ينتقل ماركس إلى لندن عاصمة الإمبراطورية العالمية، ويُجري دراساته وأبحاثه في المتحف البريطاني، ويظهر اهتمامه بالمجتمعات غير الأوروبية. إن تركيز أبحاث ماركس على عاصمة الرأسمالية جعله بالضرورة يلامس مجتمعات الأطراف، خاصة الهند كمستعمَرة بريطانية رئيسية. والمجتمعات غير الأوروبية.ماركس المهمّش والمنفي من بلده ألمانيا إلى بريطانيا سنة 1849، جرى تهميشه ونفيه لاحقاً أيضاً من الأنفس الأوروبية. يلتقط الفيلسوف التفكيكي جاك دريدا الوضعية الهامشية التي يوجد فيها ماركس، وهو اللاجئ السياسي في لندن العصر الفيكتوري، ويربطها بموقعه الهامشي داخل تراث الفكر الغربي ويقول: «يبقى ماركس لاجئاً بيننا، ممجّداً، مقدّساً، ملعوناً ولكن يبقى لاجئاً مغيّباً كما كان طوال حياته» (1994, 174 - ص11).
هذا النفي والإقصاء عند ذكر الأنفس الأوروبية الغربية (عند ذكر هاملت الأوروبي) له سبب آخر غير نفور البورجوازية المسيطرة في أوروبا الغربية، هو نتائج فشل ثورات 1848 الديمقراطية في البلدان القارية لأوروبا الغربية (فرنسا وألمانيا).
لقد كان لفشل ثورات 1848 في اليابسة الأوروبية نتائج ذات طابع عالمي، منها التسريع في نفي ماركس من الأنفس الأوروبية.
«كان إنجلز هو الآخر من محاربي 1848» (ص 12)، بينما كان فيورباخ يقضي عزلته الريفية الطوعية بعيداً عن هذا الحدث العالمي، ما أثّر سلباً على آرائه السياسية. إن إشارة كيفين ب. أندرسون، مؤلّف كتاب «ماركس ومجتمعات الأطراف» إلى العلاقة بين فشل ثورات 1848 في القسم الغربي من اليابسة الأوروبية وبين هجرة ماركس ونفيه من ألمانيا إلى لندن، وإشارات دريدا من قبل بخصوص نفي نفس ماركس من قائمة الأنفُس الأوروبية، هي ما أعطتنا هذا الانطباع عن الأهمية المفصلية والعالمية لفشل ثورات 1848 الديمقراطية في فرنسا وألمانيا.
ورغم تنوّع المواقع الجغرافية للبلدان المصنّفة هامشية أو طرفية، بفعل دينامية التوسع الرأسمالي المتفاوت على الصعيد العالمي، أو التطور اللامتكافئ للرأسمالية كنظام عالمي، والذي أوحى بعنوان الكتاب موضع اهتمامنا، إلا أن ماركس يضع بلداناً في آسيا (الشرق الأدنى والأقصى) وفي أفريقيا (مصر وشمال أفريقيا)، في سياق أبحاثه عن أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، تحت تصنيف ما يسميه بـ «نمط الإنتاج الآسيوي» كنمط يغطي عدة قارات.
إن ظهور كتاب أندرسون سنة 2017 حول نصوص ماركس وانشغالها بالمجتمعات الهامشية الطرفية أمر ذو دلالة، خاصة أنها تتزامن مع بداية الهزيمة العسكرية والسياسية للإسلام السياسي الدولي المموّل خليجياً والمدرّب وموظف أميركياً وإسرائيلياً، يجعل من هذه «الإضاءات الخاطفة» لهذا الكتاب أمراً راهناً وحيوياً.
يقول الكاتب: بخصوص وجهة نظر ماركس حول تطور المقاومة تجاه توسّع رأس المال في المجتمعات غير الأوروبية الغربية، سأدّعي أن وجهة نظره تطوّرت مع السنين. ففي حين كانت وجهة نظره في أربعينيات القرن التاسع عشر أحادية المسار، وحتى إنها كانت في بعض الأحيان مشوهة بنظرة إثنية التمركز وترى بأن هذه المجتمعات غير الغربية سوف يتمُّ ابتلاعها بالضرورة من قِبل الرأسمالية، وسيلي ذلك التحديث (آلياً -كولونيالياً) الذي يتم من خلال الكولونيالية والسوق العالمية (ص 12-13).
ظهور كتاب أندرسون حول نصوص ماركس وانشغالها بالمجتمعات الهامشية الطرفية يتزامن مع بداية الهزيمة العسكرية والسياسية للإسلام السياسي الدولي


هذا الكلام تكذّبه دراسة متأنّية لنص ماركس- إنجلز الذي ظهر سنة 1845 «الأيديولوجية الألمانية» أو نقد الفلسفة الألمانية في أشخاص ممثليها فيورباخ وب. بوير وشترنر. حيث ظهرت آراء ماركس مركّبة في الأصل بما يخص مسألة التقدم التاريخي. وظهر انشغاله الأساسي بالثورة الاجتماعية الاشتراكية العالمية، وبنمو وتقدم البروليتاريا الأوروبية سياسياً (الوعي والتنظيم). يكتب ماركس: «إن العناصر المادية لثورة كاملة (اجتماعية تحول نمط الإنتاج) هي من وجهة واحدة القوى المنتجة القائمة (التي تحدد إمكانات الأفراد التاريخية وحدودها)، ومن جهة ثانية تشكل كتلة ثورية تثور لا ضدّ شروط خاصة للمجتمع المنصرم فحسب، بل ضد إنتاج الحياة بالذات حتى ذلك الحين. ضد «النشاط الكلّي» الذي هو أساس ذلك الإنتاج؛ إذا لم تكن هذه الشروط موجودة فإنه لا أهمية على الإطلاق إذن، بقدر ما يتعلق الأمر بالتطور العملي، لما إذا كانت فكرة هذه الثورة قد تمّ التعبير عنها مئة مرة حتى ذلك الحين، كما يبرهن على ذلك تاريخ الشيوعية» (ص50-51).
يتحدث ماركس في الأيديولوجية عن «الفرد الشخصي والفرد الممكن»، والذي يحدّد هذه الإمكانية نمط الإنتاج المسيطِر والقائم. فإمكانات الفرد في نظام مراتبي إقطاعي مغلق أمام تطوّر الأفراد، تختلف عن إمكانات الفرد في نظام بورجوازي مفتوح الطبقة أمام تطور قوى الأفراد ومواهبهم وطموحاتهم. هذا الفرد الممكن شغل بال ماركس عند دراسته للمجتمع الهندي ما قبل الرأسمالي. «إن هذا التعبير المثالي (الوعي الممكن) عن الحدود الاقتصادية القائمة (لنمط الإنتاج) ليس نظرياً خالصاً فحسب، بل هو قائم في الوعي العملي، يعني أن الوعي الذي يتحرّر والذي يدخل في تناقض مع نمط الإنتاج القائم لا يشكّل ديانات وفلسفات فحسب، بل دولاً» هامش (ص 41).
في ردّ غير مباشر على انتقادات إدوارد سعيد لـ«نزعات ماركس الاستشراقية» تشير الناقدة النظرية إريكا بينير إلى عدم وجود قوى غير تقليدية، ولا قوى تقدمية في عام 1853في الهند. وتستخلص أنه ربما أن ماركس لم يكن يمتلك الكثير من التعاطف مع السياسات الانفصالية القائمة على الهوية (القومية)، فإنه ترك بدون «بدائل سياسية» في كتاباته هذه عن الهند (إريكا 1995). وهذا قول مهم يدخل في عمق عمل ماركس، عندما يقول بما معناه: إذا تحدث فرد أو أفراد عن الثورة مئات المرات من دون ظهور لنمط إنتاج يعطي للفرد حدوداً جديدة ممكنة للتحرر ووعياً ممكناً جديداً بناء على ذلك، فإن الأمر لا يعدو مجرّد أمنيات أوحت بها أحداث عالمية. لكن كيف لنمو القوى المنتجة التي جاءت بها الرأسمالية في البلاد الرئيسية في أوروبا الغربية أن تخلق هذه الأرضية لوعي الأفراد في الهند بضرورة التحرر من الرأسمالية والكولونيالية؟
من الخرافة القول إنه مع الدخول الكولونيالي الاستعماري البريطاني إلى الهند وتدمير «نمط الإنتاج الآسيوي» القائم على القرى كوحدات إنتاج جماعية تقوم عليها دولة مركزية تهتم بمشاريع الري الكبرى، سوف يتم تطور القوى المنتجة الهندية إلى درجة كبيرة بحيث تخلق أفراداً من البروليتاريا لديهم وعي ممكن بالثورة الاشتراكية. إنّ ما حصل هو أن هذا التفكيك لنمط الإنتاج الآسيوي في الهند من قِبل الغزو الكولونيالي البريطاني مدرّعٌ بنمط إنتاج متفوّق من حيث درجة تطوّر قواه المنتجة، سوف يدخل علاقات الإنتاج الرأسمالية؛ وبشكل رئيس علاقات الملكية الخاصة للأرض من دون أن يؤدّي إلى تطوّر القوى المنتجة على شاكلة بلد متطور صناعياً كبريطانيا، ما يؤدي إلى خلق إمكانية وعي لدى الأفراد بضرورة تقدم القوى المنتجة على شاكلة التطور الصناعي البريطاني، ويخلق الوعي لدى بعض الأفراد الهنود بضرورة تجاوز علاقات الإنتاج الرأسمالية والملكية الخاصة لأنها باتت، ومع التحول الإمبريالي في الرأسمالية، عقبة أمام تطوّر القوى المنتجة والتطور الصناعي في المجتمع الهندي. إنّ تحطيم نمط الإنتاج الآسيوي مقدّمة ضرورية للتطور الصناعي، لكنّها سلبية وغير كافية وهي بحاجة لتتمة تقوم بها طبقات ثورية مناهضة للكولونيالية ولعلاقات الإنتاج الرأسمالية والتملك الخاص. أي إن التحطيم السالف الذكر يترك «لماركس والماركسيين في الهند» بدائل سياسية فعلية وتاريخية. ليست الكولونيالية سوى النار التي تصهر نحاس النمط الآسيوي لكي يُضاف إليه لاحقاً عنصر شريف من قِبل الطبقات الثورية في سعيها لتحويل النحاس إلى ذهب حسب «الكيمياء الصوفية» القديمة.
أما قول ماركس إنّ جميع المجتمعات بما فيها الهند محكوم عليها أن تمرّ عبر نفس المسار الذي مرّ به الغرب الأوروبي، أي مسار التطور الرأسمالي، فقد تمّ تطويره لاحقاً بشكل عبقري ولافت ونبوئي. ففي مقدّمة الطبعة الأولى لـ«رأس المال» يقدّم ماركس الصيغة التالية: «فبلد أكثر تطوراً من الناحية الصناعية لا يظهر لبلد أقل تطوراً منه سوى لوحة مستقبله هو» (رأس المال مج1 ص 13). إن القراءة المتسرّعة لهذه العبارة تظهر وكأنه على جميع البلدان أن تمر عبر نفس المسار الذي مرت به بلدان أوروبا الغربية، أي مسار التطور الرأسمالي. إلا أن قراءة متأنية تُظهر الأمر مختلفاً تماماً، وأنّ ماركس في صياغته هذه يرمي ببذرة عبقرية في تربة المعرفة. وهذه الصياغة تطرح المسألة التالية: «أكثر تطوراً من الناحية الصناعية لا الناحية السياسية». وهنا يتوجّب التمييز بين الناحية الصناعية من جهة وبين البُنية السياسية الفوقية (أي شكل الدولة القائمة أو الممكنة/ المتخيلة). فإذا كان يتوجّب على بلد «أقل تطوّراً من الناحية الصناعية» في عصر الرأسمالية الإمبريالية أن يصنع على شاكلة البلد الذي سبقه، ولكي يستطيع (المجتمع الطرفي) البقاء على قيد الحياة والصمود أمام قوى إنتاجية متفوقة عليه، فإنّ عليه طرح مسألة البُنية السياسية الفوقية أو شكل الدولة الذي سيقود التحديث بشكل جديّ وحاسم، ونقاش دور شكل الدولة هذا المتناقض حسب المراحل التاريخية. بكلام آخر يمكن طرح الأمر على الشكل التالي: إذا كان لشكل محدد للدولة في مجتمع طرفي أن يسهّل إمكانية تطور القوى المُنتِجة على شاكلة بلد متطور صناعياً، فقد يقف شكل آخر للدولة (بما يمثله من سيطرة طبقة بعينها) عقبة جدية أمام تطوّر كهذا. وهو ما أكدته التجربة التاريخية للقرن العشرين، خاصة تجربة التصنيع الروسي بعد الثورة الاشتراكية في أوكتوبر 1917 والتجربة الصينية بعد ثورة 1949 الاشتراكية أيضاً. بتعبير آخر: يمكن أن تدخل السيطرة السياسية لطبقة، وما ينتج عن هذه السيطرة من شكل محدد للبنية الفوقية السياسية (شكل الدولة) في تناقض مع تطور القوى المنتِجة، على شاكلة بلد متطور صناعياً، بحيث تشكّل هذه السيطرة وهذا الشكل للدولة عقبة تاريخية في طريق تطور هذه القوى. وهذا ما حصل تاريخياً بالضبط مع السيطرة الكولونيالية وما تبعها من تكريس إدارة بورجوازية طرفية تابعة رثة، ومن دولة رأسمالية طرفية تسيطر فيها البوجوازية، وتشكل هذه السيطرة عقبة أمام أيّ تطور جديّ وتاريخي للقوى المنتجة وأمام عملية التحديث الصناعي والاجتماعي. وهو واقع مجتمعات الأطراف الرأسمالية عموماً.

مراجع:
1-كيفين ب. أندرسون، «ماركس ومجتمعات الأطراف» 2017 ترجمة د. هشام روحانا من الكرمل
2-ماركس- إنجلز: «الأيديولوجية الألمانية» ترجمة الدكتور فؤاد أيوب دار دمشق 1976
3- ماركس: «رأس المال»، المجلد الأول، الكتاب الأول، ترجمة الدكتور فهد كم نقش، دار التقدم 1985
4- نايف سلوم: في القول السياسي-1 «نقد العولمة والشرق أوسطية»، دار التوحيدي- حمص 1999 من مقالة: قراءة في مقدمة الطبعة الأولى لرأس المال

* كاتب وباحث سوري