يسعى الغرب إلى تحقيق مفهوم العدالة، ولكن من زاوية الكسب والمصالح، مع إغفال النظر عن تحقيق العدالة الشاملة بين الشعوب والأمم. وفقاً لنظرية القوة في العلاقات الدولية؛ يعمل الغرب على تقوية بناه الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية وحتى الثقافية. ويتمّ تحقيق العدالة المزعومة، عبر نهب الشعوب الأخرى من دول العالم الثالث، حسب ما يُطلق عليها، وذلك تحت ذريعة توفير الأمن. وحيث تتداخل المصالح والوسائل السياسية والاقتصادية، يكون الحلّ العسكري عادةً هو الفيصل بالنسبة لهم، إذا لم تنفع الطرق السياسية والعقوبات الاقتصادية لتطويع تلك البلدان وجعلها تابعةً. وهذا ما حصل في كثير من الدول العربية والإسلامية وغيرها، مثل العراق وسوريا واليمن وأفغانستان وكما يحصل اليوم مع فنزويلا. وعادةً ما تختبئ قوى الاستكبار وراء قراراتٍ أممّية؛ لتشريع حروبها القذرة على الشعوب المستضعفة، وذلك تحت مسميات العدالة والأمن والسلم الدولي أو عبر شعارات حقوق الإنسان وتطبيق الديمقراطية. وتتقدم الدول الغربية في هذه السياسة، الولايات المتحدة الأميركية، التي غطّت بقاع العالم بإرهابها، عبر ما قامت وتقوم به من انتهاكات بحقّ دول العالم، فبات تاريخها أسود في مجال حقوق الإنسان منذ تأسيسها حتى اليوم.قامت الولايات المتحدة الأميركية، على بحرٍ من الدماء والتهجير والارتكابات الفظيعة والانتهاكات المتعمّدة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. ويعود ذلك لمرحلة اكتشاف القارة الأميركية، وبدء الهجرة الأوروبية إليها، والاستيطان فيها بعد طرد سكانها الأصليين. واشنطن التي تستخدم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي دولة بُنيت على ارتكاب جرائم الإبادة، واستمرّت وقويت من خلال ارتكابها جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي الوقت الذي تُنَصِّب أميركا نفسها وصيةً على حقوق الإنسان في العالم، تقوم بالعديد من الانتهاكات اللاإنسانية بحقّ البشر على امتداد المعمورة وحتى في الداخل الأميركي. سجلّ واشنطن حافلٌ بجرائم حقوق الإنسان، بدءاً من نشأتها على دماء الملايين من الهنود الحمر، الذين تمّت إبادتهم، ليصار إلى جلب ملايين الأشخاص من سكّان القارّة السمراء، واستعبادهم من قبل أصحاب البشرة البيضاء، بشكلٍ لا يمتّ إلى الإنسانية بصلة، لتطفو تلك العنصرية التي لا تزال المسيطرة في الولايات المتحدة الأميركية. أمّا على الصعيد العالمي، فقد ارتكبت هذه الدولة في مسيرة بنائها وتعاظم قوتها جرائم يندى لها الجبين، من قتل الآلاف في المكسيك، وقتل أكثر من مليون شخص في فيتنام، واستخدام القنبلة النووية ضد هيروشيما وناكازاكي اليابانية، وقتل الآلاف في نيكاراغوا وكوبا، هذا فضلاً عن شنّ حروبٍ على أفغانستان والعراق... قامت الأيادي الأميركية الإجرامية في العراق بقتل أكثر من مليون شخص، وهي تحاصر اليوم إيران وشعبها اقتصادياً، لأنّ طهران ترفض الهيمنة الأميركية عليها. وعلى هذا المنوال، تصوغ الإدارة الأميركية سياستها الدولية في شتّى أصقاع العالم إزاء كلِّ من يرفض هيمنتها وتبعيتها. وفي منطقتنا العربية، تقوم بدعم السياسة الإسرائيلية، وآلة حربها ضد الشعب الفلسطيني، وتُلبّي طموحات «تل أبيب» في بناء دولةٍ على حساب الحقوق الفلسطينية، من خلال «صفقة القرن». وحيث أنها تغض طرفها عن السعودية وعن عدوانها على اليمن الذي يرتكب فيه جرائم حرب ضد الشعب اليمني الأعزل، كما تغض طرفها عما تقوم به السلطات البحرينية من انتهاكات حقوقية بحق شعبها، بل وتدعمها، لاعتبارات سياسيةٍ بحتة.
لم تحترم الإدارات الأميركية المتعاقبة أدنى معايير حقوق الإنسان. تلك الإدارات التي توالت في انتهاج سياساتٍ عدوانية، ملطخةٌ بدماء الأبرياء في أرجاء المعمورة. يستخدم اليوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب أسلوب إذلال الدول وإهانة كرامتها، وهو لا يعترف بحقوق الشعوب الأخرى في الأمن والاستقرار والحياة الكريمة، بل يمارس كل ألوان القهر إزاء المهاجرين إلى الأراضي الأميركية ويضع برامجَ لطردهم جميعاً، وخاصةً المسلمين منهم، ويعمل على إذكاء الفتن والتحريض العنصري ضد أصحاب البشرة السمراء.
إذاً، فأميركا التي تتحف دول العالم بتقاريرها السنوية عن حقوق الإنسان تستخدم هذه التقارير كشمّاعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى، وفرض سياستها الانتقائية تجاه هذا الموضوع. فعندما تدور دولةٌ ما في الفلك الأميركي، تكون في مأمنٍ من انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان فيها كما يحصل مع السعودية والبحرين والإمارات... أمّا إذا كانت هذه الدول تتبع سياسات خارج ما يُمليه المزاج الأميركي؛ فلا بد عندئذٍ من التلفيق لانتهاكات حقوق الإنسان، كما هو الحال مع التقارير الجاهزة، التي تصدر عن وزارة الخارجية الأميركية الخاصة بالحقوق؛ كما هو الحال بخصوص الصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وإيران وغيرها.
وممّا لا شك فيه، أنّ السياسة البراغماتية الأميركية، تستخدم شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والتدخل الإنساني ومحاربة الإرهاب، من أجل تحقيق مصالحها الاستراتيجية، لكي تبقى متربّعة على عرش النظام الدولي، وتكون المسيطرة على السياسة الدولية، ونهب ثروات الدول، لا سيما تلك التي تنعم بالنفط. ونظراً إلى أهمية منطقة الشرق الأوسط، فإن واشنطن قد سعت إلى بناء «شرق أوسط جديد» وفق تطلعاتها، يكون تابعاً لها ويقبل هيمنتها ويهادن «إسرائيل»، فغزت العراق ودعمت «إسرائيل» في حربها ضد لبنان، ومن ثم سارت في موجة الثورات العربية، فصادرت قرار شعوبها، وسعت لإيصال حلفائها إلى السلطة، ومن ثم استخدمت التنظيمات الإرهابية لشنّ حرب على سوريا وضرب بنية الدولة السورية التي رفضت هيمنتها ولم تسِر في ركب سياستها.
سعت الولايات المتحدة الأميركية، من خلال هذه الشعارات واستغلال مطالب الحراك العربي، إلى تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي يقوم على تفكّك الدول العربية ومن ثم تقسيمها إلى دويلات صغيرة ومتناحرة فيما بينها على أساسٍ دينيٍّ وطائفيٍّ، وقطع الطريق على وجود دول مقاومة لهذا المشروع وهذا ما حصل مع سوريا والجزائر والسودان مؤخراً. وقد تحدثت تقارير عدّة، عن أنّ التظاهرات التي خرجت في «الربيع العربي»، كان الأميركيون يؤسسون لها من أجل إعادة بناء «شرق أوسط جديد»، يكون وفق توجهاتها. ومع أنّ الشعوب قد خرجت بشكلٍ عفويٍّ نتيجة ما تعاني منه، إلّا أنّ المحرّك الرئيسي لهذا الحراك كانت واشنطن، التي استخدمت المنظمات غير الحكومية، بشكلٍ يتماشى مع سياستها الخارجية وأهدافها، خاصةً في ما يختصّ بالأمن الداخلي. استطاعت واشنطن إفشال تطلعات الشعوب العربية من الثورات التي اندلعت، وبدلاً من أن تصل الشعوب الثائرة إلى أهدافها، تمّت مصادرة ثوراتها التي فشلت في تحقيق طموحها بأنظمةٍ ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ، لا أنظمةٍ على قياس مصالح الإدارة الأميركية. لقد خلّفت واشنطن من تدخلاتها في الثورات العربية أنظمةً تهادن «إسرائيل»، فيما حاصرت الدولة السورية وشنّت حرباً بأدواتٍ متعددةٍ ضدّها لرفضها سياستها، وحوّلت ليبيا إلى بلدٍ يعاني من أزماتٍ متعددةٍ بذريعة التدخل الإنساني. أمّا في البحرين، حيث يتمّ قتل الشباب والأطفال، وعوضاً عن إدانة النظام، فقد تمّ دعمه وتغطيته، كونه يُعتبر أحد أذرع واشنطن. فالبحرين تُشكّل قاعدةً أميركيةً رئيسيةً في الخليج، يستقر فيها الأسطول البحري الأميركي الخامس.
ركبت أميركا موجة الثورات العربية وعملت على إحباطها، لكي لا توصل أنظمةً معاديةً لها، متظاهرةً بدعمها تطلعات الشعوب ورياح التغيير، وتظهر نفسها وكأنّها الراعي الوحيد للتحوّلات الديمقراطية في العالم العربي. لكنها في الحقيقة، قد سعت لكي توصل أدواتها إلى السلطة، التي تحافظ من خلالها على أمن «إسرائيل». فأميركا ستبقى راعية لمصالحها ومصلحة الصهاينة حيث كانت هذه المصالح، ولن تلتفت إلى أزمات الشعوب العربية والإسلامية، ولن يكون شعار حقوق الإنسان إلا شمّاعةً تستخدمها واشنطن للتغطية على مؤامراتها الملطّخة بدماء الشعوب والإنسانية.
* أكاديمي وباحث في القانون الدولي