«الماء سرّ الحياة»، هي فكرة واسعة القبول. «غوغل» مثلاً يخبرك أنها وردت، بالتاء المربوطة وبالهاء في آخرها، نحو نصف مليون مرة. طاليس، أحد منابع الفلسفة اليونانية، لم يعتبر الماء سراً فحسب، بل أساس كل الوجود. بعد نحو 2500 عام سيقول فريدريك نيتشه إن طاليس ورفاقه أطلقوا الفلسفة لأنهم بدأوا يتجاوزون الأسطورة وسيلةً للفهم، وصاروا يبحثون عن مكوّن الأشياء الطبيعي، وعن مكوّنها الأساس بالذات. برتراند راسل سيذهب أعمق لتفسير تقديره بأن الفلسفة والعلم يبدآن بطاليس، انطلاقاً من أن «الفلسفة تبدأ حين يطرح المرء سؤالاً عاماً، وعلى النحو ذاته يبدأ العلم». الآن، بنقلة هائلة من هذه المواضيع الأخّاذة المثرية للعقل والفضول المعرفي ولذّة الكشف، نهبط في كنيست إسرائيل... رئيس البرلمان الأوروبي يلقي خطاباً. يمتدح إسرائيل ويستنكر المقاطعة. لكنه يرتكب خطيئة الخطايا حين يقول وسط خطاب الرياء شيئاً من الحقيقة: «الفلسطيني يستهلك سبعة عشر ليتراً من الماء، في مقابل سبعين لتراً يستهلكها الإسرائيلي».
الوزير نفتالي بينيت وزملاؤه يغادرون الكنيست احتجاجاً، ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يطالب ضيفه الأوروبي بالاعتذار.
الماء، في إسرائيل الرسمية، ليس سرّ الحياة، بل سرّ النفاق، سر الغطرسة، سر الصلافة المُغثية.
لا تحتل إسرائيل وجه أرض الضفة الغربية فقط، ولم تحتل وجه جنوب لبنان فحسْب (ويسعدها أن تعود). لم تنهب الأرض لإقامة شبكة الاستيطان والجدران والشوارع الالتفافية وشوارع الأبرتهايد والمنشآت العسكرية والحواجز ونقاط المراقبة والملاحقة والضّبط وتقييد الحريّة والسيادة والتحرّك والتطوّر الفلسطيني، فقط. هناك الاحتلال العميق. لما هو تحت الأرض.
الوزير المتذاكي فوق المُحتمَل بينيت، هل تعرف عدد الينابيع التي احتلها إخوتك المستوطنون بأنفسهم في أرجاء الضفة الغربية؟ يقول «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة» (تقرير، آذار 2012) إنه تمت السيطرة كلياً أو جزئياً – بمعنى منع اقتراب الفلسطينيين منها – على 77 نبعاً في محيط المستعمرات. «خاوَه».
لكشف الاحتلال العميق، يقول التقرير نفسه: «بينما يقدّر العدد الإجمالي للينابيع في الضفة الغربية بـ 530، إلا أن ما تدرّه من المياه شهد تراجعاً دراماتيكياً في العقود الأخيرة، حيث لا يتدفق إلا في أقل من نحو 20% منها قدرٌ يعتدّ به من المياه».
كذلك: لم يبلغ في عام 2009 مردود ما تدرّه تلك الينابيع في الضفة الغربية من المياه، سوى نصف المردود على مدار ست سنوات سبقت هذا التاريخ (2003). فأين ذهبت المياه؟
تفسّر المنظمة الدولية الأسباب، إلى جانب انخفاض معدّل سقوط الأمطار، بالقول: «لقد فاقم ذلك عمليات إسرائيل الزائدة على الحد في استخراج المياه (يزيد معدل الاستخراج، مثلاً، على الاحتمالات المقدّرة لإعادة ملء الأحواض الجوفية بصورة طبيعية) من الآبار الواقعة في الضفة الغربية وإسرائيل».
هناك تعليقان على هذه الفقرة الأخيرة. الأوّل أن مئات ومئات ينابيع بلادنا قد جفّت أو شحّت بسبب الاستخراج الزائد للمياه الجوفية، دون مراعاة لموازين الطبيعة والبيئة الدقيقة. ليس في هذا استثناء لدى مؤسسات الاستعمار قياساً بكل علاقاتها مع الأرض وخيراتها. لا يوجد لديها أسهل من تدمير قامة جبل وتجريف زرع وبَقر بطن هضبة خدمةً للسيطرة الاستحواذية. هكذا هو الأمر أيضاً تحت الأرض.
التعليق الثاني، أن «استخراج المياه من الآبار الواقعة في الضفة الغربية» معناه واحد ووحيد: إسرائيل تسرق المياه من الفلسطينيين. تنتهك القانون الدولي الذي يحظر بشكل قاطع استغلال قوة الاحتلال للموارد الطبيعية على الأراضي التي تحتلها. إسرائيل لا تستغلّ الماء فقط، بل تميّز ضد أصحابه في الاستفادة منه. جريمتا حرب اثنتان، بضربة واحدة.
في أحد تقارير منظمة «بتسليم» الإسرائيلية لحقوق الإنسان (تموز 2008) جاء أن الفلسطيني يستهلك من الماء سُدس ما يستهلكه الإسرائيلي. إسرائيل تسيطر على 80% من مخزون المياه في الضفة الغربية، وتُبقي 20% فقط للفلسطينيّين. وهناك 218 قرية فلسطينية يعيش فيها 197000 إنسان غير مرتبطين بشبكة مياه.
وإلى إحدى القضايا الملتهبة في المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية الراهنة: هناك معطيات هامة تخصّ منطقة الغور الفلسطيني. إسرائيل تحاول مواصلة احتلاله، بطرق مباشرة و/ أو ملتوية. منظمة «بتسيلم» قالت في تقرير لها (أيار 2011) إن إسرائيل تستغل بنحو ممنهج موارد المياه في الغور على حساب الفلسطينيين «بشكل أكبر من أي مكان آخر في الضفة الغربية».
وفقاً للتقرير نفسه، إنّ نحو 9400 مستوطن في الغور استطاعوا تطوير زراعة مكثفة من خلال الحصول على ثلث الموارد المائية التي يفترض أن تُخصّص لـ2,5 مليون فلسطيني يعيشون في المنطقة. وقدّرت المنظمة حينذاك أن هذا «يكشف في الواقع نيتها في ضم هذه المنطقة». اليوم نرى الأمر بوضوح على الأرض.
هكذا بالضبط نصل إلى وضع فيه «الفلسطيني يستهلك سبعة عشر ليتراً من الماء، في مقابل سبعين ليتراً يستهلكها الإسرائيلي». لكن في برلمان واحة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، من المحظور طبعاً قول أية حقيقة في حضرة نظام قام ويقوم على جرائم النهب وتشويه وقائع الجرائم على الأرض.
أخيراً: عذراً من العظماء طاليس، نيتشه وراسل، على إقحام أسمائهم وإبداعهم الفكري في مستنقع الاحتلال الإسرائيلي.
* كاتب فلسطيني