(ملاحظة: أُرسل النص التالي الى النشر قبل تجميد مشاركة تركيا في برنامج «أف-35»)منذ يوم الجمعة الماضي، تصل تباعاً الى تركيا طائرات شحن عسكرية روسية، تنقل أجزاءً من منظومة «أس-400» التي تعاقد عليها الأتراك وأصرّوا على تسلّمها. إتمام التسليم هو بمثابة عدٍّ تنازلي لتوقيع عقوبات أميركية على تركيا، بحسب قانون «كاتسا» الذي يُجبر الرئيس على معاقبة الدول التي تتعامل مع أعداء دوليين للولايات المتحدة (كروسيا وصناعتها الدفاعية). بحسب القانون، سيكون على دونالد ترامب اختيار خمس عقوبات من لائحة من 12 خياراً (على طريقة برامج الألعاب)، وهي تراوح بين وقف المساعدات العسكرية للبلد «المذنب»، وقطع تركيا بالكامل عن النظام المالي الأميركي. يحقّ للرئيس تجميد هذه العقوبات - بعد أن يقرّها - لمدّة 6 أشهر، ويمكن للكونغرس في المقابل أن يضع «فيتو» على إعفاء الرئيس هذا.

المثال التركي
يأمل المسؤولون الأتراك أن تكون العقوبات خفيفة، أو أن يمارس ترامب صلاحيته ويقوم بوقف تنفيذها، وأن تقتصر الأضرار على إخراج تركيا من برنامج المقاتلة الأميركية اف-35. منظومة الـ«أس-400» كفؤة بالفعل، وقد تكون أفضل منظومات الدفاع الجوي اليوم في العالم قاطبةً. هي فعلياً تطويرٌ لـ«اس-300» المشهور، وتستخدم من بين ترسانتها صاروخاً جديداً، هائل الحجم، يبلغ مداه نظرياً أكثر من 400 كيلومتر (على مسافاتٍ كهذه، يكون الاستهداف الممكن هو لطائرات كبيرة ومرتفعة في الجو، كطائرات التزويد بالوقود والاستطلاع، وليس للمقاتلات الصغيرة الرشيقة). وهذا النظام بأكمله، الرادارات والقواذف وعربات التحكم والمساندة، متحرّكٌ على عجلات، ينتقل من موقعٍ الى موقع وقت الحرب ولا يمكن تصيّده بسهولة. لا يوجد في الغرب، ببساطة، نظامٌ يباريه (والجيوش الغربية، أصلاً، لا تقوم عقيدتها على الدفاع الجوي «من الأرض». وأميركا لم تبنِ، حتى أيام الحرب الباردة، نظاماً صاروخياً متكاملاً لحماية الأجواء الأميركية من طائرات العدو - على طريقة «جدار الصواريخ»، أو الحلقات المتداخلة للتغطية الصاروخية التي كانت تشكلها البطاريات السوفياتية فوق موسكو، وحول الحدود وفي الغرب). في الوقت ذاته، فإنّ هذا النظام الدفاعي، إن شغّلته أيدٍ «أمينة» وموثوقة، هو كفيلٌ بحماية مركز الدولة من غاراتٍ جوية يشنّها انقلابيون، كما حصل عام 2016.
غير أنّ الـ«اس-400»، على ميزاته، لا يساوي - حتى بالمعنى العسكري البحت - خلافاً عميقاً مع «ناتو» وأميركا؛ وأربع بطاريات «اس-400» لا توازي، بالقطع، الخروج من برنامج «اف-35» وأن يفقد سلاح الجو التركي طائرته المستقبلية (أوقفت الولايات المتحدة تدريب الطيارين الأتراك على المقاتلة الجديدة بشكلٍ احترازي منذ زمن). تماماً كما أنّ روسيا وحدها، على المستوى الدولي، لا يمكن أن تستبدل أميركا حامياً وراعياً - كما يحلّل البعض. البعض الآخر يقول إنّ المسألة «تدحرجت» عن غير قصد: عقدت تركيا الصفقة قبل صدور قانون «كاتسا» بأشهر، وكان في بالها تفاهمات في سوريا؛ الأميركيون اعتقدوا أن الاتراك أو الروس سيلغون الصفقة قبل أن تتحقق؛ الأتراك أصرّوا على موقفهم وافترضوا أن واشنطن لن تصنع خلافاً كبيراً مع تركيا على خلفية صفقة سلاح، الخ.
العلاقة التركية ــ الأميركية معقّدة ولا يمكن اختزالها ضمن صيغةٍ بسيطة، وتركيا بلدٌ كبير، لها هوامش حتى في علاقة التبعية مع «حليفٍ» بحجم الامبراطورية. تركيا، من جهة، «حليف استراتيجي» لأميركا، تخزّن واشنطن على أرضها رؤوس نووية، ولها فيها قواعد ومحطات استطلاع (وهذه الأهمية لم تسقط مع نهاية الحرب الباردة). من جهةٍ أخرى، شهد التاريخ دورات خلافٍ وصدامات بين واشنطن وإداراتٍ تركية، كان أشهرها الحظر الأميركي على تسليح الجيش التركي، الذي أُقرّ إثر حرب قبرص عام 1974، واستمر لثلاث سنوات (1975-1978)، وكان تأثيره مدمّراً على الجيش والاقتصاد (أصبحت نصف الطائرات التركية، مثلاً، خارج الخدمة خلال أشهر، لنقص الصيانة وقطع الغيار؛ وقد ردّت تركيا عبر طرد الجنود الأميركيين من 25 قاعدة كانوا يشغلونها في تركيا. في المقابل، فاقم الحظر الأزمة الاقتصادية في تركيا، وكان من الأسباب التي أدّت الى انقلاب عام 1980). أمّا اليوم، يخبرني صحافي يعرف الوسط السياسي التركي، فإنّ العديد من كوادر «العدالة والتنمية»، حتى قبل انقلاب 2016، يحيطون أفعال أميركا بنظريات مؤامرة ويقولون صراحة إن واشنطن تحوك ضدّهم الدسائس، وتحاول استبدالهم في الحكم عند أوّل فرصة (هذا وهم ينسّقون مع الاستخبارات الأميركية في سوريا والعراق وغيرهما).
الفرضيّة هنا هي أنّ ما يجري بين تركيا وأميركا قد يكون نتاج عمليّة أكبر تجري على مستوى العالم. قرار أردوغان لا يعني بالضبط «استدارة» كاملة، أو «استبدال» لأميركا بروسيا، ولا هو مجرّد أزمة دبلوماسية وسوء تفاهم؛ فالخروج من برنامج «اف-35»، مثلاً، له تبعات سياسية بعيدة المدى، تبدأ مع بحث تركيا عن مقاتلة رئيسية بديلة من الجيل الجديد، وهنا لا يوجد بديلُ غربيّ من دول «ناتو». أحاجج بأن قراراً من هذا النوع ما كان لتركيا أن تأخذه في التسعينيات أو منذ عشر سنواتٍ حتى، في قمّة الأحادية القطبية. أردوغان اليوم «يراهن» على أنّ السنوات المقبلة ستكون مرحلةً تسمح لدولٍ مثل تركيا بالموازنة بين حلفاء متعدّدين، وبـ«الوقوف في الوسط» في مسائل معيّنة، وعدم الامتثال للأمر الأميركي. بمعنى آخر، هناك ارتخاءٌ للأحادية القطبية، ودولٌ تناور في سياقٍ جديدٍ يتشكّل. ومن بوادر ضعف الامبراطوريات أن تبدأ الدول التابعة لها على الأطراف بـ«التفكك» من سطوتها والتفكير بـ«استقلالية»، وموازنة إذا ما كانت العلاقة إيجابية المردود عليها، والبحث عن حلفاء وحماة جدد. الهند، على ما يبدو، قد قرّرت أيضاً شراء «اس-400» وتحدّي قانون «كاتسا» بشكلٍ مباشر، وأردوغان يقول إنّه يريد الذهاب أبعد من الحصول على «اس-400» الى التصنيع العسكري المشترك مع روسيا. قد لا يكون أردوغان يرى الأمور وفق هذا التحليل، ولكن هذا السياق العالمي الجديد هو الذي يوجّه أفعاله ويفتح احتمالات لم تكن ممكنة في السابق؛ وأردوغان - على أي حالٍ - لن يكون موجوداً على الأرجح حين يظهر هذا «النمط القادم من العولمة» وترتسم ملامحه.

العالم يتشظّى؟
قبل سنواتٍ قليلة، لم يكن يكتب عن تراجع الموجة الأخيرة للعولمة (أي التي انطلقت بعد 1990) سوى المحافظين التقليديين، الذي يحلمون باستعادة الحدود والنظم القديمة، وبقايا الثوريّين المهزومين، الذين رأوا في العولمة تمثيلاً للقوة الأميركية المكروهة وقناةً لفرض نموذجها الاقتصادي والثقافي على مستوى الكوكب. أمّا اليوم، فقد أصبح الكلام عن «نهاية النظام القديم» والعولمة كما نعرفها موضوعاً مفضّلاً لكتب العلاقات الدولية والدراسات «الاستشرافية»، والمجلات الاقتصادية المحافظة، مثل «فاينانشال تايمز» و«ذا ايكونوميست»، تقتبس كتّاباً مثل الاقتصادي ريتشارد بالدوين وتروّج لكتابات مايكل اوساليفان، وغيرهما ممّن يتكلّم عن «نهاية العولمة» أو تحوّلها. الصدام بين أميركا والصين، وتأثيره على التجارة الدولية والاستثمار وأوضاع الشركات الكبرى، هما الترجمة المادية والأوضح لـ«خلخلة» النظام (مستوى التجارة العالمية والاستثمار الخارجي ومؤشرات انتشار العولمة كلّها انخفضت هذا العام، بعد صعودٍ متواصل منذ اوائل التسعينيات، لم تخترقه الا سنة الأزمة المالية عام 2009).
العولمة هي، قبل أي شيء، كيانٌ سياسي


«ذا ايكونوميست» نشرت الأسبوع الماضي مجموعة تقارير عن «التدمير» الذي تتعرّض له «سلاسل الانتاج» التي تمتدّ عبر القارّات، وهي أساس الرأسمالية المعولمة المعاصرة. سلسلة الانتاج التي تبدأ في شركةٍ ومكتب تصميم في اميركا، وقطعٌ مختلفة يتم صنعها في كوريا وتايوان والصين وغيرها، ثم تُجمع بشكلها النهائي في الصين، هي حساسة للغاية تجاه العقوبات والجمارك والحروب التجارية. الكثير من الشركات (كتلك التي تبيع على «أمازون») لا تعرف أصلاً من يصنع «منتجاتها» حقّاً ومن أين جاءت القطع المختلفة التي تكوّنها. والصناعيون الغربيون - منذ بدء الحرب التجارية - يخافون من الاستثمار ويبحثون عن بدائل، فيحاولون إيجاد مصانع ومورّدين خارج الصين (فيتنام وغيرها)، محميين من العقوبات والجمارك الأميركية، ويعيدون النظر في كامل نظم الإنتاج التي بنوها خلال الأعوام الماضية.
إذا كان محرّرو «ذا ايكونوميست» يرون المسألة من زاوية الأعمال ونشاط الشركات الكبرى، فإنّ كاتباً مثل الايرلندي اوساليفان يركّز على استبدال الأحادية القطبية القائمة اليوم بعالمٍ تحكمه مجموعة «أقطاب»، كلٌّ ينشئ حول نفسه منظومة اقتصادية ــ سياسية. بمعنى آخر، يصبح لديك إقليم «أميركي» تنتشر فيه برامج «غوغل» وهواتف «آبل»، وإقليم في آسيا حول قطبِ صينيّ له نظام إنتاج شبه مستقلّ وتنتشر فيه برامج وسلع صينيّة، ومناطق أخرى تخضع للتجاذب والمنافسة (المثير هو أنّ اوساليفان يقول إنّه، على عكس أميركا الشمالية وأوروبا والصين، فإنّ المنطقة الممتدة بين الشرق الأوسط ووسط آسيا قد تكون مفتوحة على مختلف الاحتمالات، اذ لا «قطبَ» طبيعياً في هذه المساحة، وروسيا لا تصلح للعب دورٍ كهذا وحدها (ونحن نتكلّم هنا على منطقة «الجسر الاوراسي»، التي يعتبرها المؤرخ بيتر فرانكوبان «العمود الفقري للعالم» ومفتاح السيطرة عليه، في الماضي والحاضر). أخيراً، هناك ايضاً مَن ينظر الى المسألة (مثل روبرت كاغان أو ستيف بانون) من زاوية الصراع الإيديولوجي، والتهديد «البنيوي» الذي يمثله صعود دولٍ مثل الصين وروسيا على الديمقراطية الليبرالية في الغرب وفي العالم - أكثر المثقفين العرب، لسببٍ ما، يقاربون الموضوع من هذا الجانب حصراً.
هذه التحليلات كلّها ليست «خطأً» بل هي جزئية. الخيار هو ليس بين وجود العولمة أو عدمها؛ فتاريخ كلّ الدول (أقلّه منذ القرن السادس عشر) هو تاريخ «عالمي»، وستكون هناك دوماً «عولمة» (منتجات العولمة، مثل التكنولوجيا الحديثة وسرعة التواصل وضغط الوقت والمسافات، مثلاً، ستظلّ موجودةً معنا في كلّ الأحوال). السؤال هو عن الشّكل الذي تأخذه هذه العولمة، وهذا سؤالٌ سياسيّ، بمعنى أنّ ميزان القوى ضمن النظام العالمي هو الأساس، فيما التجارة والشركات العابرة للقارات وسلاسل الإنتاج (والى حدٍّ ما، الإيديولوجيا) هي عوارض.

نظام في نهاياته
فلنبدأ من الحاضر ومفهومنا الحالي عن «العولمة». فكرة «العالم المفتوح» و«العالم المسطّح» هي، حقيقةً، ليست توصيفاً موضوعياً أو دقيقاً، بل توريةٌ لنظام الأحادية القطبية. العولمة هي، قبل أي شيء، كيانٌ سياسي. العالم لم يصبح «مسطحاً» ولا حصل انتشارٌ متساوٍ للتقنية والتصنيع ولا كانت حرية التبادل مفتوحةً بالكامل (يمكن تبادل السلع والأموال عبر الحدود، مثلاً، ولكن يمنع عبور «قوة العمل» بحرّية من سوقٍ الى آخر؛ النظام النقدي يقوم على الدولار ويعطي أفضليات كبرى لأميركا ويسمح بعزل من تعاديه، قوانين التجارة لا يكتبها الجميع بالتساوي، الخ). لدينا شكلٌ محدّد من العولمة قام على «قاعدة أساس»، هي الهيمنة الأميركية وخروج أميركا، من سلسلةٍ من الحروب العالمية، كالطرف المنتصر والقطب المنفرد. والكلام عن «نهاية العولمة» اليوم يعني نهاية هذا الشكل التاريخي المحدّد من العولمة.
أميركا، بالطبع، لم تكن الطرف الوحيد في المعادلة. كما يقول الكاتب ريتشارد بالدوين (في اقتباسٍ له في «ذا ايكونوميست»)، فإن نمط الانتاج المعولم قد قام على تزاوجٍ بين الشركات والرساميل الغربية من ناحية، و«العضلات الصناعية» للصين ودول شرق آسيا من ناحيةٍ أخرى. أصبح بإمكان الشركة الغربية أن تنتج تصاميمها بكلفةٍ زهيدة في مصانع صينيّة، مزودة بدفق لا ينتهي من العمالة الرخيصة الماهرة، وبنية تحتية تناسب التصنيع والتصدير - فتفصل بالكامل بين مهام التصميم والانتاج والادارة، وتتفادى الكلفة المرتفعة للعمالة في الغرب. هكذا ولدت «سلسلة الانتاج» العابرة للقارات، وارتفع الانتاج والنموّ لثلاثة عقود، وتولّدت ثرواتٌ هائلة من نمط التراكم هذا (وتوزّعت، بالطبع، بشكلٍ غير متساوٍ). العولمة تهتزّ اليوم، لأنّ هذا الزواج السياسي ــ الاقتصادي، ككلّ نموذجٍ رأسمالي، وصل في نهاية الأمر الى مداه ولم يعد متوازناً. قبل أن ننعى العولمة ونحزن على ضياع «العالم المفتوح»، فلنأخذ خطوة الى الوراء وننتبه الى الأذى الذي سبّبه «الزواج» المذكور أعلاه على دول العالم الثالث وأي محاولة تنمويّة في الجنوب - و، بالتالي، على الوضع السياسي في هذه الدول. كيف يمكن، وانت بلدٌ صغيرٌ أو متخلّف، أن تنافس منتجات «معولمة»، تجمع الماركة الغربية مع التصنيع الصيني؟ أنت مجبرٌ على أن تُبقي سوقك مفتوحاً أمام هذه الشركات، ولكنّ التنافس الفعلي معها هو شبه مستحيل، ولا «مزايا تفاضلية» تكفي لمواجهة عملاقٍ «معولم». بحسب الاقتصاديان دايفيد سوسكيسي وتوربن ايفرسون، هناك ستة بلدان لا أكثر تمكّنت من العبور، خلال 70 عاماً الماضية، من مرتبة الدول المتخلفة اقتصادياً الى نادي الدول ذات الدخل المرتفع والاقتصاد المتقدم. ست دولٍ من أصل أكثر من 180. إحصائياً، هذا لا يؤشّر الى سوقٍ مفتوحة على التنافس والترقّي، بل الى مشكلة بنيوية. لا يمكن أن يحاول عددٌ هائلٌ من الشعوب، من ثقافات وديانات وسياقات مختلفة، وأن يفشلوا جميعاً بالصدفة أو لأسباب «ذاتية» ( بل وتصبح مناطق بعينها، كأفريقيا، مجالاً للفقر والتخلّف، وأقاليم أخرى، كالشرق الأوسط، مرتعاً للحروب والدمار). أكثر من ذلك، فإن قائمة الدول الست الناجحة هي كالتالي: كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، هونغ كونغ، اسرائيل، وايرلندا؛ أي إنّ أكثرها دولٌ صغيرة، تقدر على «التخصص» في مجالات محددة من دون الحاجة الى بناء اقتصادٍ متكاملٍ ومكتفٍ كالبلاد الكبيرة، وقد صادفتها جميعاً ظروفٌ «مؤاتية» ضمن النظام الدولي (مساعدات، رعاية أميركية، وصول الى التكنولوجيا المتقدمة، الخ) لا يمكن أن تتكرر أو تُتاح للجميع.
يعتبر البعض (وخاصة في دوائر الحكم الأميركية) أنّ من الممكن «استبدال» الصين أو عزلها، وتكرار العملية ذاتها مع غيرها؛ أي أن تنتقل الشركات الغربية، ومصانعها، الى دولٍ أخرى في آسيا، حليفة، تستفيد هي بدلاً من الصين من تصنيع السلع لصالح الغرب. فيتنام وتايلاند وإندونيسيا والهند وغيرها يمكن أن تلعب الدور الذي لعبته الصين في الماضي، ويتمّ الاستغناء عن بيجينغ وعزلها. في هذا المنطق أكثر من مشكلة. أوّلاً إنّ استبدال الصين ليس بهذه السهولة، فلا بلد آخر، باستثناء الهند، يملك حجم القوة العاملة التي توفرها الصين. تقول التقارير إنّ فيتنام - بعد انتقال العديد من المصانع اليها - أصبحت «ملأى» ولا مكان فيها لمنشآت جديدة، وكلفة العمل والأجور قد بدأت بالارتفاع، والحرب التجارية لم تبدأ بعد. تقول صحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست» إنك، في جنوب فيتنام، لن تقدر اليوم على تشغيل منشأة جديدة فيها ألف عامل (للمقارنة، تقوم شركة «فوكسكون» بتوظيف مئات الآلاف من العمال في كلٍّ من مواقعها التي تنتشر حول الصين). وجدت الرأسمالية الغربية في الصين نظاماً اجتماعياً وبنى تحتية ومؤسسية لا يوجد مثلها في الهند. أهمّ من ذلك كلّه، حين قام الغرب - في التسعينيات - بـ«تعيين» الصين مصنعاً للعالم، لم تكن هناك يومها «صين» تزاحم، لها اقتصاد هائل ونفوذ كبير وقدرات تنافسية. السياق اليوم مختلف تماماً، والعولمة عملية تتفاعل و«تتقدّم» باستمرار، وإن تغيّرت أنماطها، ولا يمكن أن ترجعها الى مرحلةٍ سالفة.

خاتمة
الفكرة هنا هي أنّ الاحتمالات مفتوحة، وفكرة «نهائية الأحادية القطبية» لا تعني بذاتها شيئاً محددّاً. بل إنّ أميركا قد تتمكّن من ليِّ ذراع الصين و «وضعها في مكانها»، والتوكيد على استمرار القطب الواحد في صورةٍ من الـ«سوبر ــ امبريالية» على طريقة ترامب، تتخلى عن ادّعاءات العمل الجماعي (multilateralism)، ولو كواجهة: قطبُ يتمتّع بميزة النظام الدولاري، ويقدر على طبع الأموال بلا حساب، ويتحكّم في معدّلات الفائدة ويعزل كلّ من يعارضه ويعاقبه (وعندها، سوف يندم أردوغان). من الممكن أيضاً أن نشهد مواجهة طويلة بين قطبين على طريقة الحرب الباردة، أو قد يتفتّت العالم الى عددٍ من الكيانات الكبرى بينها مساحات تنافس.
أمّا بالنسبة الينا، فأقول إنّنا قد جرّبنا النظام القديم، وقد وضعنا - برفقة أفريقيا - في أسوأ مرتبة، فلا شيء كثيراً لنخسره أو نتحسّر عليه أو نخشاه. على العكس، فإنّ العالم الجديد قد يوفّر لنا فرصاً ومساحةً بعد أن لبثنا طويلاً بين فكّي الكمّاشة - و«العالم الجديد»، في العادة، يتشكّل لمصلحة الشجاع والجسور.