(أُلقيت هذه الكلمة في دار الندوة بمناسبة تكريم الأمناء على العهد القومي في 29 تموز 2019)نعيش هذا المساء لحظة فارقة. فمن جهة نحيي ذكرى ثورة 23 يوليو المجيدة التي تأخذ في هذه الظروف أبعاداً تفرض المقارنة مع زمن التطبيع والهرولة تجاه العدو الصهيوني وإضاعة البوصلة في مواجهة تحدّيات الأمة. كما أننا نحيي، وهذه ليست صدفة، من كان وما زال أمينا على العهد القومي ولم يبدّل تبديلاً.
فشرف كبير لي ومهمة شبه مستحيلة في آن واحد التكلم بإنصاف في بضع دقائق عن أحد أعلام النهضة العربية المعاصرة: الدكتور جورج قرم. وبالفعل هو أحد أعلام هذه الأمة، صاحب 21 مؤلّفاً أساساً باللغة الفرنسية تمّت ترجمتها إلى العربية وعدد من اللغات الأخرى (17 لغة!) كالإنكليزية والإيطالية والرومانية على سبيل المثال. أما مقالاته ومحاضراته في قضايا الأمة ولبنان فهي لا تحصى. كما لا تحصى المحافل الدولية التي اعتلاها، كالاتحاد الأوروبي ومجلس الشيوخ الفرنسي وجامعات أميركية وفرنسية وسويسرية وبلجيكية، وإسبانية، والبنك الدولي، فضلاً عن منابر في عدد من العواصم والمدن العربية، كالقاهرة والجزائر على سبيل المثال وليس الحصر، والتي رفع فيها شأن لبنان والعرب.
فماذا يمكنني أن أقول عن رفيق الدرب الطويل في نهضة أمتنا؟ ماذا يمكن القول عن أخ عزيز جدّاً والأمين الوفيّ لوطنه ولأمته؟ ماذا أقول عن المفكّر والجامعي الذي ما زال يحاضر في عقول الشباب في لبنان وغير لبنان حيث أصبحت مؤلفاته من أهم المراجع عن لبنان والوطن العربي؟ ماذا أقول عن المستشار الاقتصادي الذي لجأ إليه عدد من الحكومات العربية والمؤسسات الدولية كالبنك الدولي والأمم المتحدة؟ كل واحد منها يستحق أكثر من محاضرة لكشف بعد وعمق تفكيره في الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع، والثقافة؟
عرفته على مدى خمسة عقود تقريباً حين التقيت به في أروقة شركة «انترا» في مطلع 1971. كنت قد قرأت له أوّل كتاب صدر له عن التخطيط في لبنان في حقبة الرئيس الراحل فؤاد شهاب. وكان قد انتهى من مرافعة أطروحته الدكتوراه حول المجتمعات الطائفية. رأيت آنذاك الشاب الهادئ الذي كان ينظر إلى قضايا الوطن من منظور لم أكن أتصوّره ذلك الحين. في ما بعد واكبت مقالات "أحمد مارون"، اسمه المستعار المناهض للطائفية، حول الإصلاح في لبنان خارج عن الإطار الطائفي.
ومع الوقت تطوّرت وتوثقت العلاقة، فأصبحنا نواكب معاً مختلف المحطات التي حددت مسيرة الوطن والأمة. فكنا نوعاً من الصدى للآخر وخشبة الرنين لأفكارنا بعضنا لبعض، إذا جاز الكلام ((sounding board! فالمسيرة التي اشتركنا فيها، كانت وما زالت، لدرء الظلم ولنصرة المستضعفين وسائر المحرومين والملعونين في الأرض (les damnés de la terre).
أفتخر بأنني أتكلّم عن صديق ومناضل عزيز كشف في فكره وعبر مؤلفاته ومحاضراته ومواقفه عن إبداع والتزام وصدق ومناقبية قليلاً ما شهدناها عند كثير من المفكرين العرب واللبنانيين خلال العقود الماضية. والصداقة التي تربطني به تجعل شهادتي به «مجروحة» كما نقول بالعامية. وأعتقد أنه بسبب هذه العلاقة التي قفزت فوق القارات التي فرقتنا جغرافياً بسبب الظروف التي مرّ بها الوطن جعلتني من القليلين (إن لم أكن الوحيد!) بعد زوجته هالا وحتى قبل الناشرين، من الذين قرأوا جورج قرم عندما كانت مؤلفاته مخطوطات على الآلة الكاتبة قبل ظهور الحاسوب. وما زلت محتفظاً ببعض المخطوطات على ورق الكاربون التي أرسلها إليّ للتعليق عليها، وخاصة تلك المتعلّقة بمؤلفه المفصلي عن الشرق الأوسط «انفجار شرق الأوسط».
ولهذه المسيرة التي سلكها أخي جورج قرم، أبو منير وثريا وعلياء، عدة أوجه استدعت مختلف طاقاته واهتماماته. فالاقتصادي فيه تلاحم مع السياسي والاجتماعي والثقافي، حيث أصبحت تلك الميادين ساحات للتصدي لمختلف الطروحات التي حاول تحالف الاستعمار و/أو الامبريالية (لكل حقبة تاريخية مصطلحها) والصهيونية والرجعية العربية و/أو أنظمة الاستبداد تسويقها وفرضها على النخب والعقول، فضلاً عمّا حيك من مؤامرات على لبنان لتمزيقه وجعله فريسة للمطامع الخارجية المتحالفة مع امتداداتها الداخلية.
وهكذا كان، غير أن تلك المسيرة الغنية في الإنتاج لا يمكن أن تغيّب وجهاً آخر متلازماً مع مقتضياتها. فتعدُّد أوجه ذلك الإنتاج رافقته اهتمامات نادراً ما عبّر عنها وأشهرها. فحبّه للموسيقى عامة، وللموسيقى الكلاسيكية خاصة، جعل منه عازفاً ماهراً على البيانو بمستوى العازفين المحترفين، كذلك فإنه ترعرع في بيت ومن أسرة كان همّها الثقافة والفن، وخاصة الرسم والأدب. فلوحات والده كانت مدخلاً للجمالية التي ما زالت ترافقه في نظرته إلى العالم. وفي رأيي، قد يصعب على المرء معرفة دوافع جورج قرم إن لم يُلق النظر إلى لوحات أبيه، وما رافقه من حب للحياة وتمسّك بالتراث والوطن.
الفن بتشكيلاته المرسومة والمسموعة كافة مفتاح لقراءته عن الغرب. ففي أحد مؤلفاته («أسطورة الغرب») يعود قرم إلى البحث بعمق أكبر في بعض المفاهيم التي حلّلها في كتابيه السابقين: «شرق غرب: الانشطار الوهمي»، و«المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين». غير أن ما لفت نظري في ذلك الكتاب («أسطورة الغرب») الفصل الرابع الذي حلّق فيه بشكل لا مثيل له. فعنوان الفصل مثير للغاية: من موزار إلى هتلر، ماذا حدث؟ والسؤال على مثال سؤال برنارد لويس عن العالم الإسلامي: ماذا حصل خطاء؟ يقرن الإنتاج الموسيقي والقضايا الفكرية والسياسية والثقافية التي أنجزها الغرب. فالموسيقى الكلاسيكية الغربية التي يعشقها قرم هي من أروع الإنجازات لأوروبا في القرن الثامن والتاسع عشر. ويسرد قرم ببراعة هائلة ورقّة ملفتة في الوصف الموسيقي للمؤلفات المفصلية في الموسيقى الكلاسيكية. أدعوكم إلى قراءة ما يقوله عن موزار ووصف سيرته الذاتية التي عكست مآسي المجتمع آنذاك، كما وصف العمل الأوبري الكبير «النيّ المسحور» (La Flûte Enchantée). في تلك الصفحات الرائعة من الناحية الأدبية ومن الناحية التحليلية الثقافية السياسية يربط قرم معالم الموسيقى الكلاسيكية مع التطوّرات الفكرية والسياسية. هذه القراءة المبدعة لتراث الغرب الموسيقي تؤكد ما بدأت به في هذه المداخلة عن الصفة النهضوية لجورج قرم، التي أدعوكم إلى اكتشافها مجدداً في مؤلفاته.
ويمكنني الاسترسال في ذلك الشأن، غير أن النقطة الأساسية التي أريد أن أؤكدها هي الشخصية النهضوية لجورج قرم. أستذكر دائماً عندما أقرأه أو أتحدّث معه تلك الشخصيات العالمة التي نوّرت ثقافتنا العربية، خاصة من العلماء والفقهاء والفلاسفة، كما أنه لا يمكن فصله عن التراث النهضوي الأوروبي والشخصيات الإنسانية (humanistes) التي أسهمت في ترويج تلك النهضة. فكيفما نظرت إلى جورج قرم لا يمكنك إلا أن تستذكر فكرة النهضة والإنسانية.
وبالفعل، فإن إنتاج جورج قرم الفكري يشكّل لبنات عديدة في النهضة العربية الثانية التي نعيشها اليوم رغم كل المآسي (والعابرة) التي تحيط بنا. فلا يمكنني أن أتصوّر أعماله إلا من منظور النهضة العربية التي بدأت في الربع الأول من القرن التاسع عشر. فكما اكتشف العرب والمسلمون الغرب مع رحلة الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى باريس في منتصف العقد الثاني من ذلك القرن، فإن أعمال جورج قرم ليست إلا تقييماً لذلك الغرب الذي أثّر على عقول روّاد النهضة العربية الأولى وفيها. فالغرب من وجهة نظر أولئك العمالقة مفتاح التقدّم والإنسانية، إلاّ أنهم لم ينسوا ثقافتهم وتراثهم. ولكن في المقابل، هناك أشباه المثقفين والمنتحلين الصفة الذين خلطوا بين النقد الذاتي وجلد الذات وما يرافق ذلك من تنكّر لثقافتنا العظيمة. ولكن هذا حديث آخر لا يسعني التحدّث عنه اليوم، غير أن ذلك الغرب لا يخلو من عيوب ونواقص قاتلة، وخاصة تلك الصادرات الفكرية والثقافية لعالمنا التي شوّهت معالم حضارتنا والتي تستدعي التوقف عندها ومراجعتها.
وهنا قيمة أعمال جورج قرم أو بالنسبة إلي المنطلق لما أعتبره قيمته المضافة للفكر العالمي والعربي. نعم، إن إضافات جورج قرم تفوق المحيط اللبناني أو العربي، لأنها تلقي نظرة جديدة على ذلك الغرب. ويمكنني القول إن السمة الأساسية لأعماله تشكّل مدرسة فكرية جديدة وفريدة من نوعها، ألا وهي مدرسة الاستغراب أو التغريب (occidentalisme) أو تفكيك العقل الغربي على غرار ما قام به المستشرقون لوطننا وثقافتنا. أعتقد أن جورج قرم هو من الأوائل إن لم يكن الأوّل في لبنان وفي الوطن العربي من الذين يفككون الغرب من منظور مزدوج، عربي وغربي في آن واحد.
إن الاستغراب في فكر جورج قرم نابع من قراءاته للمستشرقين بشكل عام، وأولئك الذين أرسوا القواعد الفكرية والثقافية للاستعمار في القرن التاسع، وحتى في القرن العشرين. فإرهاصات المستشرقين كانت في ترويج فكرة الآخر وفكرة الهوية الناتجة عنها. وجورج قرم كتب الكثير عن مسألة الهوية وثقافتها القاتلة والمدمرة، خاصة في مجتمع كالمجتمع اللبناني وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. وبالتالي، كان من الطبيعي أن يبحث عن جذور تلك الفكرة وكيف توغّلت في الفكر الغربي وما آلت إليها في الثقافة التي أوردتها للعالم.
لا يمكنني أن استرسل في فكر صديقي جورج قرم في هذه المناسبة التكريمية له وفي الدقائق المحدّدة دون أشير إلى تجربته القاسية في كنف الدولة عندما تحمّل مسؤولية وزارة المالية. وما شهدناه مؤخّرا من سجالات حول الموازنة ليست إلاّ صورة مصغّرة عن الصعوبات والعراقيل التي واجهها من قبل طبقة سياسية فاسدة لا تريد بناء الدولة وتآمرت على كل من حاول التغيير. لم يكن ولن يكون الوحيد في محاولات التغيير في لبنان ما يجعلنا أن نسأل إذا كان الدكتور قرم يستحق لبنان، فهل لبنان بتركيبته الحالية يستحقّه؟ الشعب وقواه الحيّة يقولون نعم وبدون تحفّظ بينما النخب السياسية الحاكمة أو تلك الطامحة للحكم فهي بانتظار مكانها في مزبلة التاريخ بينما أخي جورج سيكون في منصّاته العالية.

*اقتصادي وخبير سابق في البنك الدولي وأمين عام «القوميين العرب» السابق