(بمثابة دعوة متواضعة لمثقفي العالم العربي وأصدقاء العرب لتجديد النهضة العربية)
بعد عقود من التخبّط الذي تلا هزيمة 1967، وبعدما ظن الكثيرون أنّ العروبة المتنوّرة العلمانية التي نشأت من رحم عصر النهضة العربية قد انكسرت، وأنّ الوقت قد حان ليحكم الإسلاميون، ثمّة تباشير عديدة في أكثر من بلد عربي أنّ النهضة لم تنته، ودلائل كثيرة على أنّ ثورة حقيقية وشابة هي في طور الحراك.
لن ننسى صيحة إبراهيم اليازجي «تنبّهوا واستفيقوا أيها العرب» في القرن التاسع عشر، ولا صرخة أبو القاسم الشابي «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر»، ولا نداء جمال عبد الناصر «ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد».

الدول العربية ذات النظام الجمهوري (العراق وسورية ولبنان ومصر وتونس والجزائر) هي اليوم في مواجهة متعددة الأوجه عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية، ضد الجماعات التكفيرية. في كل من هذه البلدان يقف الجيش والطاقات الشعبية التي تعتنق الحداثة والحياة المدنية في وجه عدو، هو الجماعات المسلّحة التي تريد العودة إلى عصور الظلمات. هذا العدو لا أفق له سوى التخريب والتدمير، وبعيد كل البعد عن العصر الذهبي للعرب قبل قرون يوم كانت بغداد منارة العالم وبيت الحكمة سيّد المعارف.
الدول الملكية والأميرية العربية ومنذ بداية القرن العشرين لا تزال تعيش في زمن ما قبل الحداثة ترتدي من العصرنة قشرتها المادية من أجهزة اتصال وبنى تحتية وناطحات سحاب وسلع استهلاكية، ولكنّها تحرّم الأحزاب الحديثة وتضطهد الرأي وتقمع المرأة وترفض أي تطوير لأنظمتها السياسية وجسمها القضائي. هي اليوم تدعم تسليح وتمويل الجماعات المسلّحة التكفيرية في العالم العربي بعدما دعمتها في أفغانستان والباكستان، وبعدما فشلت خلال خمسين عاماً في القضاء على حداثوية الدول الجمهورية العربية.
محصلة أحداث العالم العربي منذ خريف 2010 وحتى مطلع 2014 تبيّن أنّ هذه الدول الملكية والأميرية تدور في حلقة مفرغة، وقد اكتسبت الكثير من الأعداء، وباتت شعوبها تسأل عن المصير. أمّا في الدول الجمهورية، وخاصة مصر وتونس ولبنان وسوريا، فكفّة الميزان هي للمدنية وليست مطلقاً لمصلحة التكفيريين وحَمَلة السواطير. وكما برهنت وتبرهن الأحداث، فشعوب هذه الجمهوريات لا تلين ولا تهاب التفجيرات وأعمال العنف، بشهادة أبناء بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وتونس.
في مطلع 2014 لا بد من تصويب البوصلة نحو تجديد الدماء الزكية في شرايين النهضة التنويرية التي بدأها الأجداد في لبنان وسورية ومصر منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ولا يكفي خروج جماعات الظلام الديني من السلطة في مصر وتونس وغيرها، بل يجب رفض حكم العسكر والتعسّف والهرطقات الدستورية، ومقاومة الطبقات الفاسدة والنفعية حتى تزول.
لقد خسرت القوى النهضوية الصدارة السياسية بعد 1967، ولكن هذا لا يعني مطلقاً أنّ النهضة قد انكفأت، بل ومنذ البدء كانت النهضة متعدّدة الوجوه السياسية والثقافية والأدبية والموسيقية والسينمائية والمسرحية والنسائية. وكل ما حصل في منتصف الستينيات أنّ عنصراً فحسب هو الذي انكفأ (السياسي) وباقي العناصر صامدة.
ولذلك فمن الثقافة يجب البدء بالعمل لتصويب بوصلة النهضة. وهذا يعني التزام المبادئ الستة الآتية:
أولاً، قضية المرأة: ويأتي هذا المبدأ في المرتبة الأولى لأنّه يعني نصف المجتمع. فلا معنى لأي حريّة وتنوير من دون تحرير المرأة العربية، وخاصة أنّ أحداث الأعوام الثلاثة الماضية كشفت أنّ إعادة المرأة إلى «بيت الطاعة» كانت من «بواكير» أعمال الإسلام السياسي في ليبيا ومصر وفي أماكن سيطرت عليها هذه الجماعات في سورية والعراق.
ثانياً، القضية الفلسطينية: في أوج النهضة العربية – أي من الأربعينيات وحتى السبعينيات من القرن العشرين – كانت القضية الفلسطينية عنصراً ملازماً وبوصلة المثقفين والتنويريين، ذلك أنّها شكّلت التحدّي الحضاري والتكنولوجي والتنموي لنهضة العرب ويجب أن تستمّر في قلب العمل العربي.
ثالثاً، قضية الفقراء والمضطهدين: هناك بون شاسع بين إمكانات الدول العربية المادية والعلمية والاستراتيجية وثرواتها الاقتصادية، وبين نسبة الفقر والتخلّف والحرمان. والحقيقة أنّ إفقار الشعب في العالم العربي مصدره الرئيسي تحالف القوى الحاكمة مع النيوليبرالية العالمية ورفضها تقديم الخدمات وبرامج الرعاية.
رابعاً، قضية العلمنة والحداثة: من البديهي أنّ العلمنة والحداثة هي في صلب الحركة التنويرية والنهضوية في العالم، وهي ما جعل الأمم الناهضة في أوروبا تتقدّم وتتطوّر وتخلق المجتمعات العصرية. ولكن العلمنة والحداثة لا تنمو إلا في نظام ديموقراطي برلماني ولا تُفرض عسكريّاً كما كان واقع الحال في بعض الجمهوريات العربية. وبديهي أن يكون النهضوي العربي صديقاً لزميله الأوروبي الذي يلتزم مبادئ التنوير ويحترم قضايا التحرّر العربي، لأن النهضة العربية شقيقة النهضة الأوروبية، ولا مكان للعداء.
خامساً، قضية الأقليات الدينية والعرقية: في كل بلدٍ عربي تقريباً ثمّة أقليات دينية وعرقية إثنية يحق لها أن تعيش في ظل قوانين ودساتير تحترم شعائرها وعاداتها ووضعها الاجتماعي، وضمن نظام سياسي مدني يعترف بالتنوّع. فهناك مسيحيون في سوريا ولبنان والعراق ومصر والسودان وبلدانٍ عربية أخرى، وأقليات إسلامية ليست على مذهب الأكثيرة في أكثر من بلد عربي، وأقليات دينية أخرى. وهناك أكراد وأرمن في سوريا والعراق ولبنان، وبربر في شمال أفريقيا، الخ. واحترام الأقليات يحتاج إلى إطار ديموقراطي برلماني منفتح وليس لطبخة رجعية على طريقة النظام الطائفي اللبناني.
سادساً، قضية مواجهة الاستعمار الجديد: النيوليبرالية الاقتصادية هي اليوم أقوى من أي فترة استعمارية سابقة ولا تريد فقط مشاركة النخب المحلية في نهب ثروات الشعوب، بل أن تكون هي صاحبة الأمر. وعلى النهضويين التنويريين أن يتصدّوا لهذا الاستعمار الجديد ولا يشاركوا في الترويج لأتباعه المحليين مهما كانت الإغراءات.
على كل مثقف عربي في الدول العربية الـ22 أن يتفكّر في هذه المبادئ ويراجع نفسه كل يوم حول مدى التزامه بها. فهي تشكّل وحدة عضوية لا تقبل أن يلتزم المرء قضية فلسطين دون أن يلتزم الحداثة العلمانية المدنية، أو أن يتبنّى قضية الفقراء والمضطهدين في المجتمع ولا يقبل بتحرير المرأة، أو أن يكون طائفياً وعنصرياً ويعتقد أنّه متنوّر.
تجديد النهضة العربية يحتاج إلى رفض التيارات الدينية كلّها بصرف النظر عن موقفها من القضايا الستّ المطروحة أعلاه. فهي تيارات رجعية بطبيعتها، متقوقعة ترفض الآخر وتريد أن تفرض مجتمعاً تبتدعه على البلاد. وهذه التيارات بصرف النظر عن المذهب الذي تنتمي إليه، تُعلن خصوصية الإسلام (spécificité de l’Islam)، بمعنى أنّ الاسلام لا يعرف الفصل بين الدين والدولة، أو أكثر تحديداً أنّ الإسلام دين ودولة، ولا فرق بين الدين والسياسة. والمقصود أنّ الإسلام مميّز عن المسيحية، فلا يجوز التعاطي معه كما تعاطت الدول الأوروبية التي أصبحت علمانية منذ قرون. لكن هذا الادعاء بالخصوصية منقول حرفيّاً عن الادعاء الذي أعلنته القوى الرجعية الأوروبية في مطلع القرن التاسع عشر كردّة على الثورة الفرنسية (راجع ادعاءات دوبونيل ودي ميتر)، فقام رجعيون يصفون ثورة فرنسا وعصر الأنوار في أوروبا بأنها حركات كافرة ضربت المسيحية في أوروبا وأن العلمانية هي فكر مشين؛ لأنّ المسيحية هي أصل ثقافة الغرب وهي ديانته وسياسته ويجب العودة إلى التراث. وهو ما تسعى إليه القوى الرجعية في المجتمعات العربية منذ 1924 عن ضرورة العودة إلى التراث والعيش في الماضي.
إنّ تيارات الإسلام السياسي على أنواعها تمارس «نضالها» على المستوى «الثقافي». وهو نضال ضحل لا يعدو كونه توكيد الانتماء إلى ديانة معينة، لا بل إلى مذهب بعينه، ورفضهم نقاش الدوغما الدينية، وصولاً إلى تكفير الآخر وتحليل قتله. وبديهي أنّ منتهى القالب الذي تدور فيه هذه التيارات هو العضوية في الجماعة وممارسة الشعائر، فيكون هذان هما النشاطين الرئيسيين والحصريين في المجتمع المنغلق، وهو انفصال نهائي ومرعب عن الحداثة ويفضح فراغاً مقلقاً في الفكر الظلامي، ويخلق ثغرة قاتلة تمر منها الاستراتيجية الاستعمارية، فتبرّر للغرب تصنيف الشعوب تحت مسميّات الصراع الوهمي بين الإسلام والغرب المسيحي، بينما الحرب الحقيقية تدور على الثروات الاقتصادية وتوسّع النيوليبرالية العالمية.
كذلك إنّ معظم هذه التيارات العنفية لا يمثّل فعلاً حقيقيّاً في النضال ضد الصهيونية ولا تظهر فلسطين على راداره، بل جل همّه القضاء على الدول ذات النظام الجمهوري. وهو يمارس اضطهاد المرأة ويتحالف مع الإقطاع الاقتصادي المحلي الخادم المطيع للنيوليبرالية الغربية في كافة البلدان ضد حقوق الفقراء والطبقة الوسطى، ويقتل من ليس على دينه ويفرض ثقافته على الأقليات.
إنّ مشروع النهضة العربية هو الباقي وهو المستمرّ منذ بداية القرن العشرين وسينتصر في مطلع القرن الحادي والعشرين، ورجعة النفط وقوى الظلام التكفيرية إلى زوال.
* أستاذ جامعي ـ كندا