بتنا نعرف أكثر عن عناصر «صفقة القرن». ظهر صهر الرئيس الأميركي، جارد كوشنر، أمام جمهور «مؤسّسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى» (وهي الذراع البحثيّة للوبي الصهيوني، وقد ظهر أمامها العديد من السياسيّين اللبنانيّين والعرب الذين رغبوا في التقرّب من اللوبي، من راشد الغنوشي إلى وليد جنبلاط إلى نهاد المشنوق مروراً بنعمة أفرام (وأعطى عناوين لما ستتضمّنه هذه الصفقة التي كان ترامب قد أرادها — بتواضعه الشديد — لتنهي الصراع العربي - الإسرائيلي مرّة واحدة وإلى الأبد. وأوكل ترامب مهمة إدارة ملف الصراع إلى صهره، جاريد ومحاميّيْن يهوديّين صهيونيّين ليس لأيّ منهما أي باع في الدبلوماسيّة أو في معرفة الشرق الأوسط. واثنان من الثلاثة (بما فيهم كوشنر) موّلا مستوطنات في الضفّة الغربيّة (يجب أن نكفّ عن استعارة مصطلحات وقيم الغرب الذي يفصل بين مستوطنات فلسطين ١٩٤٨ وبين الضفّة، وذلك من أجل تصفير عدّاد الاحتلال بدءاً بسنة ١٩٦٧). ما كشفه كوشنر هو أن الدولة الفلسطينيّة — ولو بالحدود الدنيا — ليست من ضمن التصوّر الموضوع. فلسفة «الصفقة» —وهي صفقة بالمعنى التجاري وإن كانت بين فرقاء يستثنون الشعب الفلسطيني — تكمن في فرضيّة صهيونيّة عمرها بعمر الحركة الصهيونيّة. هناك تفسيران حول عقيدة الإدارة الأميركيّة في مشروعها لحلّ الصراع العربي - الإسرائيلي. التفسير الأوّل هو الذي تعتمده السلطة الفلسطينيّة، ويعتمده جميع المتقاعدين من المسؤولين الأميركيّين الذين امتهنوا «عمليّة السلام»: من مارتن إنديك إلى أرون ديفيد ميلر إلى بوب مالي وآخرين. يقول هؤلاء إن هذه الإدارة تسجّل سابقة لا مثيل لها في التعاطي مع هذا الملف الحسّاس في سياسة أميركا الخارجيّة، وأنها خرقت ثوابت عديدة في تعاطيها مع الجانب الفلسطيني، ما سيتحتّم فشل مشروع «صفقة القرن». يرى هؤلاء في سياسات الإدارة قطعاً جذريّاً ونوعيّاً بين سياسات ترامب - كوشنر وسياسات الإدارات السابقة. ويعطي هؤلاء أمثلة تتركّز على سمات هذه الإدارة في إهانة الجانب الفلسطيني، من نقل السفارة من يافا المحتلّة إلى القدس المحتلّة، ووقف المساعدات إلى السلطة الفلسطينيّة والمستشفيات في القدس الشرقيّة، ووقف تمويل «أنروا»، وإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتلّ، وعدم انتقاد زيادة المستوطنات على أراضي ١٩٦٧، والتخلّي عن الدعوة الأميركيّة (منذ إدارة بوش الابن فقط) لإقامة دولة فلسطينيّة. لكن هل في هذه الخطوات فصل قاطع مع سياسات أميركيّة سابقة؟
التفسير الثاني يرى في مسلك هذه الإدارة تماشياً كليّاً مع مواقف الإدارات السابقة. فموضوع نقل السفارة ليس ابن ساعته، وهو ليس وليد فكر هذه الإدارة، بل هو موقف جمهوري وديموقراطي تقليدي منذ السبعينيّات، وأصبح قانوناً نافذاً سنّه الكونغرس في التسعينيّات، وقد وعد به كل رئيس أميركي (أثناء الحملة الانتخابيّة) منذ عهد رونالد ريغان (وإن كان كل رئيس أجّل تطبيق القرار بذرائع سياسة الأمن القومي الأميركي والخشية من غضبة عربيّة، رسميّة أو شعبيّة). ما فعله ترامب هو أنه نفّذ وعوداً (وقانوناً) لسابقيه، ولم يأتِ بجديد فيه — على شناعة القرار طبعاً. أما المساعدات للسلطة الفلسطينيّة: فهذا الأمر كان متوقّعاً. السلطة الفلسطينيّة منذ إنشائها، ومنذ منع المساعدات العربيّة (الحكوميّة والفرديّة) عن منظمّة التحرير (وبأمر أميركي بعد غزو الكويت في ١٩٩٠)، قامت على أساس ارتهانها بالكامل للإدارة الأميركيّة ولسلطة الاحتلال الإسرائيلي. أميركا (بالتوافق مع اللوبي الإسرائيلي) هي التي تحدّد ميزانيّة السلطة وتحدّد أيضاً ما يمكن لهذه السلطة (الفاقدة السلطة حكماً) استيراده أو تصديره. ومعادلة أوسلو قامت على أن تمويل السلطة مشروط بحسن سلوكها وأن الحكومة الإسرائيليّة هي التي تقرّر تعريف حسن السلوك. والكونغرس الأميركي كان يطلب تقارير دوريّة عن حسن سلوك السلطة الفلسطينيّة (وحول خطابها بالعربيّة)، وهو وافقَ على منع تمويل السلطة لعائلات شهداء فلسطين وعلى منع المقاومة الكلاميّة من خلال إعلام رام الله. وكانت سلطة الاحتلال والقنصليّة الأميركيّة في القدس تعدّ تقارير دوريّة عن مدى التزام كل عناصر السلطة بالأوامر الأميركيّة - الإسرائيليّة بمنع التعبئة ضد الاحتلال ولو بالكلام الشاعري الخطابي. أي إن قطع التمويل كان متوقّعاً وكان يمكن أن يحدث في إدارة (ديموقراطيّة أو جمهوريّة) مقبلة. إن فتح التواصل المباشر بين الحكومة الأميركيّة ومنظمّة التحرير في عهد رونالد ريغان جرى على هذه الأسس المشروطة: أي أن لأميركا الحق بقطع التواصل مع منظمّة التحرير في حال أخلّت بالشروط الأميركيّة (وكان عرفات حصل على حظوة التواصل مع أميركا في خريف ١٩٨٨ بعد أن قرأ بالإنكليزيّة نصّاً أرسلته له — عبر الفاكس — إدارة ريغان. وتم قطع التواصل بعد أشهر فقط إثر قيام «جبهة التحرير الفلسطينيّة» بمحاولة إنزال فدائيّة على شاطئ فلسطيني).
موضوع الـ«أنروا» موضوع شائك، وهو ليس بجديد أبداً. أذكر في أحاديثي مع السفير الأميركي الأسبق في عدة دول عربيّة (سوريا والعراق واليمن)، ويليام إيغلتون (الذي عرفته من خلال صداقتي مع ابنه، فيليب) عندما شغل بعد تقاعده من السلك الخارجي منصب مفوّض الـ «أنروا» في فيينا، أنه كان يقول عن مهمته يومذاك إنه يحاول وقف المدّ في الكونغرس لحلّ المنظمّة من أساسها لأنها تضرّ بالمصلحة الإسرائيليّة، حسب رؤية الكونغرس. والـ«أنروا» ليست منظمّة لتحرير فلسطين بل هي، منذ إنشائها، أداة أميركيّة تستخدمها لصالح إسرائيل. ونعلم اليوم من خلال وثائق أميركيّة أُفرج عنها، أن الحكومة الأميركيّة فكّرت في الستينيّات حتى في أمر إيكال مهمّة أمنيّة - عسكريّة لـ«أنروا» في لبنان (لملاحقة واغتيال قادة مقاومة، على الأرجح)، لكن الأمم المتحدة في نيويورك أجهضت الخطة. إن النقد الصهيوني (الإسرائيلي والأميركي) لـ«أنروا» قديم جداً، وهناك عدد من جلسات الاستماع للجان العلاقات الخارجيّة في الكونغرس، حيث عبّر أعضاء في الكونغرس عن سخطهم لأن المنظمة لم تقضِ على الرغبة في تحرير فلسطين بين اللاجئين، وعلى الروح الثوريّة للشعب الفلسطيني. ويلوم الصهاينة الـ«أنروا» لتوق الشعب الفلسطيني للعودة. وقد خضعت مناهج مدارس «أنروا» لتدقيق ونقد ومراجعة صهيونيّة، أسفرت عن تعديل كبير فيها عبر السنوات لصالح الاعتراضات الصهيونيّة.
وهل كان تسليم إدارة ترامب بوجود المستوطنات في الضفة (اعتنق فريق التفاوض الفلسطيني وكل الحكومات العربيّة خطاب وزارة الخارجيّة الأميركيّة الذي يفصل بين أراضي ١٩٤٨ - حيث يحقّ لدولة الاحتلال الاستيطان كما تشاء - وبين أراضي ١٩٦٧) جديداً للغاية؟ هل كانت هناك إدارة أميركيّة عاقبت الحكومة الإسرائيليّة على الاستيطان في الضفة الغربيّة (وغزة من قبل)؟ لم يتغيّر في مواقف الإدارات الأميركيّة إلا صيغة الاعتراض —اللفظي فقط، مع استثناء واحد — على المستوطنات: من القول إنها مناقضة للقانون الدولي إلى القول إنها مضرّة إلى القول إنها ليست مُساعدِة. وحدها إدارة جورج بوش الأب عاقبت حكومة إسرائيل على المستوطنات، عندما قرّرت اقتطاع مبلغ من ضمانات قروض بقيمة ١٠ مليارات دولار يوازي ما تنفقه الحكومة على المستوطنات، لكن الحكومة استطاعت التحايل على القرار الأميركي عبر الإنفاق على المستوطنات من خلال ميزانيّة أخرى، أي عبر نقل الأموال. إن عدد المستوطنين اليهود في الضفّة الغربيّة زاد بنسبة أربعة أضعاف منذ أوسلو، وحصل هذا ليس فقط بسبب التغاضي الأميركي، بل أيضاً بسبب أن مفاوضي منظمة التحرير (من كبيرهم إلى صغيرهم) لم يروا ضرورة في جعل تجميد المستوطنات شرطاً من شروط أوسلو، التي عجّت بالشروط التي فرضتها إسرائيل وأميركا معاً على الفريق الفلسطيني (وتتحايل حكومة العدوّ في موضوع المستوطنات عبر اعتبار توسيع المستوطنات مختلفاً قانوناً عن زيادة المستوطنات، أي إن المستوطنات باتت تزداد من دون أن تزداد عدداً).
هل كانت هناك إدارة أميركيّة عاقبت الحكومة الإسرائيليّة على الاستيطان في الضفة الغربيّة (وغزة من قبل)؟


وهناك اعتراض من قِبل سلطة أوسلو (كما من بعض منتقدي إدارة ترامب هنا) على تشكل الفريق الأميركي الذي يعمل على إعداد «صفقة القرن». لكن كيف يختلف هذا الفريق عن سابقيه؟ كانت «عمليّة السلام» الأميركية في أيدي المستعربين عند انطلاقتها في ١٩٧٠، لكنها في نهاية العقد ذاك أصبحت في أيدي صهاينة من غير المتخصّصين في شؤون الشرق الأوسط. والمستعربون في سنوات صعودهم في الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات لم يصنعوا سياسات بقدر ما شكّلوا لوبياً صغيراً داخل الإدارة، كانت السلطة السياسيّة تخالفهم وتفعل ما يناقض نصائحهم منذ قرار هاري ترومان («أنا كورش، أنا كورش»، قال عن نفسه، وقد أُسبغَ وصف «كورش» على ترامب نفسه بسبب خدماته الكثيرة لدولة الاحتلال) بالاعتراف بدولة إسرائيل. لقد حرصت الإدارات الأميركيّة —حتى في إدارة جورج بوش الأب — على وضع ملف «عمليّة السلام» في أيدي الصهاينة، من أجل طمأنة اللوبي الإسرائيلي وحكومة العدوّ في آن (وكان الصهاينة هؤلاء من أقطاب اللوبي نفسه). كما أن تعيين سفير يهودي صهيوني في تل أبيب بات تقليداً لا يُحاد عنه منذ السبعينيّات من القرن الماضي.
لقد قدّمت سلطة أوسلو (تحت قيادة ياسر عرفات وقيادة محمود عبّاس — إذا كانت كلمة قيادة لا تصلح في حالة محمود عبّاس، هذا الذي كان من أكثر قادة «فتح» هامشيّةً) تنازلات تاريخيّة ألزمت كلّ مَن يشارك في عمليّة السلام من الجانب الفلسطيني. وفي المقالة التي كتبها روبرت مالي وآرون ديفيد ميلر (والأخير شارك لأطول فترة في المسؤوليّة عن عمليّة السلام، ولقد استدرجني إلى سجال تويتري بعد أن كنتُ قد اختلفتُ معه في العلن في أواخر الثمانينيّات) في مجلّة «أتلانتيك» قبل أيّام هناك، اعتراف بأن الحكومات الأميركيّة المتعاقبة خدعت الشعب الفلسطيني في كل مسائل «الحل النهائي» (كيف يكون نهائيّاً إذا لم يكن عادلاً، أي خاضعاً لتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني كاملة؟) صحيح أن الإدارتيْن السابقتيْن اعترفتا بدولة فلسطينيّة، لكن هذه الدولة كانت بسيادة لا تتوافق مع أدنى مقوّمات وجود الدولة: يبقى وفق المنظور الأميركي للدولة الحق لإسرائيل في السيطرة على الأجواء الفلسطينيّة بالكامل وعلى جوف الأرض وعلى المداخل والمخارج، وهي منزوعة السلاح ويحقّ لحكومة العدوّ تقرير من يدخلها ومن يخرج منها — كما هي الحال اليوم تماماً، بالإضافة إلى حق إسرائيل في اقتحام هذه الدولة متى أرادت. وفق هذا التصوّر للدولة الفلسطينيّة، وافقت إدارة بوش وأوباما على حق الشعب الفلسطيني في الدولة — دولة بالاسم فقط، لأنها لا تحمل من عناصر الدولة إلا القشور: حرس رئاسي وفرقة موسيقيّة وتوزيع ميداليّات وألقاب تفخيم لـ«الرئيس» — أي كلّ ما ليس له علاقة بالسلطة الفعليّة. أما في مسألة القدس، فلم تعترف أميركا بحق سيادة دولة فلسطين على الأماكن المقدسة، ويُفرض عليها الحفاظ على المستوطنين اليهود داخل العاصمة الفلسطينيّة. وقد فهمت قيادة منظمة التحرير منذ مفاوضات أوسلو حتى المفاوضات الأخيرة أن حق العودة مرفوض إسرائيليّاً وأميركيّاً بصورة قاطعة، وأن الحيلة ستكون في ألاعيب لفظيّة تعترف بحق اللاجئين في العودة، على أن تكون تلك العودة رمزيّة (دزينة عائلات فقط في أماكن داخل فلسطين ١٩٤٨)، أما الملايين فيكون لهم الحق في الإقامة في الضفّة أو غزة ما لم تكن هناك اعتراضات إسرائيليّة على عودتهم. ومزج حق «التعويض» و«العودة» هو حيلة أميركيّة منذ القرار ١٩٤ للجمعيّة العاميّة للأمم المتحدة لجعل التعويض بديلاً وليس مُصاحِباً لحق العودة — كما يجب أن يكون. ومن أجل هذه المواقف المُهينة للشعب الفلسطيني قدّمت السلطة الفلسطينيّة (تحت إدارة عرفات وخلفه) تنازلات إضافيّة (أي إن التناولات الفلسطينيّة تولد تنازلات أخرى)، إذ إن السلطة الفلسطينيّة التزمت بالتمنّع عن النضال بأشكاله كافة (وقمعه متى برز في الشارع) ضد الاحتلال الإسرائيلي، وهي التزمت بالتمنّع عن التوجّه للمحاكم الدوليّة (نلاحظ عدد المرّات التي تهدّد بها عصابة أوسلو باللجوء إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة من دون أن تنفّذ، لأنها لم تخبر شعبها أنها التزمت للراعي الأميركي بذلك)، وهي ملتزمة أيضاً بعدم التفتيش عن خيارات دبلوماسيّة خارج نطاق «عمليّة السلام» الأميركيّة.
ما تفعله إدارة ترامب هو تكريس العقيدة الصهيونيّة التي تحكّمت بـ«مسيرة السلام» الأميركيّة منذ نشوئها، ومن دون الحاجة إلى خداع الشعب الفلسطيني بكلام معسول (طبعاً، هذا الكلام المعسول لم يخدع إلّا قادة سلطة رام الله فقط — وهذا ما يعترف مالي وميلر به في مقالتهما، لأنهما يريان ضرورة في الاستمرار في خداع الشعب الفلسطيني، كما أن مقالة في «هآرتز» وصفت كلام كوشنر العنصري حول عدم أهليّة الشعب الفلسطيني للحكم الذاتي، بأنه يقضي «على معسكر السلام الفلسطيني». لم يعنِ هذا الكاتب من «معسكر السلام الفلسطيني» إلا فريق المتعاملين مع الاحتلال، الذين لا تختلف وظيفتهم عن وظيفة أنطوان لحد وجيشه).
الحل الاقتصادوي للقضيّة الفلسطينيّة هو كان خياراً مفضّلاً في إسرائيل وأميركا عبر العقود. وقد ورد في كتاب ثيودور هيرتزل الثاني «الأرض القديمة-الجديدة» (الصادر في عام ١٩٠٢ والذي يتصوّر طوباويّاً دولة اليهود بعد ٢٥ سنة)، وفيه تطري الشخصيّة الفلسطينيّة — الوحيدة — في الرواية، رشيد بيك، على دولة إسرائيل، لأنها رفعت من مستوى الدخل للجميع، ما عاد بالنفع على الشعب العربي. وهذا التصوّر الاقتصادي ينبع من نظرة دونيّة للشعب الفلسطيني، على أنه يسهل طمس طموحاته السياسيّة بمنافع اقتصاديّة — أي الرشوة على نطاق جماهيري. هذه النظرة هي التي سهّلت المشروع الصهيوني الذي لم يأخذ في الحسبان ردّة الفعل الفلسطينيّة ضد الهجرة اليهوديّة الغازية، لأنه اعتبر أن الشعوب المتخلّفة لا تستطيع أن تشكِّل قوميّة خاصّة بها. والأبحاث التاريخيّة عن تبلور الهويّة الفلسطينيّة (من مؤرّخين إسرائيليّين أو عرب) تجمع على أن ردّة الفعل الفلسطينيّة ضد الحركة الصهيونيّة كانت مبكرة جداً وسبقت القرن العشرين. والكلام العنصري لكشونر لا يختلف في فرضيّاته عن تاريخ من العنصريّة التي أنتجت السياسات الأميركيّة نحو القضيّة الفلسطينيّة. والتلاعب اللفظي من قبل الإدارات الأميركيّة بما يُعرض على الشعب الفلسطيني (من «حق تقرير المصير» — وقد وافق كوشنر على الأخير — إلى «وطن» إلى «حقوق سياسيّة») هو من باب الثقة بقدرة الرجل الأبيض على تضليل الشعوب الملوّنة. لم تبدأ عنصريّة السياسات الأميركيّة مع كوشنر.
ولمشروع «صفقة القرن» جذور عربيّة. فالمقالة الطويلة عن محمد بن زايد في «نيويورك تايمز» قبل أيّام، تحدّثت عن دور ابن زايد في انبعاث فكرة العودة إلى الماضي في اجتراح الحلول. إن الثنائي محمد بن سلمان ومحمد بن زايد أقنعا إدارة ترامب أنهما سيتكفّلان بالحصول على قبول الشعب الفلسطيني بالحل الاقتصادوي. ولعلّ وجود محمد بن دحلان في حاشية ابن زايد عزَّز من ثقة النظاميْن بالقدرة على تجاوز الحد الأدنى للمطالب التاريخيّة للشعب الفلسطيني. لكن رفض محمود عبّاس، الذي جسّد بشخصه عنوان التنازل الفلسطيني المهين أكثر من أي شخصيّة فلسطينيّة على مرّ القضيّة، أقلقَ النظاميْن السعودي والإماراتي وزاد من ترداد الملك السعودي لازمة مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة وموقف المملكة (لكن للمملكة تاريخيّاً موقفان: موقف للإذاعات العربيّة وآخر لدول الغرب في المداولات السريّة).
سقوط الصفقة قبل إعلانها
ليست المشكلة فقط في إدارات أميركيّة صهيونيّة متعاقبة. المشكلة تكمن في مسار أوسلو الذي دشّنه ياسر عرفات (ليس معروفاً على نطاق واسع أن اللبناني محسن إبراهيم كان من الشلّة الصغيرة التي شاركت عرفات في الإشراف على مفاوضات أوسلو). لقد ارتكب ياسر عرفات المعصية الكبرى في تاريخ حركات التحرّر الوطني: قبِل بالتفاوض المباشر مع العدوّ وقبِل بمنح تنازلات في أضعف لحظة على الإطلاق في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة. هو تنازل عندما لم يكن لديه إلا النذير من أوراق التفاوض. لو أن عرفات مثلاً قبِل بالتفاوض في سنوات عزّ الثورة في لبنان قبل الاجتياح الإسرائيلي لكان حصل على أكثر من النزر القليل الذي حصل عليه (طبعاً، لا يمكن في التعامل مع عدوّ مثل إسرائيل الحصول عبر التفاوضات إلا على الفتات لأن المقولة التي روّجها العنصريّون الإسرائيليّون عن العرب — أن لغة القوّة هي وحدها التي تنفع معهم — تنطبق بصورة معكوسة على العدوّ نفسه). هذا عدوّ لا يرضخ إلا لمنطق القوّة والمثال اللبناني هو ساطع: انسحاب إسرائيلي من دون أية تنازلات سياسيّة من لبنان، لأن قوة المقاومة حصّلت لبلد عربي ما لم تحصل عليه أي دولة عربيّة أخرى).
سقطت «صفقة القرن» قبل إعلانها. المقابلة مع كوشنر على محطة «إتش.بي.أو»، كما ظهوره أمام «مؤسسة واشنطن»، أظهر كم هو جاهل بتاريخ الصراع، وحتى بتاريخ «مسيرة السلام الأميركيّة». هو يعيد اجترار كليشيهات يعلم الخبراء الأميركيّون ثبوت بطلانها من نوع: أن الشعب الفلسطيني لا يريد حقوقاً سياسيّاً لكن التحريض من القيادة هو الذي يدفعه، أو أن رفع مستوى المعيشة من شأنه أن يطمس المطالب السياسيّة، أو أن تحقيق بعض الحقوق السياسيّة لشعب فلسطيني لا تتطلّب بالضرورة كيانيّة سياسيّة مستقلّة. وحتى الحل الاقتصادوي كان جزءاً من مسيرة أوسلو، لكن المليارات التي وعدت الإدارات الأميركيّة ودول الخليج بها لم تأتِ (وهي لا تأتي، مثل المساعدات القطريّة لغزة، إلا بإيعاز أو طلب من العدوّ الإسرائيلي نفسه)، وإن كان خلق طبقة المنتفعين وتفريخ مئات منظمّات الـ«إن.جي.أو» في الضفة فعل فعله من ناحية جذب الشباب المتعلّم وإبعاده عن شعارات المرحلة التاريخيّة من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة.
ليس العداء العنصري لأعضاء فريق كوشنر جديداً. لكن الجديد هو في الطرف الفلسطيني. للمرّة الأولى في تاريخ القضيّة ليس هناك من ثورة فلسطينيّة. حركة «حماس» ليست إلا حركة «فتح» متأخرة عنها بضع سنوات فقط. ومستقبلها يقترب من حاضر حركة «فتح». وهي أفلست إلى درجة أنها تتأرجح في التحالف بين المحوريْن الإقليميّيْن المتصارعيْن، ساعة تقترب من هذا وساعة من ذاك. وهي تعتمد في سياستها نحو العدوّ على وساطة الطاغية السيسي الذي يشن حرباً ضروساً ضد الإخوان المسلمين، والذي بات في حلفه مع إسرائيل يتقدّم على أنور السادات وحسني مبارك في خدمة الصهيونيّة. إن ياسر عرفات قتل الثورة الفلسطينيّة عندما قبل بصفقة أوسلو. والتعظيم الشعبي لشخص ياسر عرفات يمنع مراجعة تاريخيّة لحالة القضيّة ومتوجّبات تحفيزها. ليس من حل اليوم إلّا العودة إلى الصفر، إلى عام ١٩٤٨. كل ما عدا ذلك هو الهروب نحو تعثّرات وإفلاس ماضي الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)