعود على متن باخرته كوينسي في قناة السويس في طريق عودته من مؤتمر يالطا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
ومن خلال هذه الاتفاقيّة تكفّلت أميركا بضمان أمن المملكة وحمايتها، واعتبرتها جزءاً لا يتجزّأ من المصالح الحيويّة الأميركيّة، مقابل أن تزود المملكة الولايات المتحدة الأميركيّة بالطاقة اللازمة. وتكرّس ذلك بإعطاء أول عقود الامتياز لشركة أرامكو الأميركية. بالإضافة إلى بنود أخرى في الاتّفاق لها علاقة بأمن الخليج، والشراكة الاقتصادية، والعسكريّة، والماليّة، والتجاريّة، وعدم تدخل أميركا في الشؤون الداخلية للمملكة. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أن الأماكن المقدسة في الإسلام في المملكة العربية السعودية يعطيها بعداً جيواستراتيجياً، وأهميّة كبرى على الصعيد العالميّ، لأنّ القوى التي كانت تريد سياسة متماسكة مع العالم الإسلامي ورضاه، كانت تشدّد على استقرار هذه المناطق وأمنها، وكانت العلاقات مع الإنكليز أولاً، ومع الأميركيين ثانياً، تأخذ منحىً استراتيجيّاً وأهميّة كبرى على الصعيد العالمي والإقليميّ.
أ‌ ــ علاقات ومصالح متبادلة: سنرى أنّ العلاقات الأميركية _ السعودية ستزداد تماسكاً طيلة الحرب الباردة، فالمملكة كانت تواجه تحديات كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية، انطلاقاً من الأطماع والطموح الهاشمي، مروراً بثورة جمال عبد الناصر، والثورات العلمانية والقومية الأخرى والمدعومة من الاتّحاد السوفياتيّ، وصولاً إلى المدّ القومي الذي رفع لواء الحريّة، والاشتراكية والوحدة، دفعت بها إلى التفتيش عن تحالفات تدعم المملكة الناشئة. فوجدت في الولايات المتحدة الأميركية حليفاً أساسيّاً، أعطاها دوراً متقدّماً في المنطقة والعالم لمواجهة الاتحاد السوفياتي. فموّلت المملكة العديد من الحركات المناهضة للنظام الشيوعي في نيكاراغوا، وفي أنغولا، ودعمت المجاهدين الأفغان في حربهم ضدّ الاتحاد السوفياتي 1980. كما أنّ المملكة تشكل 25% من الاحتياط العالمي للبترول، وأول مصدر للنفط، وهي بذلك تشكل رهاناً كبيراً استراتيجيّاً، وثقلاً اقتصاديّاً وسياسياً للولايات المتحدة الأميركية، فكان من الطبيعي أن تلتقي المصالح وتترسخ وتترجم في ما بعد بتعاون عسكري ضخم، وتعاون مالي واقتصادي، فالاستثمارات السعوديّة في أميركا وصلت إلى حدود 500 مليار دولار، وساهمت في تخفيف العجز في الاقتصاد الأميركي، كما أنّ السعودية موّلت في البداية حرب الخليج الأولى بمعدل 15 مليار دولار إرضاء للحليف الأميركي. لكن الاهتزاز في هذا التحالف بدأ أوّلاً مع إدراك المملكة، وحسب المسؤولين السعوديين، انحياز أميركا المطلق في الصراع العربي الإسرائيلي لصالح إسرائيل، وعدم دفع الصراع نحو الحل من قبل الحليف الأميركي، وثانياً مع عدم الاكتراث الأميركي لخطة العرب المعلنة لحل الصراع من قبل الأمير عبد الله بن عبد العزيز (الملك السعودي الحالي) في قمة بيروت 2002، بالإضافة إلى رفض المملكة الدخول عضواً في التحالف العسكري للدخول إلى العراق، الأمر الذي أجبر الأميركي على وضع قواعده العسكرية في قطر والبحرين والكويت. وثالثاً، ومن وجهة النظر الأميركية، فإن مشاركة سعوديين في اعتداءات أيلول 2001 قد أثار غضب الرأي العام الأميركي والكونغرس الذي ضغط على الحكومة الأميركية آنذاك، مقترحاً تغيير التحالف الاستراتيجي مع السعودية، وموجهاً بعض الانتقادات للنظام السعودي من ناحية حقوق الإنسان، والاستبداد، والديموقراطية، الأمر الذي أثار حفيظة المسؤولين السعوديين واستياءهم من بعض المواقف الأميركية المسيئة للسعودية. لكنّ كلّ هذه المعطيات والأسباب لم تؤدِّ بالطرفين إلى حدود القطيعة، ولا يزال التعاون قائماً بينهما وخاصة أنّ اتفاق Quincy المذكور أعلاه كان قد جُدِّد 60 عاماً جديداً في عهد جورج بوش الابن 2005، مع العلم بأن الأميركيّ غضَّ الطرف أكثر من مرة كانت تثار فيها موضوعات على المسرح الدولي مثل الإرهاب الإسلامي، وتمويل بعض الحركات الأصولية من المال السعودي، وقضايا حقوق الإنسان، والمرأة في السعودية، ويبتعد الأميركي عن الحديث أو النقاش أو أخذ موقف معين إرضاء للعائلة المالكة في السعودية. لكن هذا التحالف الاستراتيجي بدأ يتصدع عند انفجار الأزمة السورية، والمواقف المختلفة لكلا الطرفين في مقاربة الموضوع. فالطرفان تعاونا لإسقاط النظام السوري، وبالتالي فك التحالف بين سوريا وإيران التي تشكّل العدو اللدود للسعودية، والمنافس الأساسي لها في النفوذ في المنطقة. وقد كُلِّفت السعودية بعد قطر بإدارة هذا الملف ودعم المعارضة السورية لتغيير موازين القوى على الأرض. لكن تراجع واشنطن عن خيار الضربة لسوريا أدّى إلى إرباك المملكة وامتعاضها، إذ إنها اعتبرت أن الأميركيّين خانوا العهد لصالح قوى أخرى مثل إيران. عند ذلك بدأت المملكة بالتصعيد، فأظهرت بعض المواقف المتشددة من خلال تمنُّع الأمير سعود الفيصل عن إلقاء كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي، وتكرست هذه المواقف أيضاً وأيضاً من خلال رفض المملكة مقعداً غير دائم في مجلس الأمن، وصولاً إلى إعلان الأمير بندر تخفيف علاقات الشراكة مع أميركا من الناحية الأمنية والعسكرية. هذا الموقف السعودي لم يكن وحيداً، إذ أعلنت دول عدة استياءها من الموقف الأميركي الذي تراجع عن ضرب سوريا، فدول الخليج الأخرى، وتركيا، وإسرائيل، حذت حذو السعودية وأعلنت استياءها، وما زاد في هذه المواقف المتشددة هو التقارب الأميركي _ الإيراني، وإعلان التوصل في جنيف إلى حلول في الملف النووي الإيراني، الأمر الذي يخفّف العقوبات على إيران، وربما يسمح لها بنوع من التخصيب لأغراض سلمية في البداية، ويعيدها إلى المسرح الدولي بوصفها دولة ذات نفوذ، وخاصة في المنطقة العربية، وبالتحديد في سوريا، والعراق، وفلسطين، ولبنان، والبحرين، واليمن، وغيرها من الدول، حيث ستنافس السعوديّة في المنطقة سياسيّاً واقتصاديّاً، وربّما عسكريّاً. كلّ هذه العوامل والمعطيات، دفعت بوزير خارجيّة الولايات المتّحدة الأميركيّة لزيارة السعوديّة وإسرائيل مرتين في ت2 نوفمبر 2013، لكي يطمئن الحلفاء إلى أنّ أميركا ما زالت على تحالفها الاستراتيجي مع السعودية من جهة، وطمأنة إسرائيل بأن أمنها لا يزال أولويّة في سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية، وفي إطار أي تفاوض أميركي _ إيراني من جهة أخرى. لكن السعودية لا تزال على مواقفها المتشددة التي تأخذ منحىً تصعيدياً حتى الآن، فهي لا تزال تمسك بملف الأزمة السورية، ورأس حربة في إسقاط النظام السوري، ولا تتردد في إمداد المعارضة بالمال والسلاح، ومن جهة أخرى تُعلن معارضتها الشديدة للاتّفاق مع إيران، ولا مخافة عندها من أن يلتقي هذا الموقف مع الموقف الإسرائيلي المتشدد ضدّ إيران، والمؤيّد لضربة عسكرية لها مخافة أن تمتلك هذه الأخيرة السلاح النووي.
فالسعودي الخائف على وجوده، والمربك منذ اندلاع الثورات العربية وسقوط حليفه حسني مبارك (بعدما تخلى الأميركي عنه) يشعر بأنه مهدَّد في بيئته الجيوبوليتيكية (العراق، سوريا، إيران، اليمن، البحرين) ويبدو حذراً جداً من الأميركي ماذا في وسعه أن يفعل؟!
في ظلّ المعطيات الحالية، ولعبة الأمم، وفي ظل ميزان القوى الحالي في المنطقة، لن تستطيع المملكة العربية السعودية الآن التخلي عن مظلة الحماية الأميركية لها، على الرغم من كلّ هذه المواقف المتشددة التي تشير إلى أزمة كبيرة مع الولايات المتحدة الأميركية ستُعقِّد الأمور بالنسبة إلى المملكة، لكنها لن تؤدّي إلى قطيعة حسب «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، وإنّما إلى قبول السعودية بالواقع الجديد للسياسة الأميركية القائم حالياً على لعبة توازن القوى في الشرق الأوسط، ومايسترو دائم لإدارة الأزمات في المنطقة. بانتظار أن تستقر الأمور من ناحية العلاقات الأميركية الإيرانية، والغربية الإيرانية، وأخيراً حسم موضوع التقارب الإيراني _ السعودي الذي دعا إليه وزير الخارجية الإيراني في سبيل استقرار لبنان والمنطقة.
* أستاذ جامعي