أذكرُ عندما كنتُ على بعد سنتمترات فقط من سطح القمر. كنتُ في سنّ التاسعة أو العاشرة، وكان ذلك بعد أشهر فقط من رحلة نيل أرمسترونغ وصحبه. لا، لم أكن على سطح مركبة فضائية لكن كنت في قاعة في مبنى في الجامعة الأميركيّة في بيروت وأمرتنا المدرسة (الأميركيّة) بالمرور على المبنى حيث أقامت السفارة الأميركيّة في بيروت معرضاً خاصّاً لبضعة صخور من سطح القمر. وكان المعرض ذلك جزءاً من رحلة أميركيّة دعائيّة حول العالم، وبتنظيم من وزارة الخارجيّة الأميركيّة. أذكرُ قبل سنوات أن كاتباً في جريدة «السفير» سخرَ من أستاذ في الجامعة اللبنانيّة لأنه ذكّر طلّابه بالعلاقة الوثيقة بين وكالة الفضاء الأميركيّة «ناسا» ووزارة الدفاع الأميركيّة. ظنَّ الكاتب، الذي رأى نجابةً في نفسه، أن الأستاذ لا يدري عمّا يتحدّث وأنه لا بدَّ أن يكون من أصحاب نظريّة المؤامرة. مشروع الهبوط على سطح القمر قصّة طويلة لا يمكن فصل مسارِها عن مسار الحرب الباردة. يقول نوام تشومسكي عن وكالة «ناسا» إنها أكبر عمليّة احتيال دعائيّة في القرن العشرين. إنشاء الوكالة كان من أدوات الصراع ضد الاتحاد السوفياتي. وبتنا اليوم نعلم الكثير عن نشوء وتطوّر فكرة الهبوط على سطح القمر. صوَّرت الحكومة الأميركيّة المشروع الفضائي على أنه مشروع علمي محض، فيما لم تكن هناك أهداف علميّة من الهبوط على سطح القمر باستثناء أخذ الكثير من الصور، وبكاميرات مختلفة من أجل استخدامها في الدعاية الأميركيّة. رحلات المكّوك الفضائي الذي تلى أبوللو كانت في أغلبها لغايات عسكريّة (مثل زرع أقمار اصطناعيّة لـ«وكالة الأمن القومي» أو غايات سريّة أخرى) مع سترها بإعلانات عن اختبار لمعرفة انعدام الجاذبيّة على حبّات البندورة (وتوزّع تفاصيل عن الاختبار على طلبة المدارس).
الصعود إلى القمر كان ردة فعل أميركيّة على التقدّم الهائل الذي أحرزه استكشاف الفضاء السوفياتي: أوّل رحلة حول الأرض وأوّل مشي في الفضاء وأوّل إطلاق قمر اصطناعي. لكن إطلاق القمر الاصطناعي «سبوتنيك» في عام ١٩٥٧ حفّز السعي الأميركي للّحاق بمستوى الروس وكان السيناتور ليندن جونسون (الذي خلف جون كنيدي في الرئاسة) المتبنّي الأوّل لغزو الفضاء في الحكم الأميركي (راجع كتاب، جيمس دونافان، «توجّه إلى القمر»، ص. ١٥). وهدف النيّة من السيطرة الأميركيّة على الفضاء كانت السيطرة على الأرض. لم يخفِ جونسون ذلك عندما قال: «إن السيطرة على الفضاء يعني السيطرة على العالم». وفي الخطاب الذي ألقاه كنيدي في جامعة «رايس» في ١٩٦٢، مزج كنيدي بين المسيحيّة والصراع ضد الشيوعيّة وهزيمة الاتحاد السوفياتي في الفضاء. ويمكنك هنا إضافة بعض الكلمات عن العالم الحرّ الذي لم تكن بيانات وتصريحات الساسة في أميركا تخلو منها. والجيل العربي الجديد لا يدري اليوم نسبة وحشيّة الخطاب الأميركي نحو المعسكر الشيوعي: كان أيزنهاور قد هدّدَ في عام ١٩٥٣ بضرب الصين بقنبلة هيدروجينيّة فيما طالبَ عدد من أعضاء مجلس الشيوخ دوريّاً بإلقاء قنابل ذريّة على روسيا. لكن الضغط باتجاه هزيمة السوفيات في معركة — وكل منافسة هي معركة في أميركا والمصطلحات الأميركيّة تعكس ذلك — استكشاف الفضاء. وعندما قلّلَ أيزنهاور من أهميّة الفوز الروسي، ثارَ أعضاء الكونغرس من الديموقراطيين (خصوصاً السناتور، سكوب جاكسون، أبو الصهيونيّة على مدى عقود، وأوّل عراب للمحافظين الجدد) بالإضافة إلى صحيفة «نيويورك تايمز». والرأي العام قلقَ أيضاً من الفوز السوفياتي وطالب بالمواجهة.
حذّرت الصحف الأميركيّة من تفوّق علمي وعسكري روسي، لكن تقريراً سريّاً لوزير الدفاع الأميركي استخدم المصطلح الذي درج في تقارير الهلع الأميركي عن التفوّق السوفياتي في الفضاء: إن الـ«بريستيج» (أو الهيبة) الأميركي في تناقص حول العالم، وهناك مؤشرات إلى زيادة شعبيّة روسيا في دول الغرب. إن تسلسل محطات تطوّر مشروع غزو القمر يفصح عن النيّات الأميركيّة: يوري غاغارين يصبح أوّل رائد فضاء يطير في مدار الأرض في ١٢ نيسان ١٩٦١. حلّ الذعر في المجتمع والحكومة الأميركيّة. بعد أربعة أسابيع فقط، أطلقت الحكومة الأميركيّة أوّل رائد فضاء أميركي في ٥ أيّار ١٩٦١ لكن الرحلة لم تستغرق إلا ١٥ دقيقة فقط. وفي ٢٥ أيّار ١٩٦١، خطب جون كنيدي في الكونغرس وأعلن نيّة أميركا الهبوط على سطح القمر قبل نهاية العقد. أصبح غزو القمر أولويّة لأميركا. أنفقت على المشروع أكثر من ٢٠ مليار دولار (أو ما يفوق ٢٠٠ مليار دولار بقيمة اليوم) وشغّلت أكثر من ٤٠٠ ألف أميركي وأميركيّة في مشروع الفضاء.
«مشروع الأفق» السرّي كان يهدف إلى إنشاء قاعدة عسكريّة على سطح القمر


وإذا كان الرئيس أيزنهاور قد عيبَ عليه خفوت حماسته في استكشاف الفضاء (وذلك كان ربما بسبب تحذيره من سطوة ونموّ ما أسماه «المجمّع العسكري الصناعي»، في إشارة إلى تقاطع عمل وزارة الدفاع والشركات التي تعمل معها وقطاعات الأبحاث في الجامعات الكبرى) فإن خلفاءه لم يتحفّظوا في دعم غزو الفضاء. وقد كان أيزنهاور على حق لأن مشروع «ناسا» في حد ذاته لم يكن إلا مجمّعاً عسكريّاً صناعيّاً عملاقاً أشرك قطاع الأعمال والجامعات والحكومة على مدى عقود. شاركَت في المشروع (ووفق عقود عمل سريّة، كما العمل في العمل الحكومي العسكري والاستخباراتي السرّي) شركات على مدى البلاد، كما أقسام الفيزياء والهندسة والكيمياء والطب في كبرى جامعات الأبحاث، ووزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات كانت العنصر النافذ في المشروع.
ولم يكن النجاح الأميركي في مشروع الهبوط على القمر حتميّاً. على العكس: كان مفترض أن يسبق الاتحاد السوفياتي الأميركيّين في الوصول إلى القمر. لكن عدة عوامل حسمت السباق لصالح أميركا. ١) كانت إدارة الفضاء السوفياتيّة أكثر ديموقراطيّة من نظيرتها الأميركيّة. إدارة «ناسا» كانت إدارة عسكريّة مركزيّة لا تُردّ قراراتها، فيما تنازعت أجنحة عدّة إدارات الفضاء السوفياتي. ولم تكن القيادة السوفياتيّة تستجيب لطلبات الفذّ، كوروليف، عالم الصواريخ المُبتكِر (راجع الفصل الثاني من كتاب هارفستي وأيسمان، «التناحر الملحمي»). ٢) استثمرت الحكومة الأميركيّة كثيراً في المشروع، بموارد ماليّة وبشريّة هائلة. لم يستمرّ الثبات في دعم استكشاف الفضاء في العهود السوفياتيّة خصوصاً بعد رحيل خروشوف. ٣) الحظ لعبَ دوره: مات عالم الصواريخ الروسي الفذّ سيرجي كوروليف في عام ١٩٦٦. (كانت الحكومة السوفياتيّة تحرص على حياته إلى درجة أنها أخفت اسمه الحقيقي إلى ما بعد وفاته. ٣) المهارة الأميركيّة كمنت في التنظيم والتدريب والإعداد. أذكر عندما قدمتُ إلى أميركا كنتُ أقول للعرب هنا أنني أدركتُ سبب التفوّق الأميركي: إنه يكمن في حسن الإعداد والتدريب والنظرة التفاؤليّة المعزّزة بثقة مفرطة بالقدرات الذاتيّة. قارن ذلك مع هؤلاء الذين استخدموا هزيمة ١٩٦٧ (كأننا أوّل أو آخر شعب يُهزم) للتدليل على تخلّف العنصر العربي — أي اليأس من إمكانيّة النهوض المستقبليّة. ٥) جازفت إدارة «ناسا» بحياة روّادها من أجل سبق الاتحاد السوفياتي. مرحلة تدريب روّاد «أبوللو ١» انتهت في حرقهم في مركبتهم أثناء التدريب. ٥) شخص فيرنر فون براون.

«نيويورك تايمز» في 21 تموز 1969

كان العالم السوفياتي كوروليف أب المشروع الصاروخي الروسي، لكن لم يكن هناك عالم أميركي أباً للمشروع الصاروخي الأميركي. الأب الحقيقي والأبرز كان الألماني فون براون. فون براون كان من مجموعة كبيرة من العلماء والخبراء الألمان النازيّين الذين حصدتهم — وحمتهم —العسكرتاريا والاستخبارات الأميركيّة (والوقاحة كانت أن أجهزة الإعلام الأميركيّة والإسرائيليّة كانت تعترض على وجود بضعة علماء ألمان في مصر فيما كانت أجهزة الاستخبارات والعسكرتاريا الأميركيّة تعجّ بهم). فون براون كان ضابطاً في الـ«إس.إس» وتابعاً لهيملر نفسه، لكن سيرة فون براون تعرّضت لتزوير في فيلم أنتجته شركة «ديزني» عنه بعنوان «أنا أتطلّع نحو النجوم» (فون براون ووالت ديزني تعاونا في إقناع الرأي العام بضرورة تطوير الصواريخ الأميركيّة واستكشاف الفضاء وهزيمة الشيوعيّة (راجع كتاب دونافان المذكور أعلاه). جال فون بروان في أنحاء أميركا ينبّه من خطر «التهديد الأحمر». ونجحت الحملة الدعائيّة وقاد الرأي العام الإدارة نحو المزيد من الإنفاق على البرنامج. كما أن تولّي ليندن جونسون الرئاسة بعد اغتيال كنيدي كان عاملاً مساعداً، وهو الذي كان في الكونغرس من الذين رأوا في غزو الفضاء ضرورة من ضرورات المواجهة مع الشيوعيّة.
لكن القمر في مخيّلة الحكومة الأميركيّة لم يكن مرتعاً للقفز أو الرومانسيّة كما أصبح في صور «أبوللو» (وإن كان الصعود إلى القمر وترك آثار على رماله قد قلّلَ من جدوى القمر كمصدر للإلهام الشعري إذ إنه أصبح أكثر قرباً وأقلّ قابليّة لسيناريوهات خيال (لا) علمي جميلة. منذ إطلاق القمر الصناعي الروسي في عام ١٩٥٧ فكّرت الحكومة الأميركيّة في طرق التخريب على النجاح الروسي (أعلنت جريدة «النهار»، بوق الدعاية الأميركيّة المحموم في الحرب الباردة، في عنوان «الغرب يخسر السباق»، ٦ تشرين أول ١٩٥٧، وتغطية «النهار» كانت حتماً وظيفيّة دعائيّة إذ إنها غطّت فشل «أبوللو ١٣» على الصفحة الأولى هكذا: «بوبي» التي أعادت الروّاد إلى بيوتهم»، في الصفحات الداخليّة تحقيق طويل عن «بوبي الشقراء ذات العينيْن الزرقاويْن»، «النهار»، ١٠ نيسان ١٩٧٠). طوّرت الحكومة —حسب وثائق أُفرجَ عنها في «أرشيف الأمن القومي» — من أساليبها حتى أنها كادت تطلق جهازاً للتخريب على عمل الأقمار الأصطناعيّة لكن رأياً ساد حول مخاطر ذلك على مستقبل الأقمار الصناعيّة برمّتها. الحماس العكسري الأميركي للوصول إلى القمر لم يكن إلا من أجل وضع أسلحة على القمر. و«مشروع الأفق» السرّي كان يهدف إلى إنشاء قاعدة عسكريّة على سطح القمر (تقول مجلّة «نيوزويك» إن الرأي آنذاك أجمع على أن لأوّل دولة تصل إلى القمر حق تملّكه — تعاملت أميركا مع الكون على أنه يخضع لحسابات استعمار الرجل الأبيض على كوكب الأرض. لكن مشروع بناء القواعد العسكريّة كان باهظ الثمن وصُرف النظر عنه.
القيادة العسكريّة آمنت في البداية بنظريّة نقل الحرب بين الجبّارين إلى حلبة الفضاء لتوفير الدمار على الأرض. لكن بعض الخبراء كانوا صريحين في منافع أخرى للمشروع: «لقد خلقنا مغامرة عمليّة... من أجل توفير الوظائف لعلمائنا ومهندسينا... ولمنح التسلية للجماهير... ولها أفضليّة إضافيّة في خلق فرص للصناعة كي نمنع انهيار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي» (أوسكار ريتشافِن، «تأمّلات عن الفضاء»، ص. ٦٣-٦٧). وكان هناك خطة عسكريّة أميركيّة لتفجير قنبلة نوويّة على سطح القمر. فقد اقترح مركز سلاح الجوّ الأميركي في ولاية نيوميكسيكو تفجير قنبلة نوويّة إما قرب أو على القمر. وهدف المشروع إلى دراسة آثار زلازل القمر على زلازل الأرض. وحاجج مشروع التفجير النووي على القمر حسب الوثيقة بأن «النتائج الإيجابيّة المحدّدة ستتراكم للدولة التي تقوم بمثل هذا العمل»، لقدرتها قبل غيرها على إثبات قدرات تكنولوجيّة متطوّرة. لكنها اعترفت بالجوانب السلبيّة للمشروع وتأثيره على الرأي العام العالمي.
طابع أميركي جديد في «الذكرى الـ 50 للهبوط على سطح القمر»

والمراسلات حول البرنامج الفضائي من مكتب جون كنيدي إلى الذين تلوه لم تحاول أن تفسّر سبب غزو القمر، كما يقول دوغلاس برنكلي في كتابه: «الاستهداف الأميركي للقمر»، لكن كانت كل الأسئلة عن الكيفية والمدّة المتوجّبة. والغاية الدعائيّة كانت واضحة منذ البداية حتى في اختيار روّاد الفضاء (اقتبست «ناسا» مصطلح «رائد الفضاء» (استرونوت) من المصطلح الروسي (كوزمونوت) وهي استخدمت مبكّراً للغاية الإعلانيّة. وكان اختيار الروّاد يخضع لفحوصات وتحقيقات طويلة تضمّنت استثناء من هم «بالغو القبح» أو من هم «ذوو تشويهات» واضحة. البرنامج الروسي كان أقلّ زهواً ودعائيّةً، وهذا كان جانب واحد من جوانب فشل الدعاية السياسيّة السوفياتيّة مقارنة بالهوس الأميركي بالدعاية. لكن هذه بلاد الـ«شو بزنس». مَن في الجيل الجديد يذكر اسم أوّل رائد فضاء وهو سوفياتي؟ ومن يذكر أن الاتحاد السوفياتي وصل إلى سطح القمر في مركبة «لونا ١٥» قبل أسابيع من «أبوللو ١١» (لكن المركبة تحطّمت)؟
ولم تكن فذاذة فون براون وحدها وراء نجاح البرنامج الأميركي. فقد سرق البرنامج من البرنامج الروسي، من تقنيّة القمر الاصطناعي (إذ استطاع عملاء المخابرات الأميركيّة تفكيك قمر لمدّة ساعات من دون علم الحكومة الروسيّة) إلى عدد الصواريخ الدافعة، والأهم استخدام جاذبية الأرض لدفع المركبة الفضائيّة كالنبلة. وصاحبَ كل إطلاق للصواريخ الأميركيّة عملاً دعائيّاً كبيراً تطوّعت فيه أجهزة الإعلام الأميركيّة التي لم يقلّ حماسها عن حماس الحكومة في الانتصار على الشيوعيّة في الأرض وفي الفضاء. وساهمت «ناسا» في استخدام الإعلام الأميركي (الذي كان يتلقّى مجاناً ساعات من البث المباشر والمسجّل، وهذا رفع من شأن مذيع الـ«سي.بي.إس» الأبرز في تلك الحقبة، أي والتر كرونكايت) كما الإعلام العالمي، وكانت جريدة «النهار» من وسائل الإعلام العالميّة التي غطّت بكثافة (مجاناً؟) كل إطلاقات صواريخ «أبوللو». وفي رحلة «أبوللو ١١» طار غسان تويني إلى باريس (كي يغطي الحدث من الشاشات الفرنسيّة) واصطحب معه أنسي الحاج. وكان اختيار الحاج موفّقاً لأن بز ألدرن (ثاني رجل يمشي على القمر) طالب في سنواته في «ناسا» أن ترسل الوكالة شاعراً أو فناناً لأن الروّاد كانوا عسكريّين ذوي تخصّصات علميّة هندسيّة ولم يتقنوا فن صناعة الكلمة (وهو فن صعب على المتعلّمين الأميركيّين الذين كثيراً ما يُبهرون بفصاحة وطلاقة البريطانيّين).

«أبوللو 11» والهبوط
وكانت المركبة الفضائيّة «أبوللو ١١» تحمل ثلاثة روّاد فضاء (مَن يذكر عندما حوّرَ أهالي بيروت الظرفاء اسم ميلشيا تمام سلام «روّاد الإصلاح» إلى «روّاد الفضاء» في سنوات الحرب الأهليّة؟). والأشهر فيهم كان طبعاً نيل أرمسترونغ. الثلاثة أتوا من خلفيّة عسكريّة: أرمسترونغ وبَز ألدرِن خدما في سلاح الجوّ الأميركي، واثنان (الدرن والثالث مايكل كولنز) تخرّجا من كليّة ويسبوينت التابعة للجيش. وكان اختيار أرمسترونغ كي يكون أوّل رجل يطأ الأرض اختياراً دقيقاً من الجهات العليا. والقرارات في وكالة «ناسا» كانت عسكريّة الطابع: القيادة تأمر، والروّاد ينفّذون من دون سؤال. شغلَ موضوع مَن سيكون «الرجل الأوّل» بال ألدرِن (الذي كتب أطروحته للدكتوراه في هندسة الطيران في جامعة «إم.آي.تي» عن تلاحم المركبات الفضائيّة) قبل انطلاق المركبة الفضائيّة ووجّه سؤالاً إلى إدارة «ناسا» لحسم الموضوع، وهي فعلت. أرادت في الاختيار رجلاً هادئاً، لا بل انطوائيّاً، يعمل بجد تحت الضغوط وله شخصيّة ذات قابليّة على مستوى عالمي. كان متواضعاً ولم يرتح للشهرة وكان هذا في صالح الدعاية الأميركيّة التي أرادت أن تزهو من دون تبجّح، وأن تفاخر لكن من دون الظهور بالاعتداد، وخدمت شخصيّة أرمسترونغ المشروع (العملي والدعائي).
العقيدة الدينيّة لأرمسترونغ كانت ولا تزال موضع جدال


وشعار «الرحلة ١١» خلا من العلم الأميركي وقد أزعج ذلك كثيرين داخل وخارج الوكالة (خصوصاً في الكونغرس). لكن هناك على الشارة رسماً لا لبسَ فيه لنسرٍ أصلع، وهو الشعار الذي يمثّل أميركا في أميركا. أرادت الوكالة أن تبدو عالميّة في المشروع فيما هي واضحة في رسالتها إلى الشعب الأميركي. لكن موضوع زرع العلم (وهناك نظريّات مؤامرة حول رفرفته المزعومة من قبل المُشكّكين بحدوث الهبوط على القمر) خضع لمشاورات (وفكرة أن الهبوط على القمر كان سينمائيّاً يعود لافتضاح حديث في ولاية نيكسون الأولى طرح فيه إمكانيّة تلفيق سينمائي للهبوط على القمر في حال استحال تحقيق ذلك بالفعل). كان هناك آراء بأن يكون العلم للأمم المتحدة، أو أن تكون هناك أعلام مختلفة، لكن الحكومة حسمت الخلاف وأمرت بزرع علم أميركي (هناك اليوم على سطح القمر ستّة أعلام أميركيّة زُرعت بين سنوات ١٩٦٩ و١٩٧٢ لكن ألوانها تحلّلت بسبب أشعة الشمس). وألدرِن كان يسير بعد عودته من القمر وهو يرتدي قميصاً يذكّر بمشيه على سطح القمر، كما أن عقيدته الدينيّة كان يمكن أن تؤثّر على الرسالة العالميّة التي أرادت أميركا استغلالها في هذه الرحلة. روّاد «أبوللو ٨» مثلاً تناوبوا على قراءة مقاطع من «سفر التكوين». يروي ألدرن في كتابه «الوحشة الرائعة» (والعبارة وردت على لسانه عندما وطأ أرض القمر) كيف أنه أخذ معه أدوات إجراء «تناول قربان» في المركبة الفضائيّة التي حملتهم إلى القمر وكيف أنه مارس شعائر صلاته. يؤكّد ألدرِن أن أرمسترونغ لم يشارك في الصلاة وأنه راقبَ ما يجري بـ«احترام». والعقيدة الدينيّة لأرمسترونغ كانت ولا تزال موضع جدال. فهو وُلدَ مسيحيّاً لكن أمّه تذمّرت من ابتعاده عن الدين. وعلى ورقة انتسابه إلى «ناسا» كتب «لا تفضيلا دينيّاً», وعلى قسيمة مشاركته في تنظيم الكشّافة فيما بعد كتب «دِيست» (تُترجَم على أنها «ربوبيّة» وهي عقيدة الإيمان بالألوهيّة لكن دون الإيمان بدين معيّن أو بكنيسة). لكن مسيحيّين أصرّواً على أنه مسيحي فيما سرت نظريّة انطلقت من أندونسيا تقول إنه سمع الأذان على سطح القمر واعتنق الإسلام على الفور (اضطرّ أرمسترونغ فيما بعد أن يستعين بوزارة الخارجيّة التي عمّمت على سفاراتها وقنصليّاتها حول العالم لنفي الخبر، لكن الإشاعة تعزّزت لأن النفي صدرَ عن منزل أرمسترونغ في بلدة «لبنان» (بعض أسماء البلدات هنا مستوحاة من العهد القديم) في ولاية أوهايو، فظنّ مسلمو آسيا أن الرجل انتقل إلى لبنان ليكون قريباً من جمهور المسلمين). وعبارة أرمسترونغ الشهيرة عندما وطأ القمر («هذه خطوة صغيرة لرجل لكنها قفزة عملاقة للإنسانيّة») خلت على غير عادة الأميركيّة من أي إشارة دينيّة.
انتهى المشروع الفضائي بمجرّد أن انتهت الحرب الباردة. تقلّصت الميزانيّة واضحملّ اهتمام الرأي العام والكونغرس برحلات الفضاء. وسمحت أميركا لروسيا بالتقدّم في استكشاف الفضاء لأن «التناحر الملحمي» (كما يقول عنوان كتاب عن تاريخ المنافسة الفضائيّة بين الجبّاريْن في الحرب الباردة) انتهى لصالح الجبّار الأميركي المُنشغل باستعمار الكرة الأرضيّة هذه الأيّام. قد يكون القمر قد قلَّ سحراً وإبهاراً عمّا كان عليه عندما غنّت له فيروز في الستينيّات «نحنا والقمر جيران»، لكنه يظلّ زائراً ليليّاً يوميّاً في حياة البشر (إلا في تلك المدن التي تغطّي فيها سحب التلوث الفضاء). لكن رواية وصول أميركا إلى القمر تخلو من الرومانسية وهي أقرب إلى سيناريوهات أفلام رعاة البقر.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)