ما كاد يستتبُّ المقام لفريق ترامب المعني بالشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة الأميركيّة حتى انتعشَ فريق آل سعود في لبنان، وقويت نبرته وزاد عناده وعلا صراخه. وسبقَ زيارة سعد الحريري تسرّبُ خبرِ (تسرّبَ لي من أحد المدعوّين) احتفال تقيمه جمعيّة لبنانيّة طائفيّة أميركيّة (موالية لوليد جنبلاط) في واشنطن تكريماً لجيفري فيلتمان، ويحتلّ فيه جنبلاط موقع الصدارة كخطيب الحفل. كما سبقَ زيارة سعد إلى واشنطن هذا التحرّك المحموم لزيارات ديفيد ساترفيلد وغيره إلى لبنان في مسعى (خير؟) للتوسّط بين لبنان وإسرائيل. والإعلام اللبناني والرئاسات الثلاث من دون استثناء تحدّثت عن «وساطة» أميركيّة بين لبنان وعدوّه، ونبيه برّي يحظى بثقة حزب الله في هذه المفاوضات التي تديرها أميركا. الوسيط يكون عادةً على مسافة واحدة بين الأطراف (هذه العبارة أصبحت لازمة في خطاب السياسة الخارجيّة للنظام السعودي الذي لا يرفع هذا الشعار إلا عندما يشنّ حرباً على طرف داخلي). وهل مَن يصدّق، أو يريد أن يزعم أمام الناس، أن أميركا على مسافة واحدة بين لبنان وإسرائيل؟ والإيمان بوساطة أميركيّة محايدة سبقَ لبنان إليه ياسر عرفات ثم محمود عبّاس: الأوّل مات مسموماً بقرار إسرائيلي وموافقة أميركيّة، والثاني بات يستجدي اهتماماً أميركيّاً به بالرغم من بيعه كل ما كان لدى المفاوض الفلسطيني من أوراق—على تواضعها الجمّ منذ مغادرة المقاومة لبنان في عام ١٩٨٢. رحلة رئيس الحكومة إلى أميركا رافقها تجاهل تام لوزير الخارجيّة ولدوره. وكان رفيق الحريري يتعامل على أنه كان وزير خارجيّة لبنان بالرغم من وجود وزير للخارجيّة أصيل: وكان صهر الرئيس في الستعينيّات (فارس بويز) يعترض على تجاهله، فيما لم يعترض صهر الرئيس الحالي (جبران باسيل) على تجاهله التامّ في هذه الرحلة. لا، وقد تجاهل سعد الحريري في رحلته حتى سفير لبنان في واشنطن، مثلما كان لرفيق الحريري سفراء معتمدون له (غير سفراء لبنان الرسميّين) في عواصم الغرب. وكان رفيق الحريري يخشى، بسبب سريّته وبسبب تعارض ما يقوله في العلن مع ما يقوله في السرّ، من افتضاح أمر مؤامراته وتناقض أقواله. وفي أوّل لقاء لرفيق الحريري مع جورج دبليو بوش، طلب الحريري دعماً أميركياً ماليّاً، فما كان من بوش—وأمام جميع أعضاء الوفد—إلا أن سخر من الحريري وقال له: أنتَ صاحب ثروة كبيرة، كما أن الملك فهد صديقك (روى ذلك لي عضو في الوفد اللبناني). (في لقائه الثاني مع بوش، طلب رفيق الحريري من أعضاء الوفد الانتظار خارجاً، فيما لم يأخذ معه إلا أعضاءً خُلّصاً من فريقه).
يتعامل سعد الحريري مع السياسة على طريقة أبيه (أو على طريقة النظام السعودي كما كان يقول البطريرك صفير عن مسلك رفيق الحريري، بحسب رواية أنطوان سعد)، أي خارج ما يُسمّى الميثاقيّة وخارج الدستور وبعيداً عن مجلس الوزراء والنوّاب. طبعاً، تآمر رفيق الحريري المستمرّ وازدواجيّته ورياؤه تطلّبت سريّة ونفاقاَ وكذباً. وعلى هذا النمط، يسير سعد الحريري. يصطحب معه مستشاره الخاص، لا وزير الخارجيّة اللبنانيّة. لكن صمتَ باسيل عن هذا الخرق الفاضح مُلفت: باسيل يقيم الدنيا ويقعدها ويرفع شعارات المُشاركة حول تعيين حرّاس الأحراج لكنه قبلَ من دون اعتراض تجاهل رئيس الحكومة لوزير الخارجيّة الذي ينتمي إلى الطائفة الذي يعِد باسيل بحمل سلّم حقوقها على منكبيه. وهذا يعني إما أن جبران باسيل يحرص على المشاركة في القشور والأحراج فقط، أو أنه شريك ضمني للمشروع الأميركي الذي حمله سعد الحريري من واشنطن. هل صمت باسيل هو دليل رغبة في عدم الإفصاح عن موافقته على مواقف الحريري المستجدّة أم أنه نتيجة ضعف وخوف من إغضاب الإدارة الأميركيّة التي صفحت عن غياب لبنان عن مؤتمر البحرين؟
أحاطت بزيارة الحريري ظروف مريبة تتعلّق بموقف لبنان من دولة الاحتلال. وأصوات التطبيع مع الاحتلال (من فارس سعيد إلى البطريرك الماروني الذي خرق مقاطعة إسرائيل المُلزمَة بالقانون—والتي لم يتصدَّ لها حزب الله بسبب حرجه المرتبط بعقيدته الدينيّة) تنامت. قبول لبنان بوساطة أميركيّة بشأن «خلافه» مع إسرائيل هو سابقة أيضاً. ثم ألم يتعلّم لبنان من «منظمّة التحرير الفلسطينيّة» عندما قبلت بوساطة أميركيّة بينها وبين إسرائيل؟ هل يريد لبنان أن يعيد الكرّة؟ وهل موقف لبنان من إسرائيل هو نزاع حدودي—برّي أو بحري فقط؟ واختزال صراع لبنان مع إسرائيل (الذي بدأ رسميّاً منذ نشوء الحركة الصهيونيّة بالرغم من تواطؤ دولة الاستقلال ورموزها مع الصهيونيّة والدولة في ما بعد) بنزاع حدودي محض هو سابقة أيضاً. والصراع مع إسرائيل بدأ حول فلسطين، لكنه تطوّر لتنشأ للبنان أسبابٌ هائلة لصراعه هو مع إسرائيل، بسبب عدوانها واحتلالها وغزوها واجتياحاتها وقصفها وخرقها المستمر لسيادة لبنان. عنوان الوساطة الأميركيّة بين لبنان وإسرائيل يهدف إلى اختزال الصراع بنزاع حدودي محض، كي تفرض على لبنان بعده مفاوضات سلام-استسلام، تماماً كما في ١٧ أيّار المشؤومة. ولبنان في هذه المفاوضات لا يبدو أنه يثير مسألة احتلال إسرائيل لأراض لبنانيّة أو مسألة الاعتداءات، حتى لا نتحدّث عن موقف لبنان من فلسطين الذي لا يزال—نظريّاً على الأقل—مُطالباً بتحرير فلسطين وتنفيذ حق العودة («حق العودة» عند البعض في لبنان ليس إلا وجه آخر لطرد الفلسطينيّين من لبنان).
قبول لبنان بوساطة أميركيّة بشأن «خلافه» مع إسرائيل هو سابقة


والذي يزيد من الارتياب المشروع حول مؤامرة سلام سريّة بين لبنان وإسرائيل هو ما صدر قبل أيّام فقط عن الأمين العام للأمم المتحدة بشأن المفاوضات الثلاثيّة في الناقورة. فقد كتب غوتيريش إلى رئيسة مجلس الأمن حول طلب لبنان تمديد عمل قوّات «يونيفيل» أنه يجب تحقيق حالة «وقف دائم لإطلاق النار»، وزاد كلاماً جديداً عن «إيجاد حل طويل الأمد للنزاع». لكن هذه ليست من مهام الأمين العام للأمم المتحدة، وهذا التفسير الجديد للقرار ١٧٠١ لا يدخل حكماً في نطاق صلاحياته. كما أن إيجاد حل «طويل الأمد للنزاع» بين لبنان وإسرائيل يخرق التزام لبنان بمبادرة السلام العربيّة (المشؤومة) والتي تربط «الحل الطويل الأمد» بجملة من التنازلات الاسرائيليّة والانسحابات التي لم تتحقّق. لا، ويزيد من الشبهات بشأن ما يجري في الخفاء بين أطراف في لبنان والعدوّ الإسرائيلي ما ورد في الرسالة المذكورة للأمين العام، إذ إن غوتيريش شدّدَ على «سريّة الاجتماعات الثلاثيّة». وليس واضحاً سبب تشديد الأمين العام (أكثر أمين عام مطواع في اليد الأميركيّة منذ إنشاء منظمة الأمم المتحدة) إلا إذا كان ذلك مرتبطاً بتسريب خطاب قائد قوّات «يونيفيل» (من قبله هو) والذي تضمّن دعوة إلى السلام بين لبنان وإسرائيل. أو أن التشديد على السريّة سببه الإحراج الذي تسبّب به تناقض بيان الـ«يونيفيل» عن اللقاء الثلاثي وبيان قيادة الجيش. والاجتماعات تلك تجري بذريعة اتفاقية الهدنة، وبهذا فإنه لا دخلَ للـ«يونيفيل» بها على الإطلاق، كما أن العمل باتفاقيّة الهدنة بعد عقود من احتلال إسرائيل واجتياحاتها وعدوانها، يجعل من لبنان مهزلة المهازل بين الأمم قاطبة. ولماذا الدعوة إلى السريّة إذا كان ليس للبنان ما يخفيه في هذه اللقاءات؟ ولماذا يحقّ لصهاينة نيويورك الاطلاع على محاضر هذه اللقاءات المقيتة، ولا يحقّ للشعب اللبناني الاطلاع عليها؟ إن هذه الإشارة المشبوهة في رسالة الأمين العام (والتي كان ملؤها مناصرة الجانب الإسرائيلي والتركيز على خروقات مزعومة لحزب الله من دون الاعتراض على الخروقات الاسرائيليّة اليوميّة للبنان. والكلام عن خروقات إسرائيل لا ترِد إلا عرَضاً في تقارير الأمم المتحدة) تستدعي تحقيقاً علنيّاً في مضمون لقاء ٨ آب الذي استحدث موضوع السلام مع إسرائيل.
إن إشارة الأمين العام إلى ضرورة السريّة باتت تحتّم نشر المحاضر دوريّاً بعد كل اجتماع، لأن الشكوك باتت تزداد حول فحوى المداولات. ولنتذكّر أنه قبل سنوات الحرب، عندما كانت رئاسة الجمهوريّة وقيادة الجيش (في كل حقب الرئاسة حتى تسلّم إميل لحّود قيادة الجيش وإشرافه على تغيير عقيدته) على تواصل سرّي ومباشر مع جيش الاحتلال الاسرائيلي فيما كان يقصف ذات اليمين وذات الشمال في كلّ لبنان. ونحن نعلم اليوم عن التآمر في تلك الاجتماعات في الناقورة (قبل الحرب) ضد مصلحة لبنان وشعبه من خلال التقارير الأميركيّة الرسميّة التي أُفرجَ عنها عن حقبة الستينيّات والسبعينيّات. وتذكر المراجع العبريّة أن المندوب اللبناني في أوّل اجتماعات الهدنة في الخسمينيّات أدهشَ الاسرائيليّين عندما بادرهم بالترحيب قائلاً: نحن لسنا عرباً. نحن نكره الفلسطينيّين.
في ضوء هذه التطوّرات المشبوهة، لا بل في غضون ساعات من رسالة غوتيريش الغريبة، أتت زيارة سعد الحريري لواشنطن واستضافته لبومبيو في مزرعته (ألم يكن يكفي سعر المزرعة لدفع مرتبّات مؤسّسات الحريري؟). والحريري عدّلَ في تصنيف زيارته من رسميّة إلى خاصّة قبل ساعات فقط من وصوله إلى واشنطن، حيث لم يكن في استقباله إلاّ سفيرة لبنان في الأمم المتحدة والسفير اللبناني في واشنطن (الذي لم يحظَ بحضور أي لقاء من لقاءات الحريري). قد يكون التعديل ينبع من محدوديّة لقاءات الحريري، إذ هو لم يجُل في الكونغرس ولم يكن له حظوة اللقاء في البيت الأبيض (وإن تسرّبت أخبار عن لقاءات سريّة له مع بولتون، لكن لا شيءَ مؤكداً في هذا الصدد). لكن الإدارات الأميركيّة تعاقب وتكافئ زعماء وممثّلي دول العالم إما باللقاءات على مستوى عال أو منخفض أو من دون لقاءات بتاتاً. وباسيل جهد في إسعاد الإدارة الأميركيّة مرتيْن بحضوره مؤتمر «حريّات الأديان» (من قبل إدارة متعصّبة جاهرت بالرغبة في حظر دخول كل المسلمين) لكنه لم يحظَ بلقاء (وربما أغضب باسيل الإدارة في حضوره المؤتمر الأوّل عندما ندَّد بعنصريّة إسرائيل). زيارة الحريري سبقتها زيارة بومبيو إلى لبنان حيث استدعى إلى السفارة وليد جنبلاط ثم سمير جعجع، في تنصيب غير معلن لعماديْ سياسة محاربة حزب الله في لبنان (يسعى الشيخ سامي للفت النظر لكن نتائج الانتخابات الأخيرة حكمت عليه بالنسيان). وقد بدت نتيجة الزيارة بسرعة، إذ إن جنبلاط طلع بتصريح إسرائيليّة مزارع شبعا، فيما زاد جعجع من منسوب تصريحاته ضد حزب الله، محاولاً تصنّع معارضة تسوية الحكم—لكن من داخل الحكومة بالذات.
وفي لقاء مع عدد محدود من الصحافيّين في واشنطن، فاجأ الحريري الحضور بالتعبير عن رغبته في الارتقاء بالحالة مع إسرائيل من حالة «وقف الأعمال العدائيّة» إلى «وقف إطلاق النار». وهذا التصاعد المطرد بالعلاقة يذكّر ببيت أحمد شوقي: «نظـــرةٌ، فابتســـامةٌ، فســـلامٌ، فكــــلامٌ، فموعـــدٌ، فلقـــاءُ». وليس معروفاً عن الحريري ارتجاله للمبادرات، خصوصاً في موضوع دقيق مثل وضع الحدود الجنوبيّة. وعليك أن تكون عبيطاً أو متغافلاً كي تصدّق أن تصريحه هذا جاء من دون أمر (أمر، لا تنسيق ولا توارد خواطر ولا مناقشة، فالإدارات الأميركيّة خصوصاً في موضوع إسرائيل ومصلحتها لا تقبل الردّ أو المناقشة أو الاقتراحات).

«صفقة القرن»
إن هذه المبادرة الأميركيّة تأتي أيضاً في سياق «صفقة القرن»، وهي جزء من تنشيط الملف اللبناني على يد ديفيد شنكر (خرّيج اللوبي الإسرائيلي والمختصّ لسنوات في ذراعه الفكرية في الشأن اللبناني، والذي كان أرفع منصباً من فيلتمان في الإدارة الصهيونيّة لثورة «حب الحياة»). وبوادر نشاط شنكر هي المسؤولة عن حالة الحماسة الشديدة التي تسود الفريق الانعزالي في لبنان، والذي يتباهى بقرب سقوط عقوبات جديدة على لبنان. والتهويل والتهديد والتخويف والتلميح هي سلاح مألوف في هذه الإدارة بالذات، وقد خبرت تهديداتها وتهويلها حكومات فنزويلا وإيران وكوريا الشمالية وسوريا وغيرها. وترامب ينبذ (لأسباب عديدة) المباشرة في حروب وصراعات عسكريّة (وقد أشعل عدداً أقلّ منها مقارنةً بسلفه بوش وأوباما) لكنه يلجأ إلى أسلوب التهديد والوعيد. لكن سطوة التهديد تخفّ عندما يمرّ الزمن ولا يترافق العنف مع التهديد.
وقد ابتهج فارس سعيد (صوت الخارج في لبنان) أيّما اغتباط بتصريح الحريري في واشنطن، واعتبره دعوة إلى مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل. وسعيد، الذي جاهر بالدعوة إلى الصلح مع إسرائيل، أوردَ في حديث مع «إم.تي.في.» أن دعوة الحريري تندرج ضمن البند العاشر للقرار ١٧٠١. لكن مهما جهد سعيد لتسويغ المفاوضات المباشرة والصلح مع المحتل (يتناسى فريق التطبيع اللبناني أن إسرائيل، إضافة إلى احتلالها فلسطين والجولان، لا تزال تحتلّ أراضي لبنانيّة) فإن البند العاشر من القرار ١٧٠١ لا يتحدّث أبداً عن مفاوضات مباشرة بين لبنان وإسرائيل، لا بل هو يتحدّث بلطف عن مزارع شبعاً من دون وصف وضعها الحالي بالاحتلال. ثم هناك أراض تحتلّها إسرائيل خارج الخط الأزرق—الذي وضعه تيري رود لارسن تلبيةً لأطماع إسرائيل.

الحريري لا يزال يحاول التوفيق بين ضرورات البقاء في السلطة وأوامر الحكومتيْن اللتيْن ترعيان حكمه


تحسّن وضع الحريري السياسي بعد تحريره من الأسر في الرياض، حيث نعلم اليوم أنه رُبط في كرسي، وتعرّض للصفع والضرب المتكرّر والإهانات (الشتم على أنواعه). لكن الحريري، يرفض الحديث عن ظروف اعتقاله وإجباره على الاستقالة من رئاسة الحكومة (وهذه سابقة لم يسبق الحكومة السعوديّة إليها أي حكومة أخرى في تاريخ الجمهوريّة اللبنانيّة). لا بل هو قال من واشنطن إن أحداً لا يجبره على فعل شيء، وطبعاً لم يجرؤ الإعلاميّون العاملون والعاملات في منظومة الإعلام الخليجي على سؤاله عن اعتقاله في الرياض. ينسى الحريري أن اعتقاله وإهانته لا يزالان ماثلين في أذهان العالم مهما أراد لنا ،ن ننساهما حفاظا على صورته كرئيس صُوَري لحكومة لبنان. لا، والحريري يُمعن في إذلال نفسه عبر إطراء الرجل الذي أذلّه والتنويه بسياساته الحكيمة نحو لبنان. حظي الحريري بتعاطف عالمي ومحلّي في محنته (حتى ان هذه الجريدة، لأسباب لم تصلني، تعاطفت معه في محنته). لكن الحريري لا يزال يحاول التوفيق بين ضرورات البقاء في السلطة (وهذه الضرورات يحتّمها تدهور وضعه المادّي والسلطة في لبنان تدرّ على صاحبها في موقعها المال الوفير) وبين أوامر الحكومتيْن اللتيْن ترعيان حكمه، أي السعوديّة وأميركا.
وتعلم الحكومة الأميركيّة أن الحريري ليس في وضع يؤهّله شنّ حرب ضد حزب الله. لكن سياساتها الـ«شنكريّة» تعتمد على عناصر تتوزّع بين حاكم المصرف المركزي وقائد الجيش والحريري وجنبلاط مع ما تبقّى من ١٤ آذار. لكن الحكومة الأميركيّة تعلم أن ورطتها الكبرى تكمن في عدم قدرتها على شنّ حرب اقتصاديّة على لبنان، لأن تدهور الوضع السياسي والأمني ينعكس سلباً على استثماراتها الأمنيّة والاستخباريّة والسياسيّة في لبنان. وناهبو لبنان وأصحاب المليارات والمصارف هم جنود الحكومة الأميركيّة (غير) المجهولين. ولا يمكن لأي إدارة أميركيّة أن تلحق الضرر بهؤلاء الذين يخدمون مصالحها وينفّذون أوامرها بحذافيرها (في مقابلة قبل أيّام، قالت الإعلاميّة منى صليبا على شاشة «إم.تي.في.» إن الدليل على أن المصارف في لبنان هي في أيدٍ لبنانيّة هو في تنفيذ المصارف للأوامر الأميركيّة—هذه هي السيادة عند فريق معاداة المقاومة، بمدى تنفيذ لبنان لأوامر الحلف الأميركي-الإسرائيلي).
سيزور ديفيد شنكر لبنان قريباً جداً في أوّل زيارة له كمساعد وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى. وهو كان قد تسلّم ملفّ لبنان في وزارة الدفاع في عهد بوش، ويعتبر نفسه مختصّاً في شأن الجيش اللبناني. وإعلانات المساعدات الأميركيّة للجيش توالت هذا الأسبوع في خبر مُطنطِن كعادته (من قبل الجيش ومن قبل السفارة الأميركيّة، والحكومة الأميركيّة تُلزم الجيش اللبناني بالطنطنة لوصول المساعدات العسكريّة الأميركيّة الهزيلة له كثمن لتلقّيها، وقيادة الجيش تبالغ أيّما مبالغة في وصول هذه المساعدات التي تساوي صفراً في الدفاع عن لبنان، عبر إرسال قادة كبار من الجيش للترحيب بالمساعدات مهما صغرت، على شكل مطارق أو رصاص مسدسات أو كل ما لا يزعج العدوّ الإسرائيلي على أرض فلسطين وأرض لبنان). والحكومة الأميركيّة تكذب على الشعب اللبناني في تقدير ثمن هذه المساعدات: ففي هذا الأسبوع بالذات (بالتزامن مع زيارة الحريري) أعلنت عن وصول ١٥٠ مركبة «هم.في» وقالت إنها بقيمة ٦٠ مليون دولار (ما قيمة هذا المبلغ، حتى لو صحَّ وهو كاذب، مقارنة بالـ٤ مليارات دولار التي تتلقّاها إسرائيل سنويّاً من أميركا؟). والمركبات التي يتلقّاها الجيش هي في أغلبها مستعملة في الحروب وتمنحها الحكومة الأميركيّة لجيوش أجنبيّة، خصوصاً إذا قدمت أو إذا أثبتت عدم صلاحيتها في الخدمة لأنها تحتاج إلى مزيد من التصفيح (وهذا ما حدث في العديد من السلاح الأميركي الذي تخلّت أميركا عنه لصالح جيوش حليفة بعد حرب العراق). ونستطيع في مدينتي مودستو أن تبتاع عربة «همفي» بعشرة آلاف دولار فقط، لكن تقدير السفارة الأميركيّة للمساعدة الأخيرة مبالغ فيه كثيراً للأهداف الدعائيّة الواضحة حول تسليح الجيش: وأميركا تصرّ على احتكار تسليح الجيش، وتصرّ أيضاً على منع تسليحه الفعّال من أي جهة أخرى في العالم، ولبنان يرضخ ذليلاً لذلك.
ختم سعد الحريري زيارته بإعلان مبادرة ترفيع العلاقة مع العدوّ، كما أنه أعلن مشاركة لبنان لأميركا في معركتها ضد الإرهاب. لكن تعريف أميركا للإرهاب يختلف—أو يجب أن يختلف—عن التعريف اللبناني الذي لا يزال يلحظ وجود مقاومة لاحتلال إسرائيل وعدوانها. والحريري الذي تعهّد للنظام السعودي بما لا طاقة له على تنفيذه—وعوقبَ بسبب ذلك، قد يكون قد تعهّد لأميركا بما لا طاقة له على تنفيذه، والعقاب الأميركي قد يكون أسوأ من عقاب محمد بن سلمان للحريري. عندها، قد يشهر فارس سعيد إسلامه على المذهب الحنبلي—لعلَّ وعسى.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)