هناك عواصم تحدّد مسار الإقليم في مرحلة تاريخية محدّدة: أخذت القاهرة هذا الدور التحديدي لمسار إقليم الشرق الأوسط منذ يوم 27 أيلول/ سبتمبر 1955 عندما أُعلن عن صفقة الأسلحة التشيكية لمصر، وهي أسلحة سوفياتية الصنع جرى تمريرها عبر تشيكوسلوفاكية من الكرملين للرئيس المصري جمال عبد الناصر، ما عنى بدء الطلاق بين الزعيم المصري والغرب الأوروبي ثم الأميركي (مع واشنطن بدءاً من عام 1964). قادت تلك الخطوة المصرية إلى حرب 1956، وبدورها قادت تداعيات حرب السويس إلى تضخّم قوة عبد الناصر، ما قاد إلى الوحدة السورية – المصرية في 22 شباط/ فبراير 1958، وإلى سقوط الحكم الملكي في العراق في 14 تموز/يوليو 1958وانهيار حلف بغداد. بدأت شمس عبد الناصر بالغروب مع انفصال 28 أيلول/ سبتمبر 1961، وكان نشوء نظام عروبيّ منافس له في دمشق ما بعد 8 آذار/مارس 1963وفي بغداد 8 شباط/ فبراير 1963- 18 تشرين الثاني/ نوفمبر1963، ثم نظام البعث الثاني ما بعد 17 تموز/ يوليو 1968من علامات ذلك الغروب، حتى جاءت هزيمة 5 حزيران/ يونيو 1967 لتعلن بدء الليل المصريّ الذي اكتمل مع توقيع اتفاقية كامب دافيد يوم 17 أيلول/ سبتمبر 1978 التي عنت، من ضمن ما عنته، انتهاء الدور المصري في آسيا العربية. أخذت طهران دور القاهرة في تحديد مسار الإقليم منذ يوم 11 شباط/ فبراير 1979مع سقوط نظام الشاه وتسلّم آية الله الخميني السلطة في طهران ثم آية الله علي خامنئي منذ 1989، حيث قادت تداعيات التغيير الإيراني إلى عملية إشعال الداخل العراقي عبر حطب التمييز الطائفي الموجود في الدولة العراقية ضد الشيعة منذ عام 1921. هذا الإشعال أتى عبر حراك حزب الدعوة، الموالي لطهران في زمنَي الشاه والخميني، وهو ما قاد إلى إشعال صدام حسين للحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، من منطلق حساباته بنقل النار إلى الخارج. قاد تضخّم قوة الجيش العراقي عقب الحرب، مع أزمة اقتصادية عراقية ناتجة عن آثار الحرب مُرفَقة بانخفاض أسعار النفط، إلى قرار غزو الكويت الذي قاد إلى حرب 1991 ثم إلى غزو واحتلال العراق عام 2003. كانت طهران الرابح الأكبر من الاحتلال الأميركي للعراق لأنها من خلال الموالين المحليين قامت بملء فراغ نظام صدام حسين، فيما لم يستطع الموالون لواشنطن تحقيق ذلك، وهو ما حوّلها إلى قوة إقليمية كبرى. هذا الأمر أغرى طهران باستئناف برنامجها بتخصيب اليورانيوم في آب/ أغسطس2005. كان التقارب الأميركي - التركي عام 2007 محاولة من واشنطن لمواجهة التمدّد الإيراني عبر واجهات إقليمية، وقد كان تشجيع واشنطن في عامي 2011-2012 لجماعة الإخوان المسلمين للوصول إلى السلطة في أكثر من بلد عربي ليس بعيداً عن تداعيات التقارب بين واشنطن وأنقرة، وليس بعيداً عن وضع تلاميذ حسن البنا في مواجهة تلاميذ الخميني.
لا ترامب ولا خامنئي يريدان الحرب، بل كلاهما يلعبان لعبة شدّ الحبل

لم تنجح تلك العملية الأميركية - التركية، ليتّجه الرئيس الأميركي باراك أوباما نحو اتفاقية 14 تموز/ يوليو 2015 مع خامنئي حول البرنامج النووي الإيراني المسماة (5+1)، وهي اتفاقية استرضائية لطهران، ليقوم دونالد ترامب في 2018 بسحب توقيع واشنطن عليها.
هنا، إذا قارنّا بين القاهرة وطهران، نجد أنّ دوريهما التحديديين لمسار الإقليم لم يكونا فقط بحكم الوزن الجغرافي - السياسي للعاصمتَين فقط، وإنما اعتمدتا أساساً على الامتدادات الأيديولوجية للعاصمتين في البنى السياسية المحلية في أكثر من بلد في الإقليم. كان وزن عبد الناصر ممتداً عبر العروبة في سوريا 1956-1958والأردن 1956-1957والعراق1957-1958 وفي لبنان 1958وفي اليمن في فترة ما بعد يوم 26 أيلول/سبتمبر 1962. وجد نظام الخميني - خامنئي امتداداً عبر (الحركات الإسلامية الشيعية)في بغداد 1980-2003 حتى وصول الموالين لطهران إلى سدّة السلطة العراقية مع تولّي نوري المالكي رئاسة الوزارة العراقية في مايو 2006، وفي بيروت عبر حزب الله منذ عام 1982، وفي اليمن مع الحوثيين بدءاً من عام 2004، كما وجدت طهران، عبر حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، امتداداً فلسطينياً جعلها متحكّمة بهذا الشكل أو ذاك بمجرى الصراع العربي - الإسرائيلي. العاصمتان استفادتا من تداعي وانهيار نظامَين، البرلماني في سوريا 1954-1958وصدام حسين في العراق 1979-2003، لكي تتحكّما عبر هذا التداعي والانهيار في دمشق وبغداد بإقليم الشرق الأوسط وتصبحا «القوة الإقليمية العظمى» وفق تعبير الجنرال رحيم صفوي، القائد السابق لـ«الحرس الثوري الإيراني».
لم يستطع رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن إيقاف صعود عبد الناصر عبر حرب 1956، ليتولّى الرئيس الأميركي ليندون جونسون في فترة 1964-1967 إنزال عبد الناصر عن وضع «القوة الإقليمية العظمى». يبدو الآن، وبدءاً من يوم 8 أيار/ مايو 2018، أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد أن يكرّر مع طهران ما فعله جونسون بالقاهرة، ولكن ليس عبر حرب أميركية مباشرة على إيران، ولا عبر حرب بالوكالة كما جرى يوم 5 حزيران/ يونيو 1967مع عبد الناصر، بل عبر الخنق الاقتصادي الأميركي لإيران لإجبارها على تنازلات في القضايا الثلاث المُعلَنة أميركياً: البرنامج النووي الإيراني لأبعد من حدود اتفاق 2015، البرنامج الصاروخي الإيراني، تمدّدات إيران في إقليم الشرق الأوسط.
على هذا الصعيد، ينذر يوم 8 أيار/ مايو 2018 ببدء مسار تغيّرات في لوحة إقليم الشرق الأوسط. ستحاول واشنطن تحديدها للمرة الثانية بعد نصف قرن على حدوث العملية الأولى: هنا تكرّر السيناريو الاسترضائي من قِبل باراك أوباما مع الخامنئي عام 2015 تماماً مثلما حاول أيزنهاور وجون كينيدي مع عبد الناصر في فترة صدامه مع الشيوعيين وموسكو بدءاً من عام1959. أتى تجديد علاقات القاهرة مع موسكو بدءاً من زيارة خروتشوف إلى مصر في 1964 على وقع بدء الطلاق الأميركي - المصري. تحاول طهران الآن مجابهة ترامب عبر سياسة «التفاوض عبر النار». توحي هذه السياسة بأن طهران تريد إرسال رسائل لواشنطن والاتحاد الأوروبي ولدول الخليج بأن إيران تستطيع الإشعال ولكنّها لا تريد الحريق بل تريد حلاً وسطاً وبأنها تستعجل التفاوض، وخطواتها تجاه التهديد بالانفكاك التدريجي من (اتفاق5+1) لا تخرج عن ذلك.
الآن، من الواضح مع تصاعد التوتر الأميركي - الإيراني لحدود اللعب بالنار بدءاً من شهر أيار/مايو 2019 أن لا ترامب ولا خامنئي يريدان الحرب، بل كلاهما يلعبان لعبة شد الحبل، الأول عبر العقوبات الاقتصادية، والثاني عبر إظهار مقدرته على إشعال النيران في أكثر من مكان في الإقليم. هنا، تقترب سياسة الخامنئي من سياسة «حافة الهاوية» التي اتبعها جون كينيدي مع نيكيتا خروتشوف في أثناء أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962 عبر «الرعشة النووية»، ولكن من الواضح أن خامنئي لا يملك إمكانيات جون كينيدي التي أقنعت خروتشوف بسحب الصواريخ من كوبا، بل هو لا يريد من «التفاوض عبر النار» أكثر من تثبيت اتّفاقه مع أوباما أوما يقترب منه مع تنازلات إيرانية هنا أو هناك.
هنا مثال كلاسيكي ثانٍ على صدام قوة عالمية مع «قوة إقليمية عظمى» يحصل في إقليم الشرق الأوسط. وضع واشنطن أقوى الآن من وضعها في الستينيات أمام عبد الناصر المدعوم من موسكو التي كانت القطب الثاني للعالم مع واشنطن في الحرب الباردة 1947-1989، فهي ما زالت القطب الواحد للعالم، وطهران الآن لا تملك أصدقاء حتى في موسكو. إذ إن فلاديمير بوتين قال صراحة بأنه لا يريد أو لا يستطيع ممارسة دور الإطفائي في الأزمة الأميركية - الإيرانية، والأوروبيون أظهروا رغم بقائهم في (اتفاق5+1) أنهم غير قادرين في مرحلة ما بعد 8 أيار/ مايو 2018 على مخالفة واشنطن. قوة طهران ليست بقليلة، الذاتية الإيرانية أو امتداداتها في الإقليم، ولكن من المرجّح أن لا يكون وضعها أمام ترامب مثل وضعها أمام أوباما في اتفاق (5+1)، وفي المقلب الآخر ليس خامنئي في مثل وضع صدام حسين أمام جورج بوش الابن عام 2003. مهما كانت نتائج المجابهة الأميركية - الإيرانية، فإن تداعياتها ستقود إلى لوحة إقليمية جديدة.
* كاتب سوري