في زمن ما بعد العولمة ونشوء محاور دولية وازنة في السياسات العالمية، أصبح للتكتلات الإقليمية دور وفعالية. فأين نحن منها في الشرق؟تواجه منطقة المشرق الأوسع التي تضم العالم العربي وإيران وتركيا تحديات استراتيجية مستقبلية منها:
1- مشروع انسحاب أميركي تدريجي من الشرق الأوسط للتفرغ للهموم القادمة في منطقة حوض الباسيفيكي، وسيخلق هذا الانسحاب قدراً من الفراغ الاستراتيجي الذي ستستثمره القوى الدولية الصاعدة. من جهة أخرى تتحدّث دراسات وأبحاث أكثر عن أزمة الرأسمالية الغربية وسقوط الغرب. كتاب «موت الغرب» للمؤلف الأميركي باتريك جيه بوكانن - وهو مفكر أميركي معروف، عمل في منصب مستشار لثلاثة رؤساء أميركيين - يبشر بنهاية الغرب ويتحدث عن موتين:
أ) «موت أخلاقي» بسبب السقوط الأخلاقي الذي ألغى كلّ القيَم التربوية والأسرية والأخلاقية التقليدية.
ب) «موت ديموغرافي وبيولوجي» يؤدي إلى النقص السكاني الذي أوجب استقدام المزيد من المهاجرين الشبان إلى «قارة العجائز». ما فجّر أزمات تُوصف بالعنصرية والكراهية وفوبيا الإسلام التي ولدت حركات قومية يمينية بيضاء تهدد بحروب أهلية خطيرة. في المقابل، يشهد العالم الثالث الهند والصين ودول أميركا اللاتينية انفجاراً سكانياً لم يسبق له مثيل.. ومع حلول عام 2050، سيبلغ مجمل نمو السكان المسلمين 4 مليارات إضافية من البشر! وهذه الأزمة المتدرّجة تستدعي الدراسة والحيطة وسيكون لها حتماً انعكاسات على المشرق الأوسع.

2- مشروع روسي
بناء أوراسيا التي تمتد من غرب آسيا حتى شواطئ المتوسط، والعمل على توظيف المنظمات العابرة للقوميات والأقاليم مثل شنغهاي والبريكس إطاراً داعماً لهذه الكتلة، ويزداد ثقلها بوجود أطراف مهمة مثل الصين والهند إلى جوار روسيا.

3‌- مشروع صيني
«مبادرة الحزام والطريق» وهو المشروع الأكبر لأنه يشمل 65 دولة يشكلون 62 % من سكان العالم. وسيمرّ في منطقة المشرق الأوسع من إيران، العراق، سوريا، تركيا (الطريق) ومن بحر العرب، باب المندب، البحر الأحمر، قناة السويس، البحر المتوسط (الحزام). إن تكاتف المشروع الروسي والصيني (دون نفي بعض التنافس بينهما) سيشكّل المشهد الإقليمي في منطقتنا خلال المرحلة المقبلة.

4 – مشروع «إسرائيل» الكبرى ومصير وجودها
التوجهات الدولية المستقبلية تقلق «إسرائيل» وتدفعها لتعمل بكل طاقتها لتكون ضمن البنية الجديدة. وما الدعم الأميركي والتطبيع العربي وتنامي العلاقات التجارية والتقنية الإسرائيلية – الصينية، وتنامي الحوار الدبلوماسي مع روسيا، إلا محاولة إسرائيلية لتوظيف البنية الجديدة القادمة بما لا يمسّ مصالحها الاستراتيجية. لكن المحصلة مرهونة بمدى قدرة دول المنطقة على بناء خطة استراتيجية لمواجهة الدور الإسرائيلي الإقليمي.
صياغة هوية جامعة تتجاوز الهويات الجزئية والفرعية، من أجل تخطّي حروب الهويات القاتلة


منذ تأسيس «إسرائيل»، نشأت بقوة وإرادة المجتمع الدولي. لكن هذه الدولة المدلّلة دولياً، باتت اليوم أمام مجموعة مخاطر واستحقاقات ترتقي إلى مستوى الخطر الوجودي على «إسرائيل» باعتراف مفكّريها وقادتها وسكّانها:
أولاً: الخطر الديموغرافي: فقد حذّرت دراسة بعنوان «دولة تل أبيب تهديد لإسرائيل» قام بها البروفسور في جامعة حيفا أرنون سوفير، من أن «إسرائيل» ستواجه قريباً مخاطر انهيارات داخلية تهدّدها أكثر من القنبلة الإيرانية والجيوش العربية، تتجلى في فقدانها السيادة على أطرافها في ظل اختزال ذاتها في «دولة تل أبيب» التي تستأثر بالموارد والقدرات المرتبطة بالمال والعمل والتربية والصحافة والثقافة، مقابل ضعف الضواحي.
ثانياً: خطر الهجرة المتزايدة لدى اليهود: فبحسب إحصاء أجراه معهد «داحاف» الإسرائيلي، 52% من الإسرائيليين يرغبون ولا يستبعدون الهجرة إلى دولة أخرى لتأسيس حياة دائمة فيها.
ثالثاً: فقدان القيادة الحكيمة والقوية في «إسرائيل»، وغرق رموز الحكم في مستنقعات الفساد والفضائح المالية والجنسية من اختلاس واغتصاب وتزوير.
رابعاً: التراجع العسكري الإسرائيلي رغم الدعم الأميركي غير المسبوق بالمال والعتاد والسلاح المتطور.
لكن هل يمكن إعادة ضخ مبادئ «الوطن اليهودي» وأيديولوجية «إسرائيل الكبرى» في كيان بات على شط التشتت، ونصفه يفكر بالهجرة؟

5 - التدمير الذاتي
في محاضرة ألقاها في إسرائيل من سنة البروفسور ماكس مانوارينج خبير الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات التابع لكلية الحرب الأميركية جاء فيها ما يلي: الجيل الرابع من الحرب يعتمد على أسلوب جديد... «ليس الهدف تحطيم المؤسسة العسكرية لإحدى الأمم، أو تدمير قدرتها العسكرية، بل الهدف هو: الإنهاك - التآكل البطيء لكن بثبات... فهدفنا هو إرغام العدو على الرضوخ لإرادتنا»... «الهدف زعزعة الاستقرار.. وهذه الزعزعة ينفّذها مواطنون من الدولة العدو لخلق الدولة الفاشلة...».
هذا ما شهدناه أحياناً من وجوه الربيع الدامي في منطقتنا، وهذا ما يُخطط لنا حتى نغرق في مشاريع التدمير الذاتي حتى نبقى ساحة مستباحة للإمبريالية تبيعنا بضاعاتها وسلاحها فنتقاتل به ونبقى في حالة عجز وتخلّف وتبعية نتيجة سياساتنا الخاصة أيضاً والتي صنعناها من حكم الاستبداد والجهل والتجزئة. فهل نعتبر ونبني دولة وطنية ديمقراطية حديثة تتكامل وتتساند مع جيرانها من أجل بناء كتلة مشرقية وازنة في السياسات الدولية؟

6 – صراع النفوذ الإقليمي والعالمي
مع أفول هيمنة القطب الواحد للعالم، وتسابق مشاريع دولية روسية – صينية لملء فراغ القوة في المشرق الأوسع، نطرح سؤال: أين القوى الذاتية والدول المحلية؟ وهل هي قادرة على لعب دور فعال بين صراع الأمم القوية؟
بعد سقوط الناصرية وتراجع الجامعة العربية بما تُمثل، غاب دور العرب الفاعل على الساحة الإقليمية والدولية. لكن من جهة أخرى نشهد صعود قوى إقليمية عظمى متمثّلة بإيران وتركيا اللتين تقومان بدورٍ مؤثر في المشهد الدولي. ودورهما هو نتيجة المنافسات الدولية وقد استفادا من الصراعات الأميركية – الروسية – الصينية فعززا قوتهما المحلية وامتدادهما في الإقليم. فدورهما لم يكن بحكم الوزن الجغرافي – السياسي فقط، وإنما اعتمدتا أساساً على الامتدادات الأيديولوجية في البنى السياسية المحلية في أكثر من بلد في الإقليم. وما نشهده الآن من مجابهة أميركية – إيرانية سيكون له نتائج وتداعيات على اللوحة الإقليمية الجديدة.
ستكون إيران من ضمن الدول التي ستتعزز مكانتها الإقليمية بحكم تلاقي المشروع الصيني والروسي عندها، ولعل الموقع الجغرافي لإيران وخياراتها الاستراتيجية هي التي مهدت الطريق لها لتكون حاضرة في البنى التنظيمية للمشروعين.
هذه التوجهات تستوجب على الطرف العربي والتركي أن يدركا التحولات القادمة بعيداً عن «الثقافة السياسية الغرائزية». كما أن صعود تركيا كـ «قوة إقليمية» سيؤهّلها إلى تشكيل «اتحاد إسلامي» تحت قيادتها، وهذا ما يثير «قلق» أطراف عربية منافسة. في الوقت نفسه تجري محاولات لاستنزاف إيران وكذلك تركيا لمنعهما من أن تصبحا قوة عظمى إقليمية، وقطع الطريق على عودة أمجاد الخلافة العثمانية والنزوع الإمبراطوري الفارسي.
لكن من أجل بلوغهما الهدف، مطلوب منهما بناء نظامهما بطريقة ديمقراطية تحقق العدالة والمساواة والتنمية لمواطنيهم وحل مشاكلهما العالقة مع الجوار المشرقي إلى جانب التعاون والتساند لتفعيل دورهما الإقليمي خاصة لجهة دعم ولادة الشريك العربي، لأن التعاون الإقليمي سيبقى أعرج لغياب دولة إقليمية عظمى في المشرق العربي.

7 - قضايا للتكامل
تواجه منطقتنا مسائل وتحديات متشابكة منها: أزمة المياه، طرق المواصلات في المشرق الأوسع (البرية والبحرية)، الغاز والنفط، الإرهاب، التغيير الديمغرافي الناتج عن «صفقة القرن» (توطين الفلسطينيين) أو عن الحروب المحلية (النازحون والمهجرون). هذه القضايا وغيرها تستوجب الحوار لأنه لا يمكن حلها إلا بالتعاون والتساند، ما يستدعي ضرورة التكامل وإيجاد بيئة مؤاتية لإبداع صيغ ومشاريع مشتركة تتوافق مع تحديات وروح العصر.

8 - هوية للمستقبل
قبل أن ندخل في تحديات التكامل العام، على القوى المعنية في المشرق الأوسع أن تسعى إلى بلورة رؤية لهوية مركبة تكاملية بعيدة عن أوهام الأيديولوجيا تنطلق من المشرق إلى العالم العربي وإقليم المنطقة المحيطة من إيران إلى تركيا وما يجاورهما. مسألة الهوية تستحق حلقات تفكير جديدة من أجل صياغة هوية جامعة تتجاوز الهويات الجزئية والفرعية، من أجل تخطي حروب الهويات القاتلة وتفتح باب التفاهم حول المصالح والأهواء المشتركة، وتعي أهمية التكامل في منطقة شكلت عبر التاريخ قلب العالم الذي يربط آسيا وأفريقيا والمتوسط، ما يؤهل للعب دور عالمي رائد من أجل تعزيز السلم بين الشعوب، وتحقيق تنمية مستدامة توفر للإنسان الرفاهية والحرية عبر صيغ التساند وبلورة مفهوم حضاري لهوية مركبة ذات أبعاد متعددة مترابطة من الخاص والمحلي والوطني والإقليمي والقاري والعالمي، لأن الإنسان من خلال وعيه يحقق التفاعل ضمن دوائر تصاعدية تنطلق من المتحد/ الجغرافي الصغير إلى المتحد/ الاجتماعي الأكبر. وهذا بالتالي يتطلب التصدي لتيارات الكراهية والعنصرية والإلغائية والانعزالية والديكتاتورية الموجودة داخل الجماعات والدول، وذلك من خلال: تنمية الوعي العلمي والقيم المشتركة والمصالح التكاملية، الالتزام بحق الاختلاف واحترام التنوع وابتكار صيغ من اللامركزية التي تحترم دور الدولة الوطنية الديمقراطية وتعددية الخصوصيات الثقافية، إجراء نقد ذاتي لتجارب الماضي وتحديات الحاضر وحل مشاكل الحدود من أجل بناء مستقبل مشترك يغلب الآتي الجميل على السابق بما فيه من عتمة وإضاءات. تجسيد المعنى الإنساني والرسالة الحضارية التي يحملها المشرق الأوسع من أجل إنقاذ البشرية جمعاء من الحروب والضياع وذلك عبر بناء أنظمة علمية مدنية ديموقراطية مقاومة لكل ظلم وهيمنة واحتلال.
فلنبدأ ببناء ذاتنا (في المشرق أولاً والعالم العربي) حتى يكون التكامل المشرقي الأوسع على صورتنا، خاصة أن المصلحة المشتركة والاعتماد المتبادل في هذا العصر أصبحا ضرورة وقوة فاعلة في السياسات الإقليمية والدولية لحل ومواجهة المسائل الداخلية في المنطقة والعالم. والتكامل المتوازن والفاعل هو الأقدر على لعب دور أساسي في مواجهة الهيمنة الأميركية -الصهيونية.
* كاتب وناشر لبناني