لطالما كانت الصهيونية، شأنها في ذلك شأن جميع المشاريع الاستعمارية الاستيطانية، مهووسة بقضايا العرق. وحيث أنها برزت في أوج عصر الاستعمار الأوروبي وصعود علم الأعراق، فقد سعت إلى الإفادة من الاثنين. وقد أدرك الصهاينة مبكراً أن تقديمهم لمزاعم عرقية أساسيٌ وجوهريٌ لمشروعهم الاستعماري، وهو فهمٌ لم يزل يُلهم ويُملي السياسات الاستعمارية والإسرائيلية إلى اليوم.قام علماء اللغة الأوروبيون في القرن الثامن عشر باختراع تصنيف «الساميّة» لوصف لغات شرق المتوسط والقرن الأفريقي - العربية والعبرية والآرامية والأمهرية وغيرها - لتمييزها عن اللغات الهندوأوروبية الآرية. ومنذ تلك اللحظة دأب المسيحيون الأوروبيون على اعتبار اليهود الأوروبيين، الذين لم يكونوا يتكلمون العبرية، «ساميين»، بناءً على المزاعم الدينية المسيحية واليهودية القائلة بأن اليهود الأوروبيين يتحدّرون من العبرانيين الفلسطينيين القدامى. لكن الغريب في الأمر هو أن أحداً لم يزعم في حينها أو حتى في عصرنا هذا أن المسيحيين الأوروبيين هم أيضاً يتحدرون بدورهم من المسيحيين الفلسطينيين القدامى.
يوم الغفران 1878 - رسم موريسي غوتليب

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية منذ عدة عقود بأن مسيحيي ويهود أوروبا هم من شعوب أوروبا الأصلية الذين اعتنقوا الدينين الفلسطينيَّين، المسيحية واليهودية، وليسوا متحدّرين من معتنقيهما الأوائل، شأنهما في ذلك شأن المسلمين الإندونيسيين أو الصينيين أو البوسنيين اليوم الذين لا يمكن الزعم البتة من أنهم يتحدرون من المسلمين الأوائل من عرب الجزيرة العربية. لكن استمرار الاعتقاد بأن اليهود الأوروبيين أغراب عن أوروبا كان وما يزل ينهل من عمق الفكر العرقي الأوروبي ورسوخه ومن عمق النزعة العنصرية في ثقافة أوروبا، وهو اعتقاد تبنّته الحركة الصهيونية.
منذ نشأة اللاسامية كأيديولوجيا سياسية، تمسّكت بالتصنيف اللغوي للسامية، الذي قام اللاساميون بتحويله إلى تصنيف عرقي. وهو ما أصر عليه النمساوي فيلهلم مار، الذي نحت مصطلح «اللاسامية» في عام ١٨٧٩، زاعماً أن عداء اللاساميين لليهود لا يرتكز على أساس دينهم، وهي الحجة التي كانت معتمدة من قِبَل أعداء اليهود من المسيحيين الأوروبيين قبل ظهور اللاسامية، بل تحديداً على «عرقهم».
قبلت الصهيونية الزعم القائل بأن اليهود يشكلون «عرقاً» منفصلاً عن عرق الأغيار المسيحيين وتبنته كأساس لمشروعها الاستعماري. وكما كان الحال مع المسيحيين الأوروبيين الذين اعتبروا عرقهم «الأرقى» مبرِّراً لاستعمارهم لغير الأوروبيين، استخدم الصهاينة، كأعضاء جدد في نادي المستعمِرين الأوروبيين، حججاً مشابهة لاستعمار أرض الفلسطينيين.
وفي سعيهم لتعزيز المزاعم العرقية الصهيونية، قام علماء يهود صهاينة بإنشاء «منظمة الإحصاءات اليهودية» في برلين في عام ١٩٠٢ لدراسة أسباب «الانحلال» العرقي عند اليهود الأوروبيين ومسائل أخرى ذات صلة. في واقع الأمر، كانت مسألة «الانحلال العرقي» قد برزت قبل ذلك بعقد من الزمن عندما قام ماكس نورداو، الرجل الثاني بعد ثيودور هرتسل في الحركة الصهيونية، باختراع مفهوم «الانحلال» في كتابه الذي روّج للموضوع والذي صدر في عام ١٨٩٢ تحت عنوان «الانحلال» أو Degeneration. وقد أصرّ العلماء الصهاينة على مفهوم «العرق اليهودي»، ومركزية الديموغرافيا اليهودية لبقاء العرق، والصحة الجسمانية ليهود أوروبا، ومعدل الزواج المختلط بغير اليهود، ومعدل الولادة عند اليهود، ناهيك عن معدل هجر اليهودية واعتناق اليهود للدين المسيحي. وقد قام العلماء الصهاينة بتشخيص حالة يهود أوروبا بالـ «انحلال» الذي زعموا بأنه أصابهم نتيجة وجودهم في الشتات. وبالتالي، كان مشروع الصهيونية لإعادة تأهيل «العرق اليهودي» قائماً على إنشاء دولة استعمارية - استيطانية لليهود الأوروبيين في فلسطين. المثير في هذه السجالات العرقية المبكرة داخل الحركة الصهيونية هو أن الصهاينة اعتبروا أن أسباب «انحلال» اليهود لم تكن «عرقية» بل «تاريخية»، وأنه بمقدور الحركة الصهيونية أن توقف هذا الانحلال المزعوم من خلال النشاط الصهيوني الثقافي والاستعماري.
وقد اعتبر الصهاينة أن انخفاض معدل الولادة عند اليهود هو دليلٌ على «الانحلال». فقد عبّر بعض العلماء الصهاينة، بمن فيهم إلياس آورباخ (طبيب) و ج. م. يودت (عالم إناسة) عن شدة قلقهم من مسألة نقاء العرق اليهودي. فقد حاججوا بأن العبرانيين القدامى اختلطوا بغيرهم من الساميين القدامى، ومن بعدهم بقي اليهود الأوروبيون منذ الحروب الصليبية وحتى الثورة الفرنسية أنقياء العرق جرّاء انعزالهم عن المسيحيين الأوروبيين. لكن الأمور اختلفت بعد عصر التنوير الذي هدد النقاء العرقي اليهودي بحسبهم، نتيجة الزواج المختلط الذي أدخل دماءً غير نقية في العرق. لكنهم سارعوا للتوضيح أن المسألة غير مقلقة حيث أن أغلبية الأطفال الناتجين عن الزواج المختلط يبقون لحسن الحظ خارج المجتمع اليهودي، كما هو الوضع في حالة اليهود الذين يهجرون دينهم ويعتنقون المسيحية، وهذا ما حافظ على نقاء العرق في المجتمعات اليهودية في أوروبا. لكن بالمقارنة بهذا الوضع العرقي، فإن الظروف الاجتماعية في الشتات واللاسامية هي ما شكلّت أسباب «الانحلال» الجسماني والنفسي عند اليهود، والتي بخلاف الانحلال العرقي يمكن التغلب عليه من خلال الاستعمار اليهودي لفلسطين، والذي شرعت الحركة الصهيونية في تحقيقه نيابة عن اليهود.
لم نزل نعيش في عصر علم الأعراق والتبريرات الاستعمارية كما كنّا في القرن التاسع عشر


لكن المعضلة التي واجهت الصهاينة هي أنه بعد تأكيدهم على أن اليهود يشكلون عرقاً كان عليهم أن يثبتوا بأنهم متحدرون من العبرانيين القدامى، وهو زعمٌ كان ينافسهم عليه شعب آخر، لا سيما الشعب الفلسطيني الذي سكن فلسطين منذ الأزل.
وكما هو الحال مع جيرانهم المصريين والسوريين والعراقيين، يقال إن الفلسطينيين اختلطوا بالفاتحين العرب المتحدرين من الجزيرة العربية بعد غزوهم المنطقة في القرن السابع. فلا يزعم الصهاينة مثلاً بأن المصريين والسوريين والعراقيين المعاصرين هم حصرياً من سلالة عرب الجزيرة العربية، بل بأنهم الشعوب الأصلية لهذه البلاد التي اختلطت بعرب الجزيرة (وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفاتحين العرب المسلمين لم يستوطنوا هذه المناطق بل أنشأوا معسكرات منفصلة سكنها الجنود المسلمون خارج المدن). لكن، رغم ذلك، يصر الصهاينة على زعمهم الخيالي بأن الفلسطينيين، بخلاف جيرانهم، يتحدرون حصرياً من عرب الحزيرة العربية. وتغدو المزاعم الصهيونية جوهرية في هذا السياق بالتحديد.
وحيث إن المصريين المعاصرين يدّعون بأنهم يتحدرون من المصريين القدامى أو الفراعنة دون إثارة القلاقل، كما يدعي العراقيون المعاصرون أنهم يتحدّرون من البابليين والسومريين وغيرهم ممن استوطن بلاد ما بين النهرين، ويدّعي الأردنيون المعاصرون بأنهم يتحدرون من الأنباط... إلخ، يأتي التهديد من الفلسطينيين الذين يدعون أن العبرانيين القدامى ومعهم كل الشعوب التي سكنت أرض فلسطين في تلك الفترة، لا سيما الكنعانيين والفلسطينيين القدامى Philistines، هم أجدادهم.
والمفارقة هنا تكمن في أن مؤسسي دولة إسرائيل الحديثة، دافيد ين غوريون ويتسحاق بن تسفي (الذي شغل منصب رئيس جمهوية إسرائيل الثاني بعد إقامة الدولة) أصرّا في كتاب نشراه في عام ١٩١٨ بأن الفلاحين الفلسطينيين (الذين كانوا أغلبية الشعب الفلسطيني في تلك الفترة) يتحدورن من العبرانيين القدامى. وقد حافظ الفلاحون الفلسطينيون، بحسب المؤلفين، على تقاليد أجدادهم العبرانيين، لا سيما بحفاظهم على ذات الأسماء القديمة لقُراهم. وبالفعل «رغم الاختلاط الكبير الذي حصل، بقي أغلبية الفلاحين في فلسطين الغربية [أي خارج منطقة شرق الأردن] موحّدين في هيئتهم الخارجية وفي أصولهم، وفي عروقهم تجري الكثير من الدماء اليهودية دون شك، والتي أتتهم من الفلاحين اليهود الذين في سنوات المعاناة والاضطهاد المروّع تخلّوا عن تقاليدهم وشعبهم كي يحافظوا على ارتباطهم وإخلاصهم لأرض اليهود».
أما أن يقوم قادة الحركة الصهيونية بالإقرار بأن الفلسطينيين هم السكان القدامى لهذه الأرض، وبأن أغلبهم قد هجر دينه اليهودي والأديان الأخرى في تلك الفترة واعتنق المسيحية وبعد ذلك اعتنق معظمهم الإسلام، فقد شكّل سابقة خطيرة كان ينبغي أن تُمحى من الذاكرة الرسمية للصهيونية وإسرائيل. وهذا بالفعل ما حصل.
يبدو أن هذه الخلفية هي ما يرعب أيديولوجيي الصهيونية ومزاعمهم العرقية. وقد مثّل التقدم الذي حصل في العقود القليلة الماضية في علم الوراثة والمزاعم الواهية لممتهني هذا العلم التجاريين هدية كبيرة لمروجي العرقية الصهاينة. وحيث إن بحث المشعوذين عن «الجين اليهودي» أصبح الكنز المدفون الذي ينبغي على علماء الأعراق والعلماء العنصريين أن يعثروا عليه، وجد البعض في إسرائيل فيه استخدامات عملية على الفور لزيادة عدد اليهود على مستوى العالم، وبالتالي زيادة عدد من تقول الصهيونية بأنهم يمتلكون حقاً استعمارياً للاستيلاء على أرض الفلسطينيين. وقد قام منذ عامين بعض الخبراء الإسرائيليين في علم الجينات و«الهلخه» (أو الشريعة اليهودية) «بدراسة ما يدعونه بالـ «الجين اليهودي»» زاعمين «أن هذا الجين سيساعد في إثبات يهودية الأشخاص بحسب الشرع اليهودي»، وهو ما سيجنّب من لا يستطيع إقناع الحاخامات بيهوديته ضرورة خوض العملية والطقوس الشاقة لاعتناق الدين اليهودي.
وتماشياً مع علم الوراثة هذا المليء بالدجل، قفز بنيامين نتنياهو ابتهاجاً جراء استنتاجات علماء الوراثة والآثار الذين اكتشفوا مؤخرّاً بعض الهياكل العظمية للفلسطينيين القدامى والتي قالوا إن علاماتها الجينية تؤشر إلى أنهم قد أتوا أصلاً من جنوب أوروبا، وهو ما أثبت للعرقيّين الصهاينة بأن ليس للفلسطينيين المعاصرين (الذين يعتبرونهم أحفاد عرب الجزيرة العربية) أي صلة بالفلسطينيين القدامى وبالتالي لا يمتلكون أي حق في وطنهم.
إن الحجج التي تقدمها الصهيونية ذات شقين: الزعم الصهيوني الأول الذي يقدّم بلا سند هو أن الأوروبيين الذين اعتنقوا الدين اليهودي وأحفادهم هم الفلسطينيون الأصليون الحقيقيون والذين غابوا عن البلاد لمدة ألفي سنة لكنهم ما زالوا يمتلكون «حق» العودة إلى وطنهم القديم والاستيلاء عليه وطرد سكانه منه؛ أما الزعم الثاني والمكمّل للأول فهو أن الشعب الفلسطيني الأصلي هم الغرباء عن هذه الأرض وبأنهم هم، وليس اليهود الأوروبيون، من يتحدرون من أصول خارج فلسطين. وبخلاف اليهود الأوروبيين الذين يستطيعون الحفاظ بعد ألفي عام من وجودهم في أوروبا على «حق العودة» إلى أرض آسيوية لم يأتوا منها، فإن ليس للفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل من وطنهم في عام ١٩٤٨ وما بعد الحق في العودة إلى ديارهم بعد سبعة عقود فقط من نفيهم عنها. فما يجعل هذه الحجة الإسرائيلية العنصرية مقبولة لدى أغلب البيض الأميركيين والأوروبيين هي العرقية التي تشكّل مرساتَها منذ القرن التاسع عشر.
لم نزل نعيش في عصر علم الأعراق والتبريرات الاستعمارية كما كنّا في القرن التاسع عشر. وتكمن المفارقة هنا في أن مناصري إسرائيل والصهيونية الليبراليين والمحافظين الأوروبيين والأميركيين، من اليهود والمسيحيين الأغيار على حد سواء، لا يجدون ما يبغضونه في هذا الالتزام الصهيوني بالاثنين والإصرار عليهما.
* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، صدر له حديثاً كتاب «الإسلام في الليبرالية» عن جداول للنشر، بيروت (٢٠١٨) وكتاب «آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن» عن دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩)