كشف الحراك العربي التآكل والضعف والهشاشة التي تعتري البنية السياسية العربية القائمة على القهر والأحادية السياسية. كما أنّه كشف ضحالة وهشاشة وسطحية الوعي الديموقراطي عند النخب المثقفة، إذ لم يرتقي الدفاع عن قيم الحرية والعدالة لديها إلى الانحياز الذاتي المبدئي. فكان البعض يرى في هذه المثل مشروعه الأساس طالما هو خارج السلطة.
لكنها تتحول إلى فوضى ومؤامرة عندما يشاركون في السلطة. وقد ساهمت شرائح من أمثال هؤلاء المثقفين في تغيير مسار الحراك عن أهدافه الأساسية عندما نصّبوا أنفسهم قادة له وأوصياء عليه. فطفا على سطحه بعض الموتورين ومن قدّم مصالحه الذاتية ومصالح أولياء نعمته على مصالح الشعب العليا. هذه الجماعات من أدعياء الثقافة والمعارضة يتحملون مع رموز الاستبداد مسؤولية الإجهاز على الحراك المدني وإفراغه من مضامينه، وتحويله إلى احتفاليات موت مجاني، يؤديها متطرفون ووافدون يتشوقون للقاء حور العين.
ففي زمن الثورات، كل شيء قابل للتغيير. فهي بحدّ ذاتها تمثل اختباراً نفسياً وأخلاقياً وعقلياً للأطراف المنخرطة فيها، في حين يظلّ المثقف الذي يمثل ضمير الشعب وصوت الجماهير المسحوقة ويجسّد قيمهم ويتمسك بها دون مساومة أو تفريط، باروميتر نجاح الثورة أو انتكاسها. فالمثقف يجب ألا تقيّد تفكيره وآليات اشتغاله أوهام السلطة وإغراءاتها. ومعلوم أن دور المثقف العضوي في العديد من الثورات كان على درجة من الأهمية (أنطونيو غرامشي).
لقد تخلّى المثقف العربي عن عالم الأفكار ونزل إلى الشارع مطالباً بالحرية، ومدافعاً عن حقوق أبناء جلدته لتحقيق الانتقال إلى مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية. لكن القمع السلطوي وآليات اشتغال الأطراف الدولية والإقليمية على توظيف الحراك العربي لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وكذلك الوعي المشوه الذي اشتغلت السلط العربية على تمكينه، كان له الدور الأساس في إخراج هؤلاء من دائرة الفعل الجماهيري. وقد تزامن إخراجهم من الساحات، مع دخول الجماعات التكفيرية التي تقاطعت أيديولوجيتها وآليات اشتغالها مع أيديولوجيا السلط السياسية الأحادية وآليات اشتغالها. وقد شكّل هذا التحول بداية أفول دور المثقف المدني السلمي.
ولم تقف التحولات التي طالت مواقف بعض من المثقفين ورموز النخب الليبرالية واليسارية والعلمانية التي ناضلت ضد الاستبداد، عند حدود التناقض في القول والفعل، بل تحوّلوا في زمن الأزمة إلى جزء من بنية السلطة التي يُعاد بناؤها، وإلى أدوات للدفاع عن السلطة، وآليات اشتغالها.
وفي الوقت ذاته، تعرّض المثقف الذي تمسّك بقيمه وأهدافه ومثله العليا، ولم يتراجع عن فضح الفساد وتحدي السلطة الأحادية والدفاع عن الضعفاء، للعديد من أنواع الضغوط والمغريات والابتزاز من السلطة أو من الجماهير. فيما تنازل بعض المثقفين عن دورهم المعنوي والمعرفي عندما انخرطوا في الحراك بشكل مباشر، وتحولوا إلى رهينة طغيان الوعي الجماهيري المتغيّر والمتقلب. فكانت مواقفهم رهينة ضغط المتظاهرين وابتزازهم. وبدل أن يمارس المثقف دوره المعرفي التنويري في أوساط الشباب، فقد تحول إلى متلقٍ. إذ بات الشارع هو الضابط لآليات تفكيره والمحدد لأشكال حركته، فاتحاً بذلك الباب واسعاً للمزايدات على القيم الأخلاقية والمواقف السياسية العقلانية على الأرض، وفي وسائل الإعلام التي تحوّلت إلى محاكم تفتيش علنية تقود حملات تشهير وتخوين، فتقاطعت أزمتهم مع الأزمة السياسية والفكرية والأخلاقية التي عانت منها شرائح من المتظاهرين. ورغم أن ادعاءات البعض بأن عسكرة «الثورة» كانت نتيجة إغلاق السلطة لأبواب التغيير السلمي، تحمل الكثير من الموضوعية. لكن التجربة المصرية والتونسية واليمنية تخالف ما ذهبوا إليه.
لقد كانت تحولات بعض المثقفين، إما بسبب خيبة أملهم من أداء القوى السياسية والثورية التي لم تستطع تحقيق التغيير الضروري في بنية الدولة العميقة، أو نتيجة اختلافاتهم أو تناقضاتهم الفكرية والأيديولوجية البينية، والتي امتدت إلى علاقاتهم مع الإسلاميين المتطرفين، وكذلك كانت نتيجة ممارسات أجهزة السلطة الأمنية. لكن ما يثير القلق هو انتقال هؤلاء المثقفين لمجرد فقدانهم الأمل في التغيير، من موقع التغيير الديموقراطي، إلى حقل السلطة أو إلى حقل الإسلاميين الأكثر تشدداً، وخصوصاً أن بعضاً من هؤلاء كانوا في الصفوف الأولى للمواجهة مع أنظمة القمع والاستبداد. وقد آثر كثير من المثقفين أن يتنحّوا جانباً، تاركين الساحة لكل من هبّ ودبّ من مثقفي السلطة والإعلام (المحترف) والمتطرفين من كل الأطياف السياسية والمذهبية. فكان هؤلاء أقرب إلى التشنج والتوتر والعصابية، وأبعد ما يكونون عن الأخلاق والعقلانية السياسية. وكان هذا يتجلى في تنظيرهم ودفاعهم عن قمع وعنف أطراف الصراع، بغض النظر عن تجاوزاتهم الأخلاقية والسياسية. فأي «ثورة» هذه التي يقودها متشنجون موتورون لم يكونوا أكثر من طرف مفتعل ساهم في تنصيبه كبديل من الشعب وقواه الوطنية، قوى إقليمية وغربية لا تعني لهم الديموقراطية في بلداننا العربية أكثر من كلمة جوفاء، تعني الفوضى. فكيف لهؤلاء أن يطالبوا الجموع المطالبة بالتغيير الديموقراطي الحقيقي بالاصطفاف خلفهم.
أما في المقلب الآخر، فقد طفت على سطح الأزمة فئات واسعة تدّعي الدفاع عن السلطة من بوابة الوطن، ليس من أجل السلطة أو محبة بالوطن، بل لأنّ الأزمة كانت بالنسبة إليهم فرصة ذهبية لتحقيق مصالحهم الذاتية الوضيعة، حتى لو كانت نتائجها سفك المزيد من الدماء. وهؤلاء من كلا الطرفين، لا يحق لهم أن يدّعوا تمثيل المجتمع أو الدفاع عنه، لأنهم عار على المجتمع والوطن. وفي مواقفهم المزعومة لا يدافعون إلا عن مصالحهم الضيقة، التي يرتبط تحقيقها باستمرار الأزمة. فهم بهذا يدفعون بكل ما أتوا من قوة من أجل استمرار الأزمة.
والطامة الكبرى يمثلها من تلحّف راية التطرف الإسلامي كسبيل وحيد للتغيير، متذرعاً بطائفية السلطة والانتماء الديني لغالبية الشعب، ومتناسياً أن المجتمع السوري يتميز بالتنوع النابذ لأي فكر طائفي أو مذهبي. فأدخل البلاد والعباد في مستنقع العنف الطائفي المدمّر للتغيير الديموقراطي الذي كان يمثل بوصلة الشباب السوري في بدايات حراكهم السلمي. وقد شاركت هذه الأطراف في نقل الحراك المدني السلمي إلى حقل العسكرة. وأيضاً ساهموا في إجهاض أي محاولة للخروج من منطق العنف الأعمى، مثلما أجهضوا محاولات شتى كانت تسعى إلى توحيد الصوت الوطني لخلق إطار وطني جامع قبل أن يستشري العنف والتطرف. وتقاطع هذا لاحقاً مع دور المجموعات الجهادية وبعض ممن يدعي المعارضة في الخارج، وجميع هؤلاء محمولون على قوى غربية وإقليمية باتت أهدافها واضحة للجميع.
لقد كان شبابنا يحلمون بالحرية وثقافة المواطنة، لكنّ رهط ممن يدّعي السياسة انتزع منهم شعلة الحرية، فتحولت بأيديهم إلى راية ملوثة بالدم والبغضاء والعصبيات المتخلفة. إنّ أدعياء السياسة يحتاجون إلى من يحررهم من أوهامهم وذاتيتهم المفرطة وعقولهم المحنطة، وليس أقدر من الشباب على ذلك. وفي الوقت الذي يشير فيه مفهوم المثقف إلى كل صاحب كفاءة يعمل باستقلال مادي ومعنوي عن السلطات السياسية، ويضع وعيه الإنساني ومعرفته في خدمة الشعب والدفاع عن قضاياه، من دون أن تمسّه لوثة كراسي السلطة. كان بعض «المثقفين» يبتذلون قيم الحداثة والديموقراطية والتنوير، ويفصّلونها بأشكال تناسب مواقفهم ومصالحهم السياسية وتموضعاتهم العقائدية.
ورغم إدراك هؤلاء المثقفين أن طريق الجلجلة إلى الديموقراطية يحتاج تحقيقه إلى جهود أبناء المجتمع كافة، وأن دورهم كان يجب أن ينحصر بالمشاركة في ترشيد المسار واستشراف سبل الاستمرار والنجاح، إلا أنهم نصبوا أنفسهم أوصياء على المجتمع، مؤثرين التمسّك بقشور الديموقراطية الغربية. فكانت النتائج مزيداً من الفشل والإحباط والسقوط في أحابيل الفكر الجهادي التكفيري أو في سراديب العسكرة المدمّرة، فيما تحوّل البعض منهم إلى أبواق سلطوية وأدوات قهرية ضد كل مثقف حر آثر التعبير السلمي دفاعاً عن أحلام مجتمعه.
لقد تمسّك هؤلاء ببعض من نتاج معرفي جاهز، يختصر الثقافة على بعض من أدوات أيديولوجية تمكنهم من التلاعب بالعقول الناشئة، وفق مآربهم الواعية وغير الواعية. من هنا، كانت تنبع قدرتهم على اجتزاء الواقع وتشويهه وتطويعه بما يخدم مشاريعهم الخاصة. لقد مدت هذه الأيديولوجيات هؤلاء المثقفين الرحّل بالقدرة على تبديل مواقعهم بسهولة ويسر، متمسكين بتبرير منطقهم، ومتعلقين بالمواقف التكتيكية والشطارة السياسية. فكانوا بذلك أكثر قرباً إلى الزعماء الذين تتحكم بهم غريزة الاحتفاظ بالسلطة.
* باحث وكاتب سوري